والكتاب ينقسم إلى جزأين: الجزء الأول تاريخي قص فيه أرسطاطاليس ما أصاب النظام الأتيني من استحالة وانتقال إلى أواخر القرن الخامس. والثاني نظامي بسط فيه المؤلف النظام السياسي والإداري والقضائي لأتينا في القرن الرابع، وقد بسط هذا النظام بسطا موجزا، ولكنه شديد الوضوح، فكان هذا الكتاب من أحسن المثل لهذا العقل الذي رتب فأحسن ترتيبه، والذي جمع لنفسه بين المزيتين اللتين لا يستغني عنهما عالم وهما دقة اللفظ ووضوح دلالته على المعنى.
على أن هذا الكتاب مع أنه علمي لا يخلو من جمال فني، ومصدر هذا الجمال هو نفس هذا الإيجاز، فكثيرا ما ترى أرسطاطاليس قد خط بقلمه جملة صغيرة فأوضح بها ناحية من نواحي الحياة الأتينية، كأنه قد أرسل عليها من النور نهارا مضيئا.
وكثيرا ما تجد لفظا أو وصفا قد وضع في الجملة كأن الكاتب قد ألقاه من غير عناية، ولكنه يمثل أحسن تمثيل أخلاق بطل من أبطال الأتينيين أو زعيم من زعمائهم، هذا إلى صدق الحكم وصحة الاستنتاج وإجادة فهم الحوادث التاريخية.
على أن المحدثين قد أنكروا عليه فهمه لبعض الحوادث، وسنشير إلى ذلك في موضعه، أما مراجع الكتاب فتنحصر في ثلاثة أشياء: (1)
الآثار الأدبية التي تركها المتقدمون، ومن ذلك روايته لأشعار سولون ولبعض الأغاني التي كان يتغنى بها على موائد الطعام والشراب، والتي كانت تشير إلى بعض الحوادث السياسية. (2)
كتب التاريخ فقد صرح مرة بالنقل عن هيرودوت، وليس من شك في أنه قرأ توكوديدوس «توسيديد» واستعان به كما تدل على ذلك مقابلة ما كتبه الرجلان عن بعض حوادث القرن الخامس. (3)
المصادر الرسمية والنقوش، فكثيرا ما يذكر لنا نصوص القوانين المختلفة ونصوص النقوش التي كانت لا تزال موجودة في عصره في مواضع مختلفة من أتينا.
والكتاب كما هو أحسن صورة موجودة تمثل الحياة السياسية اليونانية، وهو مع هذا صورة حية لنشأة الديموقراطية واستحالتها ورقيها قليلا قليلا حتى تصل إلى أقصى ما يقدر لها من النمو وسعة السلطان.
في هذا الكتاب بحكم الضرورة ألفاظ يونانية كثيرة ليس من سبيل إلى ترجمتها؛ لأنها تدل على معان لم يعرفها المحدثون من الإفرنج والعرب؛ لذلك احتفظ بها المترجمون الأوروبيون واحتفظت بها أنا أيضا في الترجمة العربية مفسرا كل لفظ منها تفسيرا موجزا، ولم أشأ أن أغير صورتها اليونانية بما يسمونه التعريب إلا في لفظين اثنين سيراهما القارئ في أثناء الكتاب، ولست أريد أن أختم هذه المقدمة الطويلة من غير أن أقدم أجمل الشكر وأطيب الثناء إلى صديق صباي وشبابي «محمود حسن زناتي»، فأنا مدين له بظهور كتبي؛ لأنه هو الذي أخذ نفسه بتصحيحها ومراجعتها قبل الطبع وفي أثنائه، وليس ذلك بالشيء القليل، لا سيما إذا لوحظ أني عن كل هذا عاجز كل العجز وقاصر كل القصور.
طه حسين
Неизвестная страница