كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وكان يعجب؛ أيستطيع الحاكم أن ينام؟! أتستطيع أصابعه هذه أن يهدأ لها ضمير؟! وما هي إلا أيام؛ حتى رأى في وجوه الذين يقومون بالتعذيب علامات لم يكن قد تعرف عليها أول الأمر، وكيف لإنسان أن يرى على وجه وحش قسمات آدمي ويتعرف عليها؟ علامات لم يشهدها على وجوه بشر قبل اليوم.
لقد تغيرت ملامح البشرية في وجوههم؛ انقلبوا إلى جنس من المخلوقات غريب عن الأجناس التي يعرفها الكون ولا يألفها الناس؛ نوع من المخلوقات لا هو إنسان ولا هو حيوان، ولم يستغرب هذا الذي تبينه؛ فالإنسان لا يستطيع أن يصب هذا العذاب جميعه على مخلوق آخر، إنسانا كان هذا المخلوق أو كان حيوانا.
والحيوان حين يهاجم الفريسة لا يقدر أنها إنسان أو هي حيوان، وإنما يرى فيها طعامه وهو يريد أن يأكل، أو يرى فيها عدوه وهو يدافع عن نفسه، فالحيوان المفترس المتوحش طبيعي ومعقول في كل هجوم يقوم به وعمله جميعه له مبرره ومعقوليته، فما هذا الجنس إذن الذي يعمل في هذه السجون؟ وأين صنعه العهد؟ وكيف ركبه؟ ومن أي مادة تكون هيكله وضميره؟ إن المتفرس في وجوههم يرى مادة جديدة من المخلوقات يشك كثيرا أن تكون يد الرحمن قد مستها. إنما هم كالحاكم الذي يأمرهم سرطانات بشرية، خلايا تفجرت من طين بلا روح، ومن شر بلا خير، ومن مادة متوحشة عجنها إبليس، وخلا تركيبها من ضمير أو قلب أو شعور.
مر بأسامة شهر وثان، وأوشك الثالث أن يكتمل، فإذا لغط يشب في السجن، وهمهمات وجمجمة، وهمس يفضي إلى همس، ورءوس تميل في براءة، وتعتدل في أسى وجزع. إنها حرب يونيو، وفتحت أبواب السجون لا لتخرج أحدا، وإنما لتبتلع آخرين عرف منهم أسامة كثيرين. ورآهم وهم يجلسونهم القرفصاء فلا تحتمل سيقانهم، فأغلبهم جاوز الشباب وأصبح يتوكأ إلى الشيخوخة، وما تحتمل سيقانهم ما يريدونهم عليه، ولكنهم جلسوا القرفصاء، ورفعوا أيديهم فوق رءوسهم كقرود يدربها عفريت من الجن.
الوجوه غير البشرية وغير الحيوانية فيها رعب، وفيها حيرة وفيها جزع؛ إنها تخاف من المسجونين. المسجونون عزل وبلا سلاح، وها هم أولاء جالسون القرفصاء، وأيديهم فوق رءوسهم، والسجانون بيدهم الأسواط، وبيدهم أدوات التعذيب الكهربائية والحديدية، وبيدهم دائما الأسلحة النارية والمدافع السريعة الطلقات.
ولكن المسلحين بآلات التعذيب، وبالأسواط وبالبارود والمدافع، يخافون من هؤلاء العزل الجالسين القرفصاء والواضعين أيديهم فوق رءوسهم.
أهو موقف الحق الأشم أمام الظلم الخسيس؟ أم أن الخلايا السرطانية، من أعوان السرطان الأعظم، قد أصابتها روح من البشرية ألقتها إلى نفوسهم أنباء الحرب؟ لا أحد يدري! •••
مرت أسابيع قلائل بعد الخامس من يونيو، وأفرج عن بعض المسجونين، وكان أسامة من بينهم.
Неизвестная страница