وأما إذا كان فعل للامتداء وحرارة البطن فهو فعلان بسكون العين مثل: شبع فهو شبعان، وعطش فهو عطشان، وصدي فهو صديان، وروي فهو ريان وسكر فهو سكران. وأما الثالث فهو فعل بضم العين. فقد تقدم الكلام على اسم فاعله.
فهذه القاعدة في أبنية أسماء الفاعلين من الصيغ الثلاثة، لا ما ادعاه وأطلقه.
حول المعاظلة اللفظية
قال في المعاظلة اللفظية: ومن ذلك بعضهم:
وفبر حربٍ في مكانٍ قفر ... وليس قرب قبر حربٍ قبر
فهذه القافات والراءات كأنها سلسلة في تتابعها، ولا خفاء بما في ذلك من الثقل.
وهكذا ورد قول الحريري في مقاماته فقال:
وازورّ من كان له زائرا ... وعاف عافي العرف عرفانه
أقول: أما البيت الذي ذكره أولا فهو معذور فيه، وكل أرباب المعاني والبيان ذكروه ونصوا عليه ولم يقرنوه بقول الحريري. وهذا من تعسفه وتعنته. فإن البيت الذي للحريري ما فيه غير كثرة الجناس، وهذه صناعة فكيف يعدها عيبا. وإن كان كذلك فكل جناس تردد في بيت أو فقرة يكون معاظلة على رأيه وليس كذلك. ولو لمح السر في ثقل ذلك البيت، لما قرنه بقول الحريري. وسبب الثقل في ذلك البيت، ما هو تكرار الحروف ولا بد فإن ذلك جزء علة، وإنما هو تقديم الحروف بعضا على بعض، مع التكرار في قوله: قرب قبر. حتى إن هذا البيت اشتهر بأن الأذكياء يمتحنون بإنشاده ثلاث مرات متواليات على نفس واحد، فما يكاد يسلم أحد من التخبيط فيه.
والسبب في ذلك تقديم بعض الحروف على بعض وتأخيرها. وليس هذا مخصوصا بهذا البيت، بل بكل ما ترددت حروفه متقدمة ومتأخرة.
وهذا ابن سناء الملك من أرق المتأخرين شعرا وألطفهم قد جاء له مثل هذا في قوله:
وصفتك واللاّحي يعاند بالعذل ... فكنت أبا ذرٍ وكان أبا جهل
له شاهدا زورٍ من النهي والنّهى ... عليك ومن عينيك لي شاهدا عدل
حبيبة هذا القلب من قبل خلقه ... يحبك قلبي قبل خلقك بل قبلي
انظر البيتين المتقدمين ما أرفهما وما أثقل هذا الثالث، وما سببه غير تقديم الحروف تارة، وتأخيرها تارة في قبلي وقلبي، وقلب وقبل. وأما بيت الحريري فما فيه غير تردد حروف جناسه، والتقديم والتأخير معدومان فيه. ألا ترى أن العين قبل الفاء في المرتين والعين قبل الراء والراء قبل الفاء في المرتين وهذا ظاهر.
وهذا شرف الدين ابن الفارض ﵀ في تائيته يأتي بالجناس في البيت كثيرًا مرددا كقوله:
أيا زاجرا حمر الأوراك تارك ال ... موارك من أكوارها كالأريكة
وليس فيه من التعاظل والثقل على اللسان ما في قوله:
ولا حلم لي في حمل ما فيك نالني ... يؤدي لحمدي أو لمدح مودّتي
وعاد دعاوي القيل والقال وانج من ... عوادي دعاوي صدقها قصد سمعة
وكلّفتها لا بل كفلت قيامها ... بتكليفها حتى كفلت بكلفتي
وما السبب في ذلك غير تقديم الحروف في هذا تارة، وتأخيرها تارة، وسردها على الترتيب في الأول من غير تقديم وتأخير فاعرف ذلك.
وأنا ما أنكر أن كثرة التجنيس المتردد في البيت أو الفقرة لا يخلو من ثقل ما، وإنما شاححته في كونه جعل قول الحريري من باب البيت الذي كأنه رقى العقرب، أو بعض العزائم الروحانية، وقد أكثر الناس من الاستشهاد به وصار في قلق الألفاظ مثلا. وتقعير الألفاظ معلوم وقد ذكره الناس. من ذلك أن عيسى بن عمر النحوي أو أبا علقمة النحوي سقط عن حماره وأغمي عليه، فلما أفاق ورأى اجتماع الناس عليه، قال: ما لكم تكأكأتم عليّ تكأكؤ على ذي جنة، افرنقعوا عني يرحمكم الله فقال بعضهم: دعوه فإن عفريته يتكلم بالهندية.
ومن ذلك خبر أم الهيثم مع المرأة التي شكت إليها ألما في ظهرها، فسألتها عن السبب فقالت: كنت وحمى بدكة، فحضرت مأدبةً، فأكلت حيزبة من فراص هلعة فاعترتني زلخة. فقالت لها أم الهيثم: إنك لذات خزعبلات وقد قال رسول الله ﷺ: إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون المتشدقون.
هذه الألفاظ كلها يراد بها المتنطعون في الكلام. فالثرثار من قولهم عين ثرثارة إذا كثر ماؤها، والمتفيهق من تفيهق الغدير إذا امتلأ، والمتشدق الذي يفتح شدقيه.
من أنواع المعاظلة
1 / 39