قد يكون كتاب «مولد المأساة» أكثر الأشياء الرهيبة التي اتهم بها نيتشه وآخرون غيره المسيحية، ولكن هذا الكتاب أثبت أنه مصدر خصب لإلهام علماء الأنثروبولوجيا والباحثين الكلاسيكيين. كما كان له تأثير قوي على الخيال العام، بفضل تركيزه على الثنائية الأبولونية والديونيسيوسية. كما أنه كتاب مثمر في قراءاته؛ فما إن تتضح فكرته العامة حتى نجد العديد من الرؤى المتميزة التي لا توجد في أي عمل آخر لنيتشه. ولكنها لا تغني عن نوع معين من القراءة المتعمقة؛ تلك القراءة الرائجة اليوم وتبحث عن الالتباس والصدع وتدمير الذات، وبقية أدوات التفكيكيين. ووحدها الكتب التي تبدو أنها تحقق وحدة الفكر التي يفتقر إليها كتاب «مولد المأساة» ستفعل ذلك بلا جدال. تظهر تلك الوحدة فقط في الحماس الذي يصمم نيتشه على ربطه بعملية الإحساس بأهم اهتماماته، وتجسدها مثله العليا. وبعبارة أخرى، فإنه كتاب شاب يعتبر أقل موضوعية مقارنة بكتبه اللاحقة فيما يتعلق بقربه من مؤلفه. وربما اللافت أنه أشد تعبير متفاءل كتب يوما عن رؤية كونية متشائمة.
الفصل الثالث
التحرر من الوهم والانسحاب
إن السنوات التي كللت بكتابة «مولد المأساة» كانت هي الأسعد في حياة نيتشه، بل وفي واقع الأمر كانت الأخيرة قبل أن يصيبه المرض والوحدة والنبذ. عندما غادر آل فاجنر مدينة تريبشن وانتقلوا إلى بايرويت عام 1872، انتهت علاقة (علاقات) نيتشه الشخصية الأدوم في دفئها وإثمارها. وفي غياب فاجنر، بدأ نيتشه يشكك في جودة مسرحياته الموسيقية وغايتها؛ تلك التي ظل يتفكر فيها حتى نهاية حياته. ولكنه ظل مع هذا فاجنري الطابع لدى الناس، مجندا لشن دعاية لصالح قضية كانت في أمس الحاجة إلى ذلك. وبسبب قلق نيتشه من وضع الثقافة الألمانية، التي سرعان ما بدأ يشعر أنه بالغ كثيرا في تقديرها في «مولد المأساة»، عكف على كتابة سلسلة من الأوراق للزمن؛ لهذا أسماها «تأملات في غير أوانها». ورغم أنه خطط لتأليف ثلاث عشرة، فإنه لم يكتب سوى أربع. وربما كانت تكفيه اثنتان. فببلوغها خمسين صفحة ونيفا، كالمقالات الطويلة، فإنها تبين نيتشه عاجزا عن اكتشاف قالب يناسب مواهبه؛ إذ إنه في أثناء محاولته لعرض حجة وبسطها بأسلوب أقل حماسا من «مولد المأساة»، يلجأ للمرة الوحيدة في حياته إلى البعثرة والحشو.
ولكن توجد مشكلة أهم من تلك في «تأملات في غير أوانها»، فبينما يوجه نفسه نحو تقييم مدى ازدهار الثقافة المعاصرة، مع هجوم على العجوز ديفيد شتراوس - مؤلف «حياة المسيح»، و«الإيمان القديم والجديد»؛ الكتاب الأخطر بالنسبة إلى نيتشه - ونحو ممارسة علم التاريخ، ثم نحو الاحتفاء بعبقرية شوبنهاور وفاجنر، فإنه - باستثناء التأمل الثاني، «فيما يتعلق بفوائد التاريخ وعيوبه بالنسبة إلى الحياة» - لم يجد موضوعات تتوافق توافقا كافيا مع اهتماماته. فكتاب شتراوس الذي اختاره للنقد في التأمل الأول يعد كتابا سهل القراءة للغاية، فهو مادة للازدراء الذكي لا يمكن مقاومتها، لدرجة أن المرء يتعجب لماذا يعبأ به نيتشه، وهذا ما يبدو واضحا أنه يفعله. ومع هذا، فإنه يستحق أن يقرأ كاملا؛ فهو يتناول الموضوعات نفسها تقريبا التي يتناولها كتاب ماثيو أرنولد «الثقافة واللاسلطوية»، والطريقة الأجدى لقراءته هي أن يقرأ جنبا إلى جنب مع الكتيب السطحي والمؤثر الذي يشترك معه في مصطلحاته بدرجة مدهشة. كما أنه يحتوي على أحد المصطلحات الأكثر إلهاما التي صاغها نيتشه، وهو مصطلح «غير المتأثر بالثقافة»؛ أي الشخص الذي يعرف ما يجب أن يعرفه، ويحرص على ألا يكون لما يعرفه تأثير عليه.
يعتبر التأمل الثاني عملا عظيما، فهو تأمل حقيقي لمدى قدرتنا على التأقلم مع عبء المعرفة؛ المعرفة التاريخية تحديدا، مع تمكننا في الوقت نفسه من الاستقلال الذاتي التام. وينتهي بمناشدة محرضة لنا لاعتناق المفهوم الإغريقي للثقافة والمناقض للمفهوم الروماني، باعتبار أن الأول يدور «حول الثقافة بوصفها طبيعة جديدة ومتطورة، دون ظاهر أو باطن، دون رياء وأعراف، الثقافة بوصفها توافقا للحياة والفكر والمظهر والإرادة» («تأملات في غير أوانها»، التأمل الثاني، 10). هذا أمر عظيم ، لكن هذه المشاعر تتسم بالسمة الخطابية لدرجة أنه ما من شيء في متن النص يجيب عنها على نحو مرض.
يتسم التأمل الثالث؛ «شوبنهاور معلما»، بأنه مربك، ويرجع ذلك بصفة أساسية إلى عدم عنايته بشوبنهاور كثيرا. كانت تبعية نيتشه لشوبنهاور المتشائم المنقوص تتضاءل، وما كان يمدحه عليه في الأغلب هو ازدراؤه للفلاسفة الجامعيين، ولكن شوبنهاور كان قد فعلها على نحو أفضل في مجموعة تأملاته «زيادات ومحذوفات». أما عن التأمل الثالث والأخير؛ «ريتشارد فاجنر في بايرويت»، فهو قراءة مؤلمة. حتى لو لم تكن لدينا فكرة عن أن نيتشه كان - في نفس وقت كتابته - يطرح في دفاتر ملاحظاته أسئلة خطيرة عن فاجنر، كنا سنستشعر وجود مشكلة ما. لقد كانت هذه هي المناسبة الوحيدة التي بدا فيها نيتشه غير صادق، محاولا استعادة حالة عقلية كانت رائعة وقت استمرارها، ولكنها كانت تندفع بسرعة رهيبة نحو الماضي. لكن التفسير الوحيد لحماس فاجنر تجاهها، حين قال: «صديقي، كيف عرفتني جيدا هكذا؟» هو أنه كان منشغلا جدا عن قراءتها. وهي تعتبر، بطريقتها الخاصة، مقدمة ملائمة للحدث الحاسم التالي (أو أحد الأحداث القلائل) في حياة نيتشه: حضوره مهرجان بايرويت الأول عام 1876، وانفصاله عن فاجنر.
رحب معظم المفسرين الذين تناولوا أعمال نيتشه بكثير من الارتياح بعدائه لفاجنر؛ ربما لأنهم يعتقدون أن هذا يعفيهم من معرفة المزيد عن فاجنر. ولكنه بالطبع لم يحقق هذا، بما أن فاجنر هو الشخص الذي يستمر وجوده كثيرا في كتابات نيتشه مقارنة بأي شخص آخر، بمن في ذلك سقراط أو المسيح أو جوته. ولكن عند مستوى معقد، قد يشعرون أن نيتشه لم يكن صادقا مع نفسه عندما كان معجبا بفاجنر، ثم أصبح صادقا مع نفسه بإحداث هذا الانفصال المؤلم للغاية، الذي لم يعه فاجنر لمدة طويلة. وفي الواقع، فإن تحديد العوامل، بترتيب أهميتها، التي أدت إلى هذه النتيجة أمر مستحيل. لا شك أن توقعات نيتشه الساذجة عما سيكون عليه شكل مهرجان بايرويت جاءت مخيبة لآماله على نحو مدمر؛ وكذلك كانت توقعات فاجنر، ولكنه كان يعلم ملابسات الموقف. كان يجب تصفية الحسابات، على الرغم من أن هذا للأسف لم يتحقق؛ ولكن المحاولة كانت تهدف إلى التودد للثري، وتحويل ما كان يجب أن يكون مهرجانا يحتفل فيه المجتمع بقيمه المشتركة بأقل التكاليف إلى شيء تجلى فيه عالم الأثرياء من متجاهلي الثقافة، إلى جانب المنتمين إلى الطبقة الراقية وغيرهم ممن ليست لهم صلة بالحدث.
بعد الفزع الذي شعر به نيتشه تجاه هذه الصحبة، فر إلى المنطقة الريفية القريبة ليتعافى من أوجاع رأسه المتزايدة. هناك، وفي وقت لاحق، تأمل بإمعان علاقته بفاجنر الإنسان والفنان. لقد صار بالتأكيد في مزاج يجعله يرفض أن يكون تابعا لأي شخص، ولا بد أن هذا كان عاملا رئيسيا. ربما كان واقعا في غرام كوزيما؛ الدليل غير حاسم ولكنه يجعل الفكرة معقولة. أما التفسير الأقل إقناعا، فهو ما ركز عليه نيتشه علانية بأن فاجنر قد اعتنق المسيحية. وكان استقبال قصيدة «بارسيفال» فيما يبدو هو القشة التي قصمت ظهر البعير. ولكنه كان حاضرا عام 1869 عندما قرأ فاجنر علانية مسودة القصيدة، وسمع فاجنر يتحدث عن الموضوع، ومن ثم لا يمكن أن تكون هذه القصيدة هي القنبلة التي ادعى أنها السبب. ولا يمكن أن نسقط من الاعتبار طموحات نيتشه كموسيقار، وهي أكثر إحباطاته إحراجا. فهو رجل يستطيع أن يعزف بلا احتراف مقطوعات البيانو الخاصة به أمام فاجنر، ويستطيع - حتى وقت لاحق - مواصلة تأليف مقطوعات كورالية تبدو مثل ترانيم الكنيسة الطائفية مع بعض النغمات الخاطئة ولكنها تسمى «ترنيمة للحياة» أو «ترنيمة للصداقة»، ولكن كان من الواضح أنه غير قادر على تقييم مواهبه الخاصة في هذا الشأن.
ولم يشعر نيتشه بالإحباط باعتباره موسيقارا فحسب. فقد كان بصفة عامة فنانا مبدعا «فاشلا». وهذا يفسر بصورة كبيرة الطريقة المتعجرفة التي يتعامل بها مع الفنانين العظماء، حتى أولئك الذين يعجب بهم كثيرا، على مدار أعماله. وهو يعتبر العضو الأكثر تميزا في هذه الفئة من الكتاب؛ الذين يتمتعون بفراسة لا تضاهى في أفضل حالاتهم، وفي أسوأ حالاتهم يتسمون بالعجرفة والتحريف؛ والذين يبحثون في فن الآخرين بسبب عجزهم عن إنتاج الفن بأنفسهم؛ لكي يبلوروا رؤيتهم الخاصة. وربما يكون جميع النقاد العظماء (أو فئة صغيرة منهم على أية حال) على هذه الشاكلة. فالمرء بالتأكيد لا يلجأ إليهم بحثا عن تفسيرات دقيقة للأعمال التي يتناولونها؛ إذ يمكن ترك هذا للنقاد المجيدين وحسب. ولكن من المبهج رؤية الفنانين العظماء، الذين تبرز صورهم عادة بوصفهم «كلاسيكيين»، في ضوء خيال متقد يقدم عنهم وجهة نظر «متحيزة» على نحو غريب ومبالغ فيه. وربما تفسر، أفضل من أي شيء آخر، الأثر المستمر لأعمال مثل «مولد المأساة».
Неизвестная страница