وراشد يعتبر الحياة عملا ومتعة، وهو يمازج بينهما في مقدرة بارعة، فلم يكن عجيبا أن يصحب زوجته إلى باريس. كان راشد يريد أن يستغني بزوجته عن كل نساء العالمين؛ ولهذا كان يريد فيها كل نساء العالمين.
لم تكن خديجة تتصور أن ترى هذا الذي رأته في فرنسا، وكان أبعد شيء عن ذهنها أن ترى هذا الذي رأته مع زوجها بالذات؛ فالأيام القليلة التي قضتها معه في بيته في مصر طالعتها منه مهابة لم تر في حياتها رجلا يتمتع بها، فحديثه أمر وإن تسربل بالرجاء، ورأيه نهائي وإن تزيا بالتواضع، نوع من المهابة لا يعرفه إلا صاحب الموهبة الكبيرة التي تجعل صاحبها كبيرا.
وفي الباخرة إلى باريس: تعرفين أنني عشت سنوات بلا زواج؟ - نعم. - كان طبيعيا أن أعرف نساء أخريات . - ما دام قبل الزواج، فهذا شأنك. - طبعا أنا لا أستأذن منك عن شيء صنعته في الماضي. - فلماذا تخبرني؟ - لا أريد أن أخفي عنك أولئك اللواتي عرفتهن في فرنسا. - أتريدهن أن يكن صديقات لك وأنت متزوج؟ - اسمعي يا خديجة، أنا في صداقاتي الفرنسية لم أكن أعرف إلا فتيات الملاهي. - إذن؟ - أنا أريد منهن أن يكن تسليتك في فرنسا. - إذن؟ - سنذهب إلى الأماكن التي يرقصن فيها، وسيقبلن علي وقد يقبلنني. - يقبلنك؟! - وماذا يهمك؟ - لا أريد. - كنت أستطيع أن أخفي عنك هذا، وأذهب بك إلى أماكن أخرى، وأزورهن دون علمك؟ - لا بأس، فلنذهب إليهن. - سيصبحن أداة تسلية لك. - أنت عندي الآن كل نساء العالم، وستجدين أنت عندي كل نساء العالم، وأنا لا أحب أن أعد بأشياء سأنفذها، فإني أحب أن يكون التنفيذ هو الوعد، وتحقيقه في وقت معا.
وكان عند الوعد والتنفيذ.
ورأت فرنسا، رأت منها باريس وغير باريس.
كانت في خيالها مسرح أحداث الروايات، ومعاني حب، وحدائق هوى، ونسمات قصص لبلزاك ودوديه وفلوبير وغيرهم، وكانت في أنحاء خيالها رؤى مجنحة لا يحيط بها تعريف واضح، كانت تبدو في خفي الوعي منها أحلاما يشملها ضباب فهي بلا وضوح، وتكسوها أستار شفيفة فهي في نفسها عميقة ولكن بلا معالم، موجودة ولكن بلا تثبت، سماوية أحيانا لعوبا أحيانا أخرى، أو أرضية مسرفة في عمق الواقع لما صنعه بها زولا وفلوبير وستندال والآباء الأوائل للواقعية الوليدة.
ثم رأتها وغاص بها زوجها في عميق حناياها، فازداد في عينيها جمالها ولم ترفض نفسها فيها، فهي واقعية إن أسرفت في الفجور، فهي تعنى في الوقت نفسه بتجميل هذا الفجور حتى يصبح نوعا من المتع البشرية التي تلتئم مع طبيعة الحياة في باريس، لا ترفضها باريس ولا من يزور باريس، حتى إذا خرجت عن باريسها هذه أصبحت تهتكا تعافه النفس وترفضه وتحتقر كل من يلم به.
رأت الغواني اللاتي كن صويحبات زوجها، وقبلن زوجها أمامها، فلم تحس لذعة غيرة في قبلهن.
لم تحس أن اللواتي يقبلنه نسوة عرفهن، وإنما أحست أن ماضيه هو الذي يقبله. وكانت قد بدأت تحب زوجها، فهي تحب أن يرضى عنه ماضيه كما يرضى عنه حاضره، وكما ترجو أن يرضى عنه مستقبله.
والغريب أن فتاة منهن طلبت أن تجلس معها في جلسة خاصة، كانت قد أحست من لقاء هذه الفتاة بزوجها أنها أقربهن إليه.
Неизвестная страница