ففي هذه الفترة الأخيرة بدورها يظل المبدأ العام الذي يسير عليه نيتشه هو تمجيد الحياة الأرضية، وإضفاء المعنى الإنساني - لا الإلهي أو الميتافيزيقي - على هذا العالم. أما النزعة اللاعقلية، فتفترضها ضمنا فكرة التصوف، وتعبر عنها صراحة دعوته إلى الإنسان الأرقى، الذي تسود حياته «الغرائز»؛ أي القوى الحيوية التلقائية، لا العقل المجرد.
وهكذا نلاحظ في كل هذه الفترات اتجاها عاما واحدا، هو الاتجاه إلى نقد المعقولية التجريدية، وتمجيد الحياة وإعلائها، والتعلق بالطبيعة والحياة الأرضية. في هذا الاتجاه تتمثل وحدة شخصية نيتشه، التي لازمته طوال مراحل تفكيره. وليس معنى ذلك أنه قد تعلق بهذه المبادئ تعلقا متحجرا، بل إنها قد اتخذت - كما لاحظنا - أشكالا متباينة، وعبرت عن نفسها بأساليب مختلفة، مما ينفي عن نيتشه تماما صفة «المذهبية» بمعناها التقليدي الجامد، ولكنها في نفس الوقت تظل كامنة من وراء ما اتخذته من مظاهر مختلفة، فتؤكد بذلك أن الذهن الذي يفكر واحد، وأن لشخصيته عناصرها الأساسية، وتنفي عنه تلك المزاعم التي أراد أن يلصقها به هواة التفكير الشعري الخيالي، مزاعم التناقض الصريح، والجموح الدائم، والانتقال المتواصل بين الأضداد.
الفصل الثاني
انقلاب القيم
إذا شئنا أن نلخص ما يميز العقلية العلمية الحديثة من العقلية الخرافية الغابرة في عبارة واحدة، لقلنا إنه تخلص العقلية العلمية من صفة التشبيه بالإنسان
anthropomorphisme
التي غلبت على العقلية الخرافية؛ ذلك لأن أوضح مظهر من مظاهر التأخر في التفكير البدائي، هو طبع الصور الإنسانية على العالم الخارجي، بحيث يبدو ظواهر ذلك العالم كأن لها معنى إنسانيا، وكأنها قد استهدفت غايات بشرية معينة. وهكذا رأينا العالم، في التفكير الخرافي، يحتشد بالآلهة والقوى الخفية، التي هي وسيلة طبع الصورة الإنسانية على العالم. فظاهرة المطر مثلا تحدث بفعل إله المطر، الذي ينبغي إرضاؤه على نحو إنساني تماما، حتى يجود على الأرض بالغيث. ويظل هذا التشبيه للطبيعة الخارجية بالإنسان يمتد بالتدريج، حتى يتسع لكل الظواهر، فلا يغدو الكون كله إلا مجالا مكبرا لغايات الإنسان وأمانيه.
وقد يبدو للبعض أن هذه النظرة التشبيهية بالإنسان قد انقضت بانقضاء عهد الخرافة الأولى، وحلول عهد التفكير العقلي المنظم، في الفلسفة اليونانية على الأقل. ولكن الحقيقة بخلاف ذلك؛ ذلك لأنه إذا كانت الطريقة البدائية في التفكير، وفي ملء الكون بالآلهة والأشباح والقوى غير المنظورة؛ إذا كانت طريقة التفكير هذه قد اختفت في ذلك الحين، وحل محلها تفسير عقلي للعالم، فقد ظلت مع ذلك قائمة، ولكن في صورة مستترة يدق فهمها. أما هذه الصورة الجديدة، فهي الاعتقاد بالقيم الموضوعية المطلقة.
فلنتأمل مثلا طريقة تفكير أفلاطون، حين يضع مثال الخير فوق قمة المثل، ويؤكد أن الخير ليس أرفع القيم فحسب، بل لا يقتصر على كونه قيمة من القيم، وإنما هو أيضا «خالق الكون»؛ أعني حين يضفي على الخير معنى أنتولوجيا، ويجعل له قواما كونيا، لا معنويا فحسب. في هذا التفكير تتردد الصورة القديمة، التشبيهية بالإنسان، وإن تكن مغلفة بإطار من الجدل المنظم الدقيق، ومصوغة في قالب منطقي محكم؛ ذلك لأنه إذا لم يعد الخير مجرد معنى إنساني، وإنما قوة موجهة للكون، فالنتيجة المباشرة لذلك هي أن الكون قد اصطبغ بصبغة إنسانية. فلتبحث إذن عن معنى إنساني في كل ظاهرة كونية، وسوف تجده حتما؛ إذ إن الكون قد خلق «من وجهة نظر الخير»؛ أعني أن له معنى ملائما للإنسان، وفي وسع الإنسان أن يهتدي إلى ذلك المعنى إذا تعمق في تأمله. وهكذا يتبين لنا أن آثار العقلية الغابرة قد ظلت عالقة في الذهن الإنساني خلال مراحل طويلة من تاريخه، واتخذت صورا ظاهرها رائع حقا، أوضحها تلك الصورة التي تجعل للكون قوة خالقة هي في نفس الوقت قوة خيرة، وهي صورة لم تقف عند حد أفلاطون، بل ظلت ملازمة للإنسانية طويلا في مظاهر مختلفة، ولا تستطيع أن تقول إنها قد تخلصت منها حتى اليوم.
ولكن ما الذي يضيرنا في هذه الصورة الإنسانية التي تطبع على الكون؟ أليست على الأقل تبعث أملا باسما في الإنسان؟ ألا تجعل بينه وبين الكون نوعا من الألفة هو أحوج ما يكون إليه؟ أليست خيرا من شعوره بأن القوى المحيطة به في الكون قوى غريبة عنه، لا تعبأ به ولا تعمل من أجله؟ الحق أننا نسلم بأن الأصل في طبع القيم الإنسانية على العالم هو الرغبة في الشعور بالألفة وسط عالم غريب، وهو شعور قد يبدو مفيدا للإنسان مطمئنا لنفسه؛ ولكن لنتأمل نتائج هذا الشعور بالألفة بين الإنسان وبين العالم عن كثب، لكي نتبين آخر الأمر إن كان قد أفاد الإنسان بالفعل أم ألحق به الضرر.
Неизвестная страница