فمهلا أيها الموفي على علمه النافث بسحر قلمه، أتظن منزلتك في البلاغة تخفى ومهيعها لا حب. ومنزعها بالعقول لاعب. أتسفل وقد ترفعت، أو تخفى وقد تلفعت. عرفناك يا سوده، وشهرت حلة عطارد بالملاحة والجوده.
وقوله: والصبح لا يتمارى في إسفاره، السجعتين. مأخوذ من قول أبي الطيب:
وليس يصح في الأفهام شيءٌ ... إذا احتاج النهار إلى دليل
ومن قول الغزي:
فلا تبغ برهانا على مكرماته ... طلابك برهانا على الصبح بارد
وقوله: وقد علم أن العرق يعرف بغصنه مأخوذ من قول أبي الطيب:
أفعاله نسب لو لم يقل معها ... جدّي الخصيب عرفنا العرق بالغصن
على أن المتنبي أخذه من البحتري حيث يقول:
لست أعتدّ للفتى نسبا ... ما لم يكن في فعاله نسبه
ومن قول ابن الرومي:
كدأب عليٍ في المواطن جده ... أبي حسنٍ والغصن من حيث يخرج
وقد نقلت أنا هذا المعنى إلى الغزل، فقلت في مليح رأيته في طاقة:
رأيت في طاقةٍ كالبدر فتى ... فقلت من تحت هذا البانة النضره
قالوا حكمت وما أبصرت قامته ... فقلت: إني عرفت الغصن بالثمره
قال: ونفائس هذه العقود لا تبرزها إلا أنفاسه، فدررها لفظه، وسلوكها قرطاسه ثم قال ومن هذا الباب قولي أيضًا وهو ألفاظ كخفق البنود وزأر الأسود، ومعان تدل بإرهافها أنها هي السيوف وأن قلوبا نمتها هي الغمود، فيخالها المتأمل حومة طعان أو حلبة رهان.
أقول: ما طبق في هذا المفصل على المفصل، فإنه شبهها بخفق البنود وزأر الأسود. فأي مدخل في هذين لحلبة الرهان فيما بعد ولم يتقدم للخيل ذكر. والتناسب أن يقول: حومة طعان، وغيل ليوث، وجلاد فرسان. ومثل هذه الأوصاف لا تكون في شيء من الكلام، إلا أن يوصف بذلك كلام فيه تهديد وتقريع أو إرهاب عدو أو ما جرى مجراه.
ألا ترى ما أحسن قول البحتري:
عتابٌ بأطراف القوافي كأنه ... عتابٌ بأطراف القنا المتكسر
ولا بأس بإيراد شيء من كلام القاضي الفاضل ﵀ في وصف المراسلات الواردة، لتعلم أيها الواقف على هذه الأوراق كيف يكون التقريظ.
فمن ذلك قوله: وصلني كتابه فوصلني منه ما وصلني، وعرفت من بلاغته ما جهلني، وشربت من بحر كلامه ما شربني وأكلني، وعلوت به قدرا على أنه عن صهوة الكلام استنزلني. فإنها بدائع، ما سر البلاغة قبلها بذائع، ووقائع خاطر صفت صفاتها فهي التي رقته وروقته الوقائع، وغرائب سهلت وجزلت فتارة أقول جرأة نبع وتارة أقول جرية نابع. قد ضمن الدر إلا أنه كما قال أبو الطيب كلم، وأحيى حي الشوق إلا أنه كما قال أبو تمام لو مات من شغله بالبين ما علم. ففديت يدها وقد مدت ظلا من الخط كاد يقصر ظلا من الحظ، ولله قلمها الذي طال وأناف فما كأنه تحيفه القط قط.
وقوله: وما أحسب الأقلام جعلت ساجدة إلا لأن طرسه محراب، ولا أنها سميت خرسا إلا قبل أن ينفث سيدنا في روعها رائع هذا الصواب، ولا أنها اضطجعت في دويها إلا ليبعثها ما ينفخ فيها من روحه في مرقدها، ولاسودت رؤوسها إلا لأنها أعلام عباسية تناولتها الحضرة بيدها، لا جرم أنها تحمي الحمى، وتسفك دما وتحقن دما وتتشح بهايده عنانا، ويرسلها فيعلم الفرسان أن في الكتاب فرسانا، ويقوم الخطباء بما كتبت فتعلم الألسنة أن في الأيدي كما في الأفواه لسانا، ولقد عجبت من هذه الأقلام تحز ألسنتها قطعا فتنطق فصيحه، وتجدع أنوفها بريا فتخرج صحيحة، وتجلى مليحه، وما هي إلا آية في يد سيدنا البيضاء موسويه، وما مادتها في الفصاحة إلا علوية ولولا الغلو لقال علويه.
وقوله: ولو ادعى سحر البيان أنه يقضي أيسر حقوقه، ويثمر ما يجب من شكر فروعه وعروقه، لكنت أفضح باطل سحره، وأذيقه وبال أمره، وأصلب الخواطر السحارة على جذوع الأقلام، وأعقد ألسنتها كما تعقد السحرة الألسن عن الكلام.
1 / 27