وكتبت بقدوم ركاب مولانا السلطان خلد الله ملكه من الحجاز الشريف سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة لمولانا ملك الأمراء بالشام المحروس أعز الله أنصاره: ضاعف الله نعمة الجناب العالي وسره بما عطر الوجود من أنباء سلطانه، وأبهجه بعود مليكه بعد بلوغ أوطاره إلى أوطانه، وملأ سمعه بما ملأ قلب الإسلام فرحا حتى فاض قليبه مسرة بغير أشطانه.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تطوى على سلام يتعوذ البدر بكماله من نقصانه، وتنشر عن ثناء رقص الحمام بأسجاعه أعطاف أغصانه، وتوضح لعلمه الكريم أنه سطرناها بعد ورود ركابنا الشريف إلى مستقر ملكه بقلعة الجبل التي حللنا مغناها، وضوأنا بنير وجهنا الشريف أفقها وقد كانت كالألفاظ المبهمة فلما حللناها ظهر معناها، ووردناها وهي أشد شوقا إلينا من الرياض الذاوية إلى الغمام، وأعظم كلفا من المشوق بنسمات الحمى وسجعات الحمام، وأكثر تطلا من الساري في الظلام إلى طلعة البدر التمام، فزينا سماءها، وجلينا ظلماءها وبللنا غلة أشواقها، وفككنا يد الوحشة التي أخذت بأطواقها. هذا والظفر نزيل جناب جنائبنا، والنصر خادم ركاب ركائبنا، والسعود سائرة بين أيدينا، والوجود، بالتأييد من سائر الجهات ينادينا، والبروق قد بعثت في الآفاق ملطفات البشائر مخلقة، والأولياء قد حفت بركابنا فما قصرت عنها سوابق نعمنا لما رأيناها محلفة.
وقد قضينا بحمد الله ومنه مناسك الحج، ورفعنا صوتنا بالنداء وأكفنا بالندى فرأى الناس كيف يكون العج، والغيث كيف يكون الثج، ونفحنا من سرانا بنار البرق وفحمة الدجى في ضرم، وعطفنا من مكة شرفها الله إلى المدينة أعزها الله فما سرنا من حرم إلا إلى حرم. فنلنا بفضل الله تعالى ما أميناه وأملناه، وأدينا الأمانة للشوق في التملي بالحجرة الشريفة كما حملناه، وشافهنا ذلك المقام الشريف بالسلام عند الوصول إلى السول، وخلونا به فما كان بيننا وبين الرسول رسول، فالجناب العالي يأخذ حظه من هذه البشرى التي ابتهج بها الإسلام، وترنحت لها أعطاف المنابر وعددت هباتها أنامل الأعلام، ونطقت بمحامدها حتى أفواه المحابر بألسنه الأقلام. ولا يكلف الرعايا في هذه البشرى شيئًا لتكون القربة بريئة من الشوائب، خلية من المعائب، فإن الصواعق تكدر جود السحائب، والملل ينغص وصل الحبائب.
والله يبقى الجناب لهناء نسمعه نغماته المطربة، وثناء تترنح له أعطاف الطروس وتترنم له ألسنة الأقلام في أيدي الكتبة المعربة بمنه وكرمه.
وغالب ما أنشئه أنا إنما آتي به ملزوما، وخطبة هذا الكتاب ملزومة.
قال في اللزوم أيضًا: وقد ورد للعرب شيء من ذلك، فمما جاء منه قول بعضهم في أبيات الحماسة:
إن التي زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوىً لها
وساق الأبيات المشهورة.
أقول: ليس من اللزوم هذا في شيء، وإنما القافية اللام والهاء صلة. ألا ترى أنه لو قال في بعض قوافيها: أقرها أو أصمها لما جاز ذلك. وهذا النوع كثير في شعر العرب وليس هو من اللزوم كقول كثير عزة:
خليليّ هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم انزلا حيث حلّت
وهي قصيدة طويلة، القافية فيها اللام، وأبيات الحماسة التي لعمرو بن معد يكرب:
ولما رأيت الخيل زورا كأنّها ... جدال زرعٍ أرسلت فاسبطرّت
الأبيات.
القافية فيها الراء. على أن ابن الأثير جعلها من باب اللزوم، وهذا أقرب إلى اللزوم من الأول. ولو أورد هذه وادعى أنها من اللزوم لكان له بعض شبهة. فإن أبا تمام وغيره يرون أن القافية هنا التاء. ونظم أبو تمام قصيدة تائية على هذا. وهي:
نسائلها أيّ المواطن حلّت ... وأيّ ديارٍ أوطنتها وأيّت
وكذلك تائية شرف الدين بن الفارض نظم السلوك، والأخرى القصيرة، والمحققون لا يجيزون ذلك ويعيبونه. وأبيات سلمى بن ربيعة شاعر الحماسة:
حلّت تماضر غربةً فاحتلّت ... فلجا وأهلك باللّوى فالحلّت
أبيات طويلة لم يجعل رويها غير اللام.
وكذلك قول سليمان بن قتبة العدوي من شعراء الحماسة:
مررت على أبيات آل محمدٍ ... فلم أرها كعهدها يوم حلّت
وفي الحماسة من هذا النوع كثير. أما أبيات الحماسة:
وحربٍ يضجّ القوم من نفيانها ... ضجيج الجمال الجلّة الدّبرات
1 / 36