نور الهدى وظلمات الضلال في ضوء الكتاب والسنة
نور الهدى وظلمات الضلال في ضوء الكتاب والسنة
Издатель
مطبعة سفير
Место издания
الرياض
Жанры
رسائل سعيد بن علي بن وهف القحطاني
نور الهدى
وظلمات الضلال
في ضوء الكتاب والسُّنَّة
تأليف الفقير إلى الله تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
Неизвестная страница
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
فهذه رسالة في «نور الهدى وظلمات الضلالة»، بيّنت فيها بإيجاز نور الإسلام، والإيمان، والتوحيد، والإخلاص، والسُّنّة، والتقوى، كما بيّنت ظلمات الكفر، والشرك، والنفاق، وإرادة الدنيا بعمل الآخرة، والبدعة والمعاصي، وكل ذلك مقرونًا بالأدلة من الكتاب الكريم، والسنة المطهرة.
ولا شكّ أن الله ﷿ أنزل القرآن الكريم على محمد ﷺ ليخرج الناس من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى (١)، قال الله ﷾: ﴿الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (٢).
_________
(١) انظر: جامع البيان عن تأويل آيات القرآن، للطبري، ١٦/ ٥١٢.
(٢) سورة إبراهيم، الآية: ١.
1 / 3
وقد قسمت البحث إلى سبعة مباحث، وتحت كل مبحث مطالب، وتحت كل مطلب مسالك على النحو الآتي:
المبحث الأول: النور والظلمات في الكتاب والسنة.
المبحث الثاني: نور التوحيد، وظلمات الشرك.
المبحث الثالث: نور الإخلاص، وظلمات إرادة الدنيا بعمل الآخرة.
المبحث الرابع: نور الإسلام، وظلمات الكفر.
المبحث الخامس: نور الإيمان، وظلمات النفاق.
المبحث السادس: نور السنة، وظلمات البدعة.
المبحث السابع: نور التقوى، وظلمات المعاصي.
وأسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلا أن يجعل هذا العمل القليل مباركًا خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به، وينفع به كلّ من انتهى إليه، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيّد الناس أجمعين نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف
حرر يوم الأربعاء الموافق ٢٨/ ١٠/١٤١٩هـ
1 / 4
المبحث الأول: النور والظلمات في الكتاب والسنة
المطلب الأول: النور والظلمات في الكتاب الكريم
جاء في كتاب الله ﷿ ذكر النور والظلمات في آيات كثيرة، وهذا فيه دلالة على الترغيب في العمل لاكتساب النور، وسؤال الله ذلك، والترهيب من الظلمات والاستعاذة بالله من ذلك، ومن هذه الآيات ما يأتي:
١ - قال الله ﷿ في شأن المنافقين: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ (١).
جاء عن ابن عباس ﵄ وقتادة، ومقاتل، والضّحاك، والسُّدّي أن هذه الآيات نزلت في المنافقين، يقول: مَثَلُهم في نفاقهم كمَثَلِ رجل أوقد نارًا في ليلة مظلمة في مفازة، فاستدفأ ورأى ما حوله، فاتقى مما يخاف، فبينما هو كذلك إذ طَفئت نارُه، فبقي في ظلمة خائفًا متحيِّرًا، فكذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أَمِنوا على أموالهم، وأولادهم، وناكحوا المؤمنين، ووارثوهم، وقاسموهم الغنائم، فذلك نورهم، فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف (٢).
واختار الإمام ابن جرير الطبري هذا القول، فقال: «وأولى التأويلات بالآية: ما قاله قتادة، والضحاك، وما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس» (٣)، وذكر ﵀ أن هؤلاء المنافقين أظهروا إيمانهم
_________
(١) سورة البقرة، الآيتان: ١٧ - ١٨.
(٢) تفسير البغوي، ١/ ٥٣.
(٣) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ١/ ٣٢٤، وذكر سنده لقولهم في: ١/ ٣٢٣.
1 / 5
بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، حتى حُكِمَ لهم بذلك في الدنيا: في حقن الدماء والأموال، والأمن على الذرِّية، كمثل استضاءة الموقد للنار بالنار، حتى إذا انتفع بضيائها، وأبصر ما حوله خمدت النار، فذهب نوره، وعاد في ظلمة وحيرة، فالله ﷿ يُطفئ نورهم يوم القيامة، فيستنظروا المؤمنين؛ ليقتبسوا من نورهم، فيقال لهم: «ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا» (١)، فقد حصل لهم في الآخرة ظلمة القبر، وظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة المعاصي على اختلاف أنواعها (٢).
واختار الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى أن هؤلاء آمنوا ثم كفروا فقال: «وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد نارًا، فلما أضاءت
ما حوله، وانتفع بها، وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، واستأنس بها، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يُبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصمُّ لا يسمع، أبكمُ لا ينطق، أعمى لو كان ضياءً لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغيّ على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا» (٣)، وقال ﵀: «وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا
_________
(١) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن،١/ ٣٢٦،والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ١/ ٢٣٠.
(٢) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص٢٧.
(٣) تفسير القرآن العظيم، ١/ ٥١.
1 / 6
هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ (١)، والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينافي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سُلبوه، وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ﴾ (٢) انتهى (٣).
قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى: «مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارًا: أي كان في ظلمة عظيمة، وحاجة إلى النار شديدة، فاستوقدها من غيره، ولم تكن عنده مُعدَّةً، بل هي خارجة عنه، فلما أضاءت النار ما حوله، ونظر المحل الذي هو فيه، وما فيه من المخاوف، وأمنها، وانتفع بتلك النار، وقرت بها عينه، وظن أنه قادر عليها، فبينما هو كذلك ذهب الله بنوره، فزال عنه النور، وذهب معه السرور، وبقي في الظلمة العظيمة، والنار محرقة فذهب ما فيها من الإشراق، وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، والظلمة الحاصلة بعد النور، فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون، استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين، ولم تكن صفةً لهم، فاستضاؤوا بها مؤقتًا، وانتفعوا، فحُقنت بذلك دماؤهم، وسَلِمت أموالهم، وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم كذلك إذ هجم عليهم الموتُ فسلبهم الانتفاع بذلك النور، وحصل لهم كلُّ همٍّ وغمٍّ وعذاب، وحصل لهم:
_________
(١) سورة البقرة، الآية: ٨.
(٢) سورة المنافقون، الآية: ٣.
(٣) تفسير القرآن العظيم، ١/ ٥١.
1 / 7
ظلمة القبر، وظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة المعاصي، على اختلاف أنواعها، وبعد ذلك ظلمة النار وبئس القرار؛ فلهذا قال تعالى: ﴿صُمٌّ﴾ أي عن سماع الخير، ﴿بُكْمٌ﴾ أي عن النطق به، ﴿عُمْيٌ﴾ أي عن رؤية الحق، ﴿فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾؛ لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه، فلا يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل، فإنه لا يعقل، وهو أقرب رجوعًا منهم» (١).
وقال الإمام ابن القيم ﵀: «شبَّه سبحانه أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا نارًا؛ لتضيء لهم، وينتفعوا بها، فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين، فهم قوم سَفَر ضلُّوا الطريق فأوقدوا النار تضيء لهم الطريق، فلما أضاءت لهم وأبصروا وعرفوا طفئت تلك الأنوار، وبقوا في الظلمات لا يبصرون، وقد سُدّت عليهم أبواب الهدى الثلاثة؛ فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب: مما يسمعه بأذنه، ويراه بعينه، ويعقله بقلبه، وهؤلاء قد سُدَّت عليهم أبواب الهدى، فلا تسمع قلوبهم شيئًا، ولا تبصره، ولا تعقل ما ينفعها» (٢).
وبيَّن رحمه الله تعالى أن الله ﷾: «سَمَّى كتابه نورًا، ورسوله ﷺ نورًا، ودينه نورًا، وهُدَاه نورًا، ومن أسمائه النور، والصلاة نور، فذهابه سبحانه بنورهم ذهاب بهذا كله» (٣)، وبيّن ﵀: «أن الخارجين عن
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص٢٧.
(٢) اجتماع الجيوش الإسلامية، ٢/ ٦٣.
(٣) المرجع السابق، ٢/ ٣٥، وانظر: ٢/ ٤٤.
1 / 8
طاعة الرسل يتقلَّبون في عشر ظلمات: ظلمة الطبع، وظلمة الجهل، وظلمة الهوى، وظلمة القول، وظلمة العمل، وظلمة المدخل، وظلمة المخرج، وظلمة القبر، وظلمة القيامة، وظلمة دار القرار، فالظلمة لازمة لهم في دورهم الثلاث، وأتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يتقلبون في عشرة أنوار، ولهذه الأمة ونبيها ﷺ من النور ما ليس لأمة غيرها، ولنبيها ﷺ من النور ما ليس لنبي غيره» (١).
٢ - وقول الله تعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ والله مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ (٢)، وهذا مثل آخر ضربه الله ﷿ للمنافقين، بمعنى: إن شئت مثِّلْهم بالمستوقد، وإن شئت بأهل الصيِّب، وهو المطر الذي يصوب: أي ينزل من السماء إلى الأرض، وقيل: ﴿أَوْ﴾ بمعنى الواو، يريد: وكصيِّبٍ ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ أي: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، ﴿وَرَعْدٌ﴾: وهو الصوت الذي يسمع من السحاب،
﴿وَبَرْقٌ﴾، وهو الضوء اللامع المشاهد مع السحاب ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ﴾ البرق في تلك الظلمات ﴿مَّشَوْاْ فِيهِ﴾، ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ﴾: أي وقفوا متحيرين (٣).
_________
(١) المرجع السابق، ٢/ ٤٣.
(٢) سورة البقرة، الآيتان: ١٩ - ٢٠.
(٣) انظر: جامع البيان عن تأويل القرآن، للطبري، ١/ ٣٣٣ - ٣٦٢، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ١/ ٢٣٣ - ٢٤٢، وتفسير البغوي، ١/ ٥٣ - ٥٤، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير،
١/ ٥٣، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص٢٧.
1 / 9
فالله تعالى شَبَّههم في كفرهم ونفاقهم بقومٍ كانوا في مفازةٍ وسوادٍ في ليلةٍ مظلمة، أصابهم فيها مطرٌ فيه ظلمات، من صفتها أن السَّاري لا يمكنه المشي فيها، وصواعق من صفتها أن يضم السامعون أصابعهم إلى آذانهم من هولها، وقوة صوتها المخيفة، وبرق من صفته أن يقرب من خطف أبصارهم، ويعميها من شدة توقُّده. فهذا مَثَلٌ ضربه الله للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه، فالمطر: القرآن؛ لأنه حياة القلوب، كما أن المطر حياة الأبدان، والظلمات: الكفر والشرك الذي حذَّر عنه القرآن، والرعد ما خوِّفوا به من الوعيد، وذكر النار، والبرق ما فيه من الهدى والبيان، والوعد، وذكر الجنة، فالمنافقون يسدُّون آذانهم عند قراءة القرآن، مخافةَ ميل القلب إليه؛ لأن الإيمان عندهم كفر، والكفر موت
﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾: أي يبهر قلوبهم (١).
وقال العلامة السعدي ﵀ بعد أن ذكر تفسير الآية: «فهكذا حالة المنافقين إذا سمعوا القرآن، وأوامره، ونواهيه، ووعده، ونهيه، ووعيده جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأعرضوا عن أمره ونهيه، ووعده، ووعيده، فيروعهم وعيده، وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم، ويكرهونها كراهة صاحب الصيِّب الذي يسمع الرعد فيجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت، فهذا ربما حصلت له السلامة، وأما المنافقون فأنَّى لهم السلامة، وهو تعالى محيط بهم: قدرةً، وعلمًا، فلا
_________
(١) تفسير البغوي، ١/ ٥٤.
1 / 10
يفوتونه، ولا يعجزونه، بل يحفظ عليهم أعمالهم، ويجازيهم عليها أتمَّ الجزاء، ولَمّا كانوا مُبتلين بالصَّمَمِ، والبكم، والعمى المعنوي، ومسدودة عليهم طرق الإيمان، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ أي الحسية، ففيه تخويف لهم، وتحذير من العقوبة الدنيوية؛ ليحذروا فيرتدعوا عن بعض شرهم، ونفاقهم ﴿إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئًا فعله من غير ممانع ولا معارض» (١).
وقد تكلَّم الإمام ابن القيم ﵀ كلامًا نفيسًا بعد أن ذكر المثل الناري للمنافقين، فقال: «ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي، فشبههم بأصحاب صيِّب، وهو المطر الذي يصوَّب: أي ينزل من السماء، فيه ظلمات، ورعد، وبرق؛ فلضعف بصائرهم وعقولهم اشتدت عليهم زواجر القرآن، ووعده، ووعيده، وتهديده، وأوامره، ونواهيه، وخطابه الذي يشبه الصواعق، فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة، ورعد، وبرق؛ فلضعفه وخوفه جعل أصبعيه في أذنيه خشيةً من صاعقة تصيبه» (٢).
٣ - قال الله ﷿: ﴿الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (٣).
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص٢٧.
(٢) أمثال القرآن، ص١٨، وانظر: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن القيم، ٢/ ٦٨، ففيه كلام عظيم النفع.
(٣) سورة البقرة، الآية: ٢٥٧.
1 / 11
لا شك أن الله ﷿ نصير المؤمنين، وظهيرهم، ويتولاهم بعونه وتوفيقه، ويخرجهم من ظلمات: الكفر، والشرك، والضلالة، إلى نور: الإيمان، والتوحيد، والهداية، وقد جعل سبحانه الظلمات للكفر مثلًا؛ لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها، وكذلك الكفر حاجبٌ أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان والعلم بصحة أسبابه، فالله ﷿ وليُّ المؤمنين، ومُبصِّرهم حقيقة الإيمان، وسبله، وشرائعه، وحججه، وهاديهم فموفِّقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظُلَمِ سواتره عن إبصار القلوب، والذين كفروا بجحد وحدانيته، نُصَراؤهم وظُهراؤهم الذين يتولونهم ﴿الطَّاغُوتُ﴾ وهم: الأنداد، والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله، يخرجونهم من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر، وشكوكه الحائلة دون إبصار القلوب، ورؤية ضياء الإيمان وحقائق أدلته وسُبُله (١).
٤ - وقال الله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِالله وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾ (٢).
فبيّن الله ﷿ أنه قد جاء جميع الناس حجة منه سبحانه، وبرهان قاطع للعذر، والحجة المزيلة للشبهة، وهو محمد ﷺ الذي جعله الله حجة قطع بها أعذار الناس، وأنزل الله معه النور الواضح المبين «وهو القرآن الكريم»
_________
(١) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، ١/ ٣١٨، و٥/ ٤٢٤، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ٣/ ٢٨٢.
(٢) سورة النساء، الآيتان: ١٧٤ - ١٧٥.
1 / 12
الذي يُبيّن الحجة الواضحة، والسبل الهادية إلى ما فيه النجاة من عذاب الله، وأليم عقابه، لمن سلكها واستنار بضوئها (١). والله ﷿ قد جعل النور في كتبه التي أنزلها على رسله، قال الله ﷿: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ (٢)، وقال ﷾: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ﴾ (٣)، وقال تعالى في عيسى ﷺ: ﴿وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾ (٤)، وقد أنزل الله ﷿ القرآن الكريم، وختم به هذه الأنوار، فهو النور الأعظم، قال الله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله﴾ (٥).
٥ - وقال الله ﷿: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ (٦): يعني بالنور محمدًا ﷺ الذي أنار الله به الحق، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به، يُبيّن الحق، قال الله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ (٧)، ومن إنارته ﷺ للحق تبيينه لليهود كثيرًا مما كانوا يخفون من الكتاب، وقوله تعالى: ﴿وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ يعني كتابًا فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم:
_________
(١) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، ٩/ ٤٢٧،وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ١/ ٥٦٠.
(٢) سورة المائدة، الآية: ٤٤.
(٣) سورة الأنعام، الآية: ٩١.
(٤) سورة المائدة، الآية: ٤٦.
(٥) سورة المائدة، الآية: ٤٨.
(٦) سورة المائدة، الآيتان: ١٥ - ١٦.
(٧) سورة الأحزاب، الآيتان: ٤٥ - ٤٦.
1 / 13
من توحيد الله، وحلاله، وحرامه، وشرائع دينه، وهو القرآن الذي أنزله على نبينا محمد ﷺ يُبين للناس ما بهم الحاجة إليه من أمر دينهم، ويوضحه لهم، حتى يعرفوا حقَّه من باطله (١).
﴿يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ سبل السلام: طرق السلام، والسلام هو الله ﷿، وسبيل الله الذي شرعه لعباده، ودعاهم إليه، وابتعث به رسله: هو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملًا إلا به، ويخرجهم من الظلمات إلى النور: يعني من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإسلام وضيائه (٢).
وقال السعدي ﵀: «ظلمات: الكفر، والبدعة، والمعصية، والجهل والغفلة، إلى نور: الإيمان، والسنة، والطاعة، والعلم والذكر» (٣).
٦ - وقال ﷿: ﴿الْحَمْدُ لله الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾ (٤)، قال الإمام القرطبي ﵀ في تفسير هذه الآية: «واختلف العلماء في المعنى المراد بالظلمات والنور، فقال السدي، وقتادة، وجمهور المفسرين: المراد سواد الليل، وضياء النهار، وقال الحسن: الكفر، والإيمان، قلت: اللفظ يعمُّه» (٥)، وقال السعدي ﵀: «فحَمِد نفسه على خلق السموات والأرض
_________
(١) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، ١٠/ ١٤٣.
(٢) المرجع السابق، ١٠/ ١٤٥.
(٣) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص١٨٨.
(٤) سورة الأنعام، الآية: ١.
(٥) الجامع لأحكام القرآن، ٦/ ٣٦١.
1 / 14
الدّالّة على كمال قدرته، وسَعَة علمه، ورحمته، وعموم حكمته، وانفراده بالخلق والتدبير، وعلى جعله الظلمات والنور، وذلك شامل للحسِّي من ذلك: كالليل والنهار، والشمس والقمر، والمعنوي: ظلمات: الجهل، والشك، والشرك، والمعصية، والغفلة، ونور العلم، والإيمان، واليقين، والطاعة، وهذا كله يدلّ دلالة قاطعة أنه تعالى هو المستحق للعبادة وإخلاص الدين له (١).
٧ - وقال ﷾: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ
مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (٢).
هذا مثل ضربه الله للمؤمن الذي كان ميتًا: أي في الضلالة حائرًا، فأحيا الله قلبه بالإيمان، وهداه له ووفقه لاتِّباع رسوله ﷺ (٣)، فقد كان ميِّت القلب بعدم روح العلم والهدى والإيمان، وبجهله بتوحيد الله وشرائع دينه، وتَرْكِهِ العمل لله بما يؤدي إلى نجاته، فأحياه الله بروح أخرى غير الروح التي أحيا بها بدنه، وهي روح هدايته للإسلام، ومعرفة الله وتوحيده، ومحبته، وعبادته وحده لا شريك له، وجعل له نورًا يمشي به بين الناس، وهو نور القرآن والإسلام، فهل يستوي هذا بمن هو في الظلمات: ظلمات الجهل، والكفر، والشرك، والشكّ، والغيّ
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص٢١٢.
(٢) سورة الأنعام، الآية: ١٢٢.
(٣) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ٢/ ١٦٣.
1 / 15
والإعراض، والمعاصي؟ ليس بخارجٍ منها؛ قد التبست عليه الطرق وأظلمت عليه المسالك، فحضره الهمُّ، والغمُّ، والحزن، والشقاء، فنبه ﷿ العقول بما تدركه وتعرفه، أنه لا يستوي هذا ولا هذا، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلمة، والأحياء والأموات، فكأنه قيل: فكيف يُؤثِر من له مسكة من عقل أن يكون بهذه الحالة، وأن يبقى في الظلمات متحيِّرًا؛ فأجاب بأنه ﴿زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، فلم يزل الشيطان يُحَسِّن لهم أعمالهم، ويُزَيِّنُها في قلوبهم، حتى استحسنوها ورأوها حقًا، وصار ذلك عقيدة في قلوبهم، وصفة راسخة ملازمة لهم (١).
٨ - وقال ﷾: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (٢).
بيّن وأوضح ﷾ أن اليهود والنصارى ومن معهم من المشركين
﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ ونور الله: دينه الذي أرسل به محمدًا ﷺ، وسمّاه الله نورًا؛ لأنه يستنار به في ظلمات الجهل، والأديان الباطلة؛ فإنه علمٌ بالحق، وعملٌ بالحق، ويدخل في هذا النور حجج الله على توحيده؛ فإنّ البراهين نور لما فيها من البيان، فهؤلاء اليهود والنصارى ومن ضاهاهم من المشركين يريدون أن يطفئوا نور الله بمجرد أقوالهم الباطلة، وجدالهم، وافترائهم، فمثلهم كمثل من يريد أنْ
_________
(١) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، ١٢/ ٨٨، ومدارج السالكين، لابن القيم،
٣/ ٢٥٨، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ٢/ ١٦٣، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص٢٣٤.
(٢) سورة التوبة، الآية: ٣٢.
1 / 16
يُطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه، وهذا لا سبيل إليه، فلا على مرادهم حصلوا، ولا سلمت عقولهم من النقص والقدح فيها (١)، قال الله ﷿: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَالله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (٢).
٩ - وقال ﷾: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾ (٣)، قال قتادة: «أما الأعمى والبصير: فالكافر والمؤمن، وأما الظلمات والنور: فالهدى والضلالة» (٤).
١٠ - وقال ﷿: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (٥)، قال قتادة: ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ أي: من الضلالة إلى الهدى» (٦)، قال السعدي ﵀: ليخرج الناس من ظلمات الجهل، والكفر، والأخلاق السيئة، وأنواع المعاصي إلى نور العلم، والإيمان، والأخلاق الحسنة» (٧).
_________
(١) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، ١٤/ ٢١٣ - ٢١٤، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ٨/ ٦١٤، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ٢/ ٣٣٤، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص٢٩٥، وص٧٩٧.
(٢) سورة الصف، الآيتان: ٧ - ٨.
(٣) سورة الرعد، الآية: ١٦.
(٤) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، ١٦/ ٤٠٧.
(٥) سورة إبراهيم، الآية: ١.
(٦) جامع البيان عن تأويل أي القرآن، للطبري، ١٦/ ٥١٢.
(٧) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص٣٧٥.
1 / 17
١١ - وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ (١): أي ادعهم من الضلالة إلى الهدى (٢).
وقال السعدي ﵀: «أي ظلمات الجهل والكفر، وفروعه إلى نور العلم والإيمان وتوابعه» (٣).
١٢ - وقال الله ﷿: ﴿الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (٤).
وقد فُسِّرَ قوله تعالى: ﴿الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ فقيل في تفسير ذلك أقوال:
١ - الله هادي أهل السموات والأرض.
٢ - الله يُدبِّر الأمر في السموات والأرض: نجومها، وشمسها، وقمرها، فهو سبحانه مُنوِّر السموات والأرض.
٣ - الله ضياء السموات والأرض (٥).
_________
(١) سورة إبراهيم، الآية: ٥.
(٢) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، ١٦/ ٥١٨.
(٣) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص٣١٦.
(٤) سورة النور، الآية: ٣٥.
(٥) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، ١٩/ ١٧٧، وتفسير البغوي،
٣/ ٣٤٥، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ١١/ ٢٥٨، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير،
٣/ ٢٨٠، واجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، ٢/ ٤٤.
1 / 18
قال الإمام ابن القيم ﵀: «والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلِّها» (١).
فالله ﷿ هادي أهل السموات والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من الضلالة ينجون، وهو سبحانه منوِّر السموات والأرض، ومُدَبِّر الأمر فيهما: بنجومها، وشمسها، وقمرها، وهو ﷿ نور؛ فقد سمَّى نفسه نورًا، وجعل كتابه نورًا، ورسوله نورًا، ودينه نورًا، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورًا تتلألأ (٢).
قال العلامة عبد الرحمن السعدي ﵀: «﴿الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾، الحسي والمعنوي، وذلك أنه تعالى بذاته نور، وحجابه نور، الذي لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وبه استنار العرش، والكرسي، والشمس، والقمر، والنور، وبه استنارت الجنة. وكذلك المعنوي يرجع إلى الله: فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور، فلولا نوره تعالى لتراكمت الظلمات؛ ولهذا كل محل يفقد نوره فَثمَّ الظلمة والحصر» (٣).
والنور يضاف إلى الله ﷿ على وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله، فالأول كقوله تعالى: ﴿وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ
_________
(١) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ٢/ ٤٦.
(٢) انظر: المرجع السابق، ٢/ ٤٤.
(٣) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص٥١٧.
1 / 19
رَبِّهَا﴾ (١)، فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء (٢)، وقد ثبتت الأحاديث عن النبي ﷺ في إثبات صفة النور والفعل لله ﷿، وأنه نور السموات والأرض وما فيهما، ومُنوِّرهما وما فيهما، وهي على النحو الآتي:
الحديث الأول: حديث ابن عباس ﵄ قال: كان النبي ﷺ إذا قام يتهجَّد من الليل قال: «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيِّم السموات والأرض ومن فيهن ...» الحديث (٣).
الحديث الثاني: حديث أبي موسى ﵁ قال: قام فينا رسول الله ﷺ بخمس كلمات فقال: «إن الله ﷿ لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابُه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (٤).
فالله ﷿ لا ينام وهو منزه عن ذلك، قال الله ﷿: ﴿الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ (٥)، والسِّنة: النعاس. وهو ﷿ يخفض الميزان ويرفعه، وسُمِّي الميزان قسطًا؛ لأن القسط العدل وبالميزان يقع العدل. والمراد أن الله تعالى يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة، ويوزن من أرزاقهم النازلة، وقيل: المراد بالقسط: الرزق
_________
(١) سورة الزمر، الآية: ٦٩.
(٢) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ٢/ ٤٥.
(٣) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب التهجد بالليل، ١/ ٥٣٢، برقم ١١٢٠، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم ٧٦٩.
(٤) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب قوله ﷺ: «إن الله لا ينام»، ١/ ١٦٢، برقم ١٧٩.
(٥) سورة البقرة، الآية: ٢٥٥.
1 / 20
الذي هو قسط كل مخلوق يخفضه فيقتره، ويرفعه فيوسعه، والله أعلم (١)، وهو ﷿ يُرفَع إليه عمل الليل قبل عمل النهار الذي بعده، وعمل النهار قبل عمل الليل الذي بعده؛ فإن الملائكة الحَفَظَة يصعدون بأعمال الليل بعد انقضائه في أول النهار، ويصعدون بأعمال النهار بعد انقضائه في أول الليل، والله أعلم (٢)، والله ﵎ حجابه النور: أي الحجاب المانع والساتر من رؤيته النور، وسبحات وجهه: نوره وجلاله، ولو كشف وأزال الحجاب المُسمَّى نورًا، وتجلّى لخلقه لأحرقت سبحات وجهه جميع مخلوقاته؛ لأن بصره ﷿ محيط بجميع الكائنات (٣).
الحديث الثالث: حديث أبي ذر ﵁ قال: سألت رسول الله ﷺ:هل رأيت ربك؟ قال: «نورٌ أنَّى أراه»،وفي رواية: «رأيتُ نورًا» (٤)،والمعنى حجابه النور فكيف أراه (٥)،قال الإمام ابن القيم ﵀: «... سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: «معناه كان ثَمَّ نور، أو حال دون رؤيته نور، فأنّى أراه» (٦).
وقوله ﷿: ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ قيل في تفسير «الهاء» أقوال على النحو الآتي:
القول الأول: مثل نور الله: أي مثل: هدى الله في قلب المؤمن.
القول الثاني: مثل نور المؤمن الذي في قلبه من القرآن والإيمان.
القول الثالث: مثل نور محمد ﷺ.
_________
(١) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، ٣/ ١٦.
(٢) انظر: المرجع السابق، ٣/ ١٧.
(٣) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، ٣/ ١٧.
(٤) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب قوله ﷺ: «نور أنى أراه» ١/ ١٦١، برقم ١٧٨.
(٥) شرح النووي على صحيح مسلم، ٣/ ١٥.
(٦) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ٢/ ٤٧.
1 / 21