12
الذي يقال في مقابل ما هو ظاهري، وفكرة العلة الأولى؛ أي ما هو علة لذاته، وفكرة الله - وسوف نعرض لهذه الفكرة الأخيرة بالتفصيل فيما بعد - والذي يعنينا هنا أن نيتشه يوجه إلى الميتافيزيقا التقليدية نقدا عنيفا مفصلا، يتناول كل أسسها ومبادئها الرئيسية، حتى يصل به الأمر إلى حد أن يقدم للميتافيزيقا تعريفا ساخرا، هو: إنها «هي العلم الذي يبحث في الأخطاء الأساسية للإنسان، كما لو كانت هي الحقائق الأساسية!»
13
ولم يكن لنقده هذا من هدف إلا القضاء على ما تدعيه تلك الميتافيزيقا لنفسها من ترفع عن هذا العالم وعلو عليه، والحملة على العالم المفارق الذي تخلقه وتضفي عليه من الفضائل ما تأباه على عالمنا الأرضي.
نقد
هكذا يتبين لنا أن الروح التي أملت على نيتشه نقده للميتافيزيقا هي روح واقعية، بل نستطيع أن نسميها روحا علمية، ما دامت كل الفلسفات العلمية الحديثة - على اختلاف اتجاهاتها - تتفق معه فيها. على أن هذه الروح الواقعية أو العلمية قد اتخذت للوصول إلى هدفها وسائل تناقض الغاية التي استهدفتها في أول الأمر.
ذلك لأن نقد المعرفة الإنسانية على النحو الذي قام به نيتشه، ينطوي على عناصر عديدة يمكن أن يقال عنها إنها غير واقعية على الإطلاق؛ فهو حين يؤكد أن العقل يزيف الواقع عن طريق إضفائه صفة الثبات عليه ، وأن الحواس بدورها تساهم في هذا التزييف؛ إذ تحيل تيار التغير الدائم إلى «أشياء» جامدة منفصلة، حين يؤكد ذلك، فهو يفترض بلا شك تجربة غير إنسانية تمكنه من أن يصدر على الأمور مثل هذا الحكم، وافتراض تجربة غير إنسانية هو - بلا شك - أمر مناقض للروح الواقعية.
ولنتأمل جيدا مغزى هذا النقد، لا لأن نيتشه هو الذي يوجهه فحسب، بل لأنه يمثل نغمة تتردد لدى فلاسفة كثيرين ومذاهب عديدة، وحسبنا أن نشير إلى الضجة الكبرى التي أثارها برجسون حين ردد هذه النغمة ذاتها. هؤلاء الفلاسفة ينعون على العقل البشري تجميده وتثبيته للواقع، وعلى الحواس البشرية خشونتها، ويجد هذا الاتجاه قبولا لدى الكثيرين؛ إذ يصور الواقع في صورة دائمة التحول، فيرضى بذلك أصحاب الأمزجة الشعرية في التفكير، ويلائم أنصار النزعة اللاعقلية بوجه عام. ولكن لنقف قليلا عند هذا النقد لوسائل المعرفة البشرية، ولنناقش القائلين به، وعلى رأسهم نيتشه وبرجسون، مناقشة هادئة، لنتبين دلالته الحقيقية، التي تكمن من وراء مظهره الخادع.
إن القول بأن أدوات المعرفة البشرية لا تنقل إلينا الواقع على ما هو عليه، هو بلا شك قول باطل، وكل محاولة فلسفية لرسم صورة للواقع بخلاف تلك الصورة التي تمثله به وسائلنا في المعرفة، هي محاولة لا ينبغي أن يعول عليها؛ ذلك لأننا لا نملك وسائل للمعرفة غير هذه، ولا نعرف طبيعة الواقع إلا عن طريقها؛ فمن أين عرف هؤلاء الناقدون طبيعة الواقع «على ما هو عليه»؟ وما هي الوسائل التي توصلوا بها إليه؟ إن نقدهم ليتخذ صورا مختلفة؛ فهو ينصب أحيانا على العقل الذي يبعث من عنده ثباتا وجمودا لا تعرفه طبيعة الواقع، كما هو الحال عند برجسون، أو على اللغة والمبادئ العقلية التي تصور طبيعة الواقع المتغير تصويرا زائفا، كما هو الحال عند نيتشه، أو على الذهن ومقولاته التي تضفي على معرفتنا صبغة «ظاهرية»، وتخفي عنا حقيقة «الشيء في ذاته»، كما هو الحال عند كنت؛ أقول إن نقدهم يتخذ مثل هذه الصور المختلفة، ولكن الروح الكامنة من وراء الصور كلها واحدة ، بل إن القائلين بها يجمعهم كلهم ميل واحد، لا أكون مغاليا إذا أسميته ميلا مثاليا.
وقد يبدو من الغريب حقا أن تجمع بين نيتشه وكنت، وتجعلهما منتمين إلى طائفة واحدة من الفلاسفة، وقد يبدو من الأغرب أن نقول بوجود ميل إلى المثالية لدى نيتشه، وهو الذي وجه إلى المثالية كل هذا النقد العنيف. ولكن علينا أن نلاحظ أن نيتشه على الرغم من حرصه على توجيه نقده إلى تفرقة كنت بين العالم الظاهري وعالم الشيء في ذاته، قد اعترف بهذه التفرقة ضمنا، حين أكد أن للواقع صورة تخالف الصورة التي ترسمها له وسائل المعرفة الإنسانية. فعند نيتشه - بلا جدال - عالم ظواهر، هو ذلك العالم الذي يتكشف لنا من خلال الحواس، والذي يخضعه العقل لمبادئه وتعبر عنه اللغة بطريقتها الخاصة، وعالم حقيقي، أي عالم الشيء في ذاته، وهو ذلك العالم المتغير المتحول الذي هو في صيرورة دائمة، تخالف كل ما تصوره لنا وسائلنا في المعرفة. وهكذا يتأثر تفكير نيتشه بالثنائية الكنتية تأثرا هو حقا ضمني غير صريح، ولكنه مع ذلك واضح لا ينكر. وإذن، فلا شك في أن عناصر مثالية قد تغلغلت في تفكيره، لأن الفلسفة المثالية كلها لم تتضح معالمها إلا منذ أن فرق كنت بين هذين العالمين، ومنذ أن أكد أن الصورة التي نضفيها على العالم إنما هي صورة خلقتها وسائلنا الخاصة في المعرفة، فهي من تكوين الذهن الإنساني فحسب، وتلك كلها نتائج يوافق عليها نيتشه، بل يعبر عنها صراحة في كتاباته.
Неизвестная страница