من عمل صالحا فلنفسه
من عمل صالحا فلنفسه
Издатель
دار القاسم
Жанры
المقدمة
الحمد لله هدى من شاء من عباده، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الأمة ولله الحمد تزخر بأهل الأعمال الصالحة والأفعال الطيبة، وهذه مجموعة مختارة من قصص سمعتها لأخبار السائرين إلى الدار الآخرة، كتبتها للاقتداء والتأسي، وترك الغفلة وبذل الوسع في طاعة الله ﷿، وكذلك الرغبة في إشاعة الخير والدلالة عليه.
وهي امتداد لكتيبات سابقة مثل: «هل من مشمر؟» و«غراس السنابل» وغيرهما.
أدعو الله ﷿ أن يكتب فيها النفع والفائدة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
1 / 3
العابدة المطلقة
تزوجت من رجل يكبرها بسنوات، وكانت فرحة جذلي بهذا الزواج، رغبة في أن يكون مكتمل العقل ناضج الفكر، لكنه كان على عكس ظنها، فقد كان سيء الخلق لا يعجبه العجب ولا يرضى عن كل جهد، حتى كثر الشقاق وبدأت تظهر معالم الفرقة وسارت الأمور من سيء إلى أسوأ فكانت النهاية المحتومة بعد صبر طويل. غادرت منزل الزوج مطلقة، وهي تحدث نفسها: لعل الله ﷿ اختار لي أن أتفرغ للعبادة والطاعة، وتبرأ ذمتي من مسئولية الزوج! وكان الله ﷿ لطيفًا بها فجعل قرة عينها في الصلاة، تفرح لإقبال الليل وإدبار النهار حتى تناجي ربها في الثلث الأخير، وأعدت لنفسها صيام داود ﵇ فهي تصوم يومًا وتفطر يومًا. واستمرت الأيام ولم تشعر بوحشة ولا فراق، ولم يكن حديث الناس عن المطلقة يعدل ليلة من المناجاة لربها! إنها امرأة صابرة محتسبة علمت أن ما نزل بها من مصائب الدنيا فرضيت بقدر الله ﷿. ويسر الله لها الفرج القريب، وكان اليسر بعد العسر ..
فلم تطل بها الأيام حتى أتاها زوج يطلب يدها. فترددت كثيرًا حتى أشار عليها من تثق فيه، وقال لها: ما سبب التردد؟ ولماذا لا توافقين؟ قالت: أريد أن أصوم وأصلي!
قال لها: خدمة الزوج عبادة وقربة إلى الله ﷿ فأنت في خير وعبادة. لكن نفسها تراودها بين الحين والآخر بين الرفض
1 / 4
والموافقة. وعندما استخارت الله ﷿ مرات عديدة استقر بها الأمر إلى الموافقة .. عندها سأل الخاطب: هل لها شروط؟ . قالت: نعم لي شرط واحد: أن يأذن لي بصيام ثلاثة أيام من كل أسبوع، قال وكان محبًا للخير، مقبلًا على صاحبة الطاعة: لك الشرط. لقد كان همها منصرفًا إلى نافلة تستجوب إذن الزوج كما أمر النبي ﷺ بذلك. فرحت بالموافقة وسرت بها. ودخلت بيت الزوجية وهي تحلم بأمل عظيم ويراودها رجاء كبير وحسن ظن بالله ﷿ الذي يسر لها أمر العبادة والطاعة أن يتقبلها منها وأن يدخلها الجنة برحمته! «ومن عمل صالحًا فلنفسه».
1 / 5
ثلاثة أجزاء
امرأة شابة متزوجة ولها أبناء صغار، لكنها محبة لكتاب الله ﷿، تقرؤه آناء الليل وأطراف النهار، لا تكل ولا تمل من ترداده. تقرأ ما تيسر لها من القرآن حفظًا عن ظهر قلب. أو قراءة في المصحف. لم يكن عمل المنزل، ولا رعاية الأبناء، ولا الاهتمام بالزوج، صارفًا لها عن أحب ما تملك وهو قراءة كتاب الله ﷿. ولما أتى شهر شعبان بدأت تستعد لشهر الصيام وتعد العدة: فقامت في مطبخها لتحضير ما يكفي لشهر كامل من المأكولات المرغوبة في شهر الصيام، وكان همها التفرغ للعبادة في هذا الشهر العظيم، وقالت وهي تعد العدة: لعله آخر رمضان ... شمري يا نفس واتركي لذيذ النوم وكثير الكسل والخمول. ولما دخل أول يوم من شهر رمضان وضعت لنفسها ولأبنائها جدولًا لقراءة القرآن وتلاوته. فيسر الله أمرها وأعانها، وفي ما بين المغرب والعشاء وهو وقت ضائع عند الكثير كانت تقرأ ثلاثة أجزاء! نعم ثلاثة أجزاء فيما بين العشاءين ولم ينقص من طعامها شي، ولا من ترتيب منزلها، ولا من شئون زوجها. لقد أعانها الله ﷿ ويسر لها طريق الطاعة بالتوفيق مع العزم والمثابرة.
ولا تزال تردد في نفسها بين الحين والآخر في وجل وخوف قول ابن عوف: لا تثق بكثرة العمل، فإنك لا تدري أيقبل منك أم يرد، ولا تأمن ذنوبك فإنك لا تدري أكفرت عنك أم لا! إن عملك مغيب عنك كله.
1 / 6
النفقة
أعمال الخير متنوعة متعددة كل بحسبه وقدره! هناك من فتح الله عليه في أمر الصيام فهو لا يفطر، وآخر في القيام فلا يفتر، وثالث في الإنفاق فلا يتردد، ورابع في تعليم كتاب الله ﷿، وخامس في رعاية الأيتام والأرامل. وصاحبنا فتح الله على يديه في الإنفاق فكان ينفق من ماله الكثير على قلته. فها هو يكفل الأرامل ويواسي المحتاجين، ويحرص على تفقد أحوالهم. ثم هو أيضًا يساهم في المشاريع الخيرية، وأحسب أن له في كل موطن نفقة سهمًا حتى وإن كان صغيرًا فقد تأثر بقول قرأه: «استطعم مسكين عائشة ﵂ وبين يديها عنب. فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويعجب، فقالت عائشة: أتعجب؟ كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة» (١).
وعندها كان ينفق الخمسة ريالات لعامل النظافة ويسقيه شربة الماء ويناوله اللقمة، ويشتري للصغار قطعة حلوى يحبونها رغبة في إدخال السرور على قلوبهم.
يومًا سأله أحد أخص المقربين له وقال: راتبك قليل، وأظن أنك تنفق أكثر من مرتبك فهل لديك مصدر دخل إضافي؟ فأجاب بثقة: الحمد لله ما شكوت من ضائقة مالية! إلا ضائقة في صدري بين الحين والآخر، أن أرى الفقير ولا أجد الكثير لأنفقه له. هذه
_________
(١) التمهيد لابن عبد البر (٤/ ٣٠٢).
1 / 7
الضائقة، أما غيرها فأمري ولله الحمد ميسر، فما استدنت طوال حياتي، ولا أعرف الدين مطلقًا، ونعم الله علي لا تعد ولا تحصى!
وقفة:
في الحديث القدسي أن الله ﷿ قال:
«يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» [رواه مسلم].
1 / 8
وقفة للمشمرين
قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧، ٨].
قال بعض أهل اللغة: وإن الذرة هو أن يضرب الرجل بيده على الأرض فما علق من التراب فهو الذرة.
وقيل: الذر: هو ما يرى في شعاع الشمس من الهباء.
قال ابن القيم-﵀:
(وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية-قدس الله روحه- يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحًا، فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور. يعني أنه لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة انشراح، وقرة عين فحيث لم يجد ذلك، فعمله مدخول) (١).
_________
(١) المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية (١/ ١٥٣)
1 / 9
مصلى الجامعة
كانت الجامعة بداية انطلاقة أعمال النوافل لديها، وكان المصلى محضنًا طيبًا لبث روح المسابقة إلى الله ﷿. وكانت المحاضرات التي تلقى نبراس خير ودلالة.
سمعت بفضل صيام التطوع، وسرها سماع حديث النبي ﷺ: «ما من عبد يصوم يومًا، في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا» [متفق عليه]، فكانت بعد هذا الحديث من المسارعات إلى الصيام بكثرة، فأحيانًا تصوم يومًا وتفطر يومًا، وفي كل شهر تصوم أيام البيض، ويومي الاثنين والخميس من كل أسبوع.
وكانت أول مشكلة واجهتها تناول غداء الطعام مع أهلها، فاعتذرت بتأخرها وانتظارهم لها، وقالت: لا تنتظروا، وتناولوا الطعام، وإذا أتيت من الدراسة أنام حتى العصر، وبعد العصر أتناول الغداء. فكان لها ذلك، فإذا أذن المؤذن لصلاة العصر وأدت الصلاة دلفت إلى المطبخ، فلا يكون فيه أحد، فتغير مواضع الطعام وتغسل بعض الأطباق حتى يظن أنها تناولت غداءها. وهكذا استمرت بها الحال شهورًا طويلة، وإن رأتها والدتها يومًا أسرت لها بأنها صائمة، حتى لا تغضب من عدم الأكل.
وهكذا تطوى صحيفتها يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، وسنة بعد سنة، «ومن عمل صالحًا فلنفسه».!
1 / 10
(... ولو مرة)
سمع يومًا أحد الدعاة وهو يتحدث عن الطاعة والعبادة ثم ذكر قولًا لعمرو بن قيس: «إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله».
ثم تذكر حديث النبي ﷺ عندما سأل أصحابه فقال: «من أصبح منكم اليوم صائمًا؟» قال أبو بكر-﵁ أنا، قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟» قال أبو بكر ﵁ أنا، قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟» قال أبو بكر-﵁ أنا، قال: «من عاد منكم اليوم مريضًا» قال أبو بكر-﵁ أنا، قال رسول الله ﷺ: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» [رواه مسلم].
وعزم بعد سماع هذا الحديث أن يفعل كل أبواب الخير هذه في يوم واحد، ثم راودته نفسه الدلالة على الخير، وعظم أجرها، فقال: لعل زوجتي تعلم بهذا فنكون سويًا في هذه الطاعة. وعندما أخبرها سرت بذلك وفرحت. فقاما من الليل وتسحرا وأصبحا صائمين، وتصدق الزوج عنه وعن زوجته في ضحى ذلك اليوم على فقير وجده، ولما أذن المؤذن لصلاة العصر قصدا أحد الجوامع الكبيرة المعروفة بكثرة الجنائز فصليا معًا على جنائز عدة كانت حاضرة تلك الصلاة، وزارا بعد خروجهما من المسجد مريضة قريبة لهما وأكثرا من الدعاء أن يتقبل الله ﷿ ما عملا، وأن يغفر لهما ذنوبهما، وسارعا إلى بث هذا الحديث وتذكير الناس به للعمل والاقتداء. «ومن عمل صالحًا فلنفسه»! .
1 / 11
العجوز العاملة
سخر الله ﷿ للإنسان السعي في أمور الدنيا، لا يكل ولا يمل، في شبابه وشيخوخته، في حال مرضه وصحته. لكن من أراد الله به خيرًا يسر له عمل الطاعة، وأولها همة في القلب، تحرك الجوارح.
قال شميط بن عجلان عن قيام الليل لكبار السن وقد ضعفت أجسامهم، وأصابتهم الأسقام والأوجاع، ومع هذا يقومون الليل قال: «إن الله-﷿ جعل قوة المؤمن في قلبه، ولم يجعلها في أعضائه، ألا ترون أن الشيخ يكون ضعيفًا يصوم الهواجر، ويقوم الليل؟ ! والشباب يعجز عن ذلك».
وكانت صفية بنت سيرين توصي فتقول: «يا معشر الشباب خذوا من أنفسكم وأنتم شباب، فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب». وقبلها النبي ﷺ الذي قال في حديث عظيم: «بادروا بالأعمال سبعًا، هل تنظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنىً مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا أو الدجال فشر غائب ينظر، أو الساعة أدهى وأمر» [رواه الترمذي].
امرأة كبير مسنة احدودب ظهرها، وارتعشت أطرافها، وهزل جسمها، لكن الله ﷿ استعملها في طاعته فهنيئًا لها هذا الخير، وقد قال ابن القيم في الفوائد: (من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل؟ وبأي شغل يشغله؟).
هذه المرأة ولت وجهها نحو الدعوة إلى الله رغم كبر السن، وعدم القراءة أو الكتابة ..
1 / 12
قالت إحدى الداعيات: ذهبت يومًا إلى المستشفى في الصباح الباكر فإذا بي أرى امرأة كبيرة في السن، تأتي مبكرة مثلي، ولعل ابنها أتى بها وذهب إلى عمله، لكن طال تعجبي وهي تحمل كيسًا كبيرًا يخط منها على الأرض بين الحين والآخر، حتى استوت على كرسي في غرفة المراجعة فشمرت عن ساعدها وفتحت الكيس، ثم بدأت توزع الكتب على المراجعات، وكلما أتت مراجعة جديدة وجلست قامت إليها وأهدتها كتابًا قالت الداعية: فجاء موعدي وقمت إلى الطبيبة، ثم إلى مراجعات في المستشفى انتهى بي إلى الصيدلية، ثم إلى عدت إلى مكاني الأول الذي أتيت إليه قبل أربع ساعات، فإذا المرأة في مكانها، وتعمل عملها، فعلمت أنه من أكبر الداعيات، وما أتت إلى هذا المكان إلا لهذا العمل العظيم، ومع تأكدي من بعد منزلها، وكبر سنها، وضعفها، ومع هذا تحمل كيسًا لا يحمله إلا الأشداء من الرجال، يا ترى كم من امرأة استقام أمرها؟ وكم من فتاة صلح حالها؟ كم من سافرة تحشمت؟ وكم من مفرطة أنابت؟ وكل ذلك في ميزان حسنات هذه المرأة العجوز لا ينقص من أجر الفاعلة شيء! أليست هذه نعمة من الله عظيمة؟ بلى والله!
دعونا نأت لأمر أقل: كم مرة نذهب إلى المستشفيات؟ قد يكون مرة أو مرات، دعونا نستثمر هذه الفرصة بحمل الكتب إلى أماكن المراجعين والمراجعات. هذا إن ضعفت الهمة عن فعل المرأة العجوز وإلا فنحن أحق وأولى من الضعيفة المسكينة لكن! ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء «ومن عمل صالحًا فلنفسه».! .
1 / 13
العزة لمن؟
«داداب» منطقة صحراوية قاحلة، تقع على الحدود بين كينيا والصومال، وكانت نقطة تجمع للاجئين الصوماليين الفارين من جحيم الحرب الأهلية في بلدهم. فاجتمع بها عدد كبير من الرجال والنساء والأطفال، يفوق ثلاثمائة ألف لأجئ. وقد أقامت إحدى عشرة منظمة تنصيري مواقع لها في معسكرات اللاجئين، وفي وسط الحشد الهائل من المنظمات الغربية لا توجد سوى مؤسسة إسلامية وحيدة- بارك الله في جهودها- وهي مؤسسة الحرمين الخيرية، فأقامت في كل معسكر عشرات المساجد، وبدأت تعلم الأطفال وتدرسهم حتى بلغ عدد الطلاب في مدارسها المقامة في تلك المنطقة أكثر من ثلاثين ألف طالب، وهذه المعلومات ليست جديدة على القارئ فقد كتبت فيها تقارير وافية لمن زارها من الدعاة وكذلك مندوبي مؤسسة الحرمين الخيرية.
في هذه البقعة الجرداء تظهر الصراعات العجيبة، مع الفقر والمرض والحاجة، وتسعى المنظمات إلى دعوة المسلمين إلى التنصر، بشكل علني ومباشر، وشعار الجميع المبطن (النصرانية أو الموت).
لا يرقبون في مسلم إلًاّ ولا ذمة. إنها حرب اجتمع فيها على المسلمين التنصير مع الجوع والعطش والفاقة والمرض! وفي وسط هذا السواد المظلم من دعوة النصارى، وجوع المسلمين وحاجتهم، جرت أحداث بسيطة، وواقعة سريعة تمثل الاعتزاز بالدين ورفع الرأس به، حيث طلبت الأمم المتحدة هناك اجتماعًا للمنظمات
1 / 14
العامة، بما فيها مؤسسة الحرمين، وكان مندوب المؤسسة هناك من الشباب السعودي، قال وهو يحدثني: لما دعيت إلى الاجتماع وجدت أن الموعد يوافق صلاة الجمعة، وكأنهم وقتوا للأمر. فاعتذرت لهم برسالة خطية بأنني مسلم، وهذا وقت صلاة الجمعة، ولا يمكنني إجابة الدعوة، ونظرًا لحاجتهم لحضوري لأمور تنسيقية مهمة أعادوا الكتابة وسؤالي عن الوقت المناسب. فأرسلت لهم بأن الساعة الواحدة والنصف من ظهر يوم الجمعة، بعد انتهاء الصلاة موعد مناسب، وكررت كلمة الصلاة، والإسلام في الخطاب كثيرًا.
قال: فأجابوني إلى طلبي، ولما أديت صلاة الجمعة خطيبًا، يممت نحو مكان الاجتماع، وحين دلفت إلى القاعة وقد اكتمل عقد الحضور فإذا بامرأة سافرة في وسط الجمع، مندوبة عن مؤسسة تهتم برعاية الطفولة، فتراجعت ولم أدخل، فأدركني المسئول المنظم للاجتماع وتساءل. لماذا عدت؟ ماذا جرى؟ قلت له: أنا مسلم ولا أجلس في مكان فيه امرأة سافرة لست محرمًا لها. فدخل عليهم ليبدي وجهة نظري، وسمعتهم يتداولون الأمر، ثم بعد برهة، إذا بالمرأة تحرج من الاجتماع وتمر بجواري خارجة من القاعة. عندما دخلت بعزة وشموخ، وجلست على كرسي معد لي، وضع أمامه اسم مؤسستي. وبدأ الاجتماع في وسط الحضور الكبير، وخلال دقائق فإذا بي أسمع صوت المرأة وقد أطلت بنصف رأسها مع الباب، وهي تستأذن في الدخول. فلما لمحتها إذ بها وضعت غطاء على رأسها. عندها أذنت لها بالدخول وقلت بصوت مسموع:
1 / 15
بشرط أن تبقى خلفي حتى لا أنظر إليها. فقبلت وسر الجميع بهذا القبول مني وشكروني على ذلك، وعندها أسهبت في الحديث عن تكريم الإسلام للمرأة، وكيف هي مكانة الأم، والأخت والزوجة!؟ والعجيب أن أحدًا لم يقاطعني، أو يستدرك علي! لكني أصدقكم الحديث بهذه التجربة دين الإسلام .. دين العزة والشموخ، لكن من يرفع به رأسًا!
1 / 16
الشاب وقيام الليل
شاب نحيل الجسم كثير الحياء قليل الكلام، همه الإسلام، وأين مواطن العمل لهذا الدين؟ إن رأيته فهو على عجلة من أمره يلقي لك ما لديه ثم ينصرف! هذا الشاب لم يتجاوز عمره السابعة والعشرين ومع هذا خدم وقدم للإسلام الكثير .. ترى له في كل عمل لبنة يضعها، أو رأيًا يسديه، أو دعاء يزجيه!
كل هذا المعلومات يعرفها المقربون منه ومن يعملون معه. لكني سألت يومًا من سافر معه، عن رحلتهم الدعوية، وكيف أمورهم وهل واجهوا مشقة أم لا؟ فأجاب صاحبنا بالنفي وحمد الله على تيسيره. فلما سألته عن فلان الشاب النحيل هذا، تعجب من أمر لم أكن أعرفه من قبل. فقد تحدث عن معرفة وصحبة في ليال طويلة فيها التعب، والإرهاق، والمشقة، والعنت، ومع هذا أثنى عليه بأمر تهفو له النفوس، وتتطلع له القلوب، قال: إنه صاحب قيام ليل طويل! سكت وظننت به خيرًا، فغالب الشباب الذين يعملون في حقل الدعوة لهم ورد يومي قل أو كثر. لكني تعجبت عندما قال لي: إن هذا الشاب النحيل يقوم الليلة الواحدة بخمسة أجزاء من القرآن! وما رأيته نقص طوال رحلتنا عن ذلك! خاصة في أيام نواجه فيها التعب والنصب والإرهاق.
لقد كبر الشاب في عيني وكلما رأيته بعد هذه المعلومة خطرت في بالي آية من كتاب الله ﷿: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾
1 / 17
[الإسراء: ١٩] حمد الله على نعمة هدايته .. غيره يقوم الليل في رقص ولهو، وهو يقوم مصليًا عابدًا .. غيره يركض في مهاوي الرذيلة، وهو يركض في سبيل الله ﷿. «ومن عمل صالحًا فلنفسه»!
وقفة: كان منصور بن المعتمر يصلي في سطحه، فلما مات، قال غلام لأمه: يا أماه: الجذع الذي كان في سطح آل فلان ليس أراه؟
قالت: بابني ليس ذاك بجذع، ذاك منصور قد مات.
1 / 18
الجارة الداعية
عندما جئت إلى الرياض لم أكن أعرف بها أحدًا، وحرص زوجي جزاه الله خيرًا على أن أتعرف على أخوات طيبات، قال لي: إنهن نشيطات في الدعوة إلى الله، فعسى أن تتعاوني معهن .. ولكن مرت الأيام ولم أر أثرًا لذلك التعاون، بالرغم من أنني كنت أتحدث معهن عن الأعمال التي كنا نمارسها، وبينت لهن أني على استعداد للمشاركة معهن في أي عمل دعوي، ولكنني لم أتلق أي إجابة .. مرت عليَّ الأيام ثقيلة .. ثقيلة .. فقد كانت الدعوة إلى الله تنتشلني انتشالًا، مما أنا فيه، وتنسيني همومي الدنيوية لتجعل همي هم الآخرة .. فكيف لي أن أعيش دون دعوتي؟ ... رجعت إلى أوراقي وأقلامي أنظر إليها بأسى .. وما وجدت طريقًا سوى أن ألخص بعض الكتيبات، وألخص بعض الأشرطة، أو أن أكتب مواضيع معينة، أحاول أن أبحث فيها .. وأحيانًا كنت أكتب فوائد في بطاقات أعطيها زوجي ليستفيد منها .. وأحيانًا أبحث في المجلات الإسلامية عن مواضيع تصلح لأن تكتب في نشرات، وتوزع في المدارس، وهذا ما تم بالفعل والحمد لله، إذ لابد أن أشارك ببعض الأعمال، ولابد من أفكار دعوية توزع على منطقتنا، وعلى المدارس. وهكذا مرت سنة كاملة على هذا الوضع .. إلى أن عرضت على جارتي إلقاء دروس في منزل إحدى الأخوات ... حقيقة .. لم أكن متمرسة في إلقاء الدروس بكثرة .. فقد كنت مقلة جدًا .. كنت أفضل الدعوة الورقية (أقصد الكتابة وإعداد النشرات
1 / 19
واختيار الكتب وهكذا) .. وكنت أشعر أنني لست بالجريئة عند مواجهة الناس .. ولكنني هنا شعرت بأنني لابد أن أقبل، فهذه هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لي .. فتوكلت على الله وذهبت، وما توقعت أن يكون قبولهن إلى هذه الدرجة ولله الحمد والمنة من قبل ومن بعد.
وتكرر هذا الأمر والفضل لله أولًا وأخيرًا .. ثم لتفهم زوجي لدور المرأة المسلمة في الدعوة .. ما كان يتوانى، جزاه الله خيرًا عن إيصالي لمعارف جارتي مهما بعد البيت.
من المواقف التي تأثرت بها: أنني حدثتهن مرة عن الظلم .. وبينت لهن أن المرأة تظلم زوجها عندما تسيء معاملته .. وذكرت لهن مجموعة من الأحاديث عن حسن معاملة الزوجة لزوجها .. قلت لهن عن المرأة الودود الولود العئود، التي إذا غضب عليها زوجها أتته فوضعت يدها وقالت: لا أذوق غمضًا حتى ترضى! ! قلت لهن: العئود التي تعود إلى زوجها لتسترضيه في حال كونها مظلومة أو ظالمة، بل في حال كونها مظلومة أكد .. إذ لا فضل لها في الاعتذار إن كانت ظالمة، ولكن الفضل كل الفضل أن تعذر وهي مظلومة.
حدثتهن عن ظلم الإنسان لجوارحه أذنيه ... عينيه .. يديه .. باستخدامها في معصية الله .. وكم حزنت عندما علمت أن منهن من سهرن تلك الليلة على سماع الموسيقي والرقص .. كيف حدث هذا وقد حدثتهن عن الظلم .. كيف يظلمن آذانهن .. في سماع مالا يرضي الله ويستغللن نعمة السمع في معصية الله .. تأثرت حينها ..
1 / 20
ولكن بعد فترة قصيرة، جاءتني جارتي لتخبرني بأن فلانة التي حضرت معنا الدرس، في ذلك اليوم تجهزت للخروج، في نفس اليوم الذي سمعت فيه الدرس .. تجهزت لحضور حفلة زواج .. وكان زوجها منشغلًا بإصلاح بعض الأعمال في منزلهم .. فلما رآها تهتم بالخروج، وقد كان عصبي المزاج لا يتورع عن السب والشتم .. منعها من الخروج وشتمها .. تقول: رجعت وهي تبكي، وبعد أن دخل غرفته وهي لا زالت تبكي .. تذكرت ما قلته لهن عصرًا .. تقول: فاعتذرت له وهي تبكي، تقول جارتي: ففوجئت به يبكي معها، فكان بكاؤها فرحة باستجابته الفورية بالرغم من قسوته فهي تراه لأول مرة باكيًا .. فما استطاعا تلك الليلة أن يناما من شدة التأثر .. إنها بركة الاستجابة لأوامر الله سبحانه وأوامر رسوله ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى إنما هو وحي يوحى فلله الحمد والمنة .. تذكرت حينها أن من أراد أن يدعو إلى الله يبدأ ولا ينتظر مساعدة من فلان أو علان .. أو أن يقول سأنتظر أخوات ملتزمات يوجهنني ويبدأن معي .. فلنفرض أنه لن يلتقي بمن يساعده أو من يبدأ معه فهل يضع يده على خده ويضيع أوقاته هدرًا؟ إذن المطلوب أن نبدأ والله سبحانه يوفق ويسدد .. «ومن عمل صالحًا فلنفسه».!
1 / 21
«كتاب الله ﷿»
وعى قلبها حديث الرسول ﷺ: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» فسعت إلى تعلم كتاب الله ﷿ حتى أتمت حفظه في مدة وجيزة، وعندما غلبها الكسل وحب الراحة؛ أسرت إليها إحدى صديقاتها وقالت: أريد أن تعرفي مقدار الأجر العظيم في تعليم كتاب الله ﷿. لقد قرأت حديث النبي ﷺ وأريدك أن تتمي آخر الحديث: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا» [رواه مسلم]. هاك. لو أن طالبة تعلمت علي يديك سورة الفاتحة فحسب، ثم لما شبت عن الطوق وبلغت سن التكليف وصلت فرضها، فإنها تقرأ الفاتحة في اليوم والليلة سبع عشرة مرة. وعدد حروف سورة الفاتحة ١٤٨ حرفًا. فمعنى ذلك أنها قرأت في اليوم والليلة ٢٥١٦ حرفًا والنبي ﷺ يقول «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة. والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول «ألم» حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» [رواه الترمذي].
وعلى فرض أنها تصلي النوافل والسنن الرواتب، فكم مرة تقرأ الفاتحة؟ وعلى فرض أن هذه الطالبة تدرس الفاتحة لطالباتها غدًا .. الأمر كبير والأجر عظيم.
ولهذا كان أبو عبد الرحمن السلمي جالسًا يقرئ القرآن ويعلمه للناس سنوات طويلة من خلافة عثمان بن عفان ﵁ إلى إمرة الحجاج، أي أكثر من ستين عامًا. وعندما قيل له في
1 / 22