لا يبدو هذا شديد الغرابة فقط بسبب التعلق بمجموعة قيم راسخة على مدار آلاف السنوات؛ إذ إن مجرد فكرة الرغبة في الباطل، أي معرفة أن المرء يرغب فيه، تتسم بالحماقة. من المقبول للغاية أن نقول: إن المرء يريد أن يبقى جاهلا بأمر ما ، أو غير مهتم بما قد تكون عليه صورة الحق فيه، فكثيرا ما نفعل ذلك. ولكن القول أو الادعاء بأن المرء يريد الباطل بشأن أمر ما يحمل في طياته تناقضا منطقيا. إنه لشأن يختلف إلى حد ما عن الرضا الخانع بغياب الصرامة التي يبحث بها المرء عن الحق، كما هو حال الجميع تقريبا فيما يتعلق بالأمور المهمة كافة. كما أنه يختلف عن الرغبة في تصديق ما هو زائف في الواقع، على الرغم من أننا لا نعلم ذلك. فلا غرابة في قول: «العديد من معتقداتي زائف»، وهو ما سيتفق معه أي شخص عاقل. ولكن، ثمة غرابة أخرى في قول: «العديد من معتقداتي زائف، بما في ذلك الآتي: ...» ثم يسرد قائمة؛ ذلك لأن المرء حين يقول إن شيئا زائف، فإنما يعني أن يقول إنه لا يؤمن به.
سأسهب في الحديث عن هذه النقطة؛ لأنه يبدو بالفعل أن نيتشه يقترح أننا نستطيع التحقيق في مسألة لماذا نملك إرادة الحق، أي: إرادة الموافقة على قضايا قد تأكدنا من حقيقتها، أو نعتقد أننا فعلنا ذلك. لو كان يعني هذا بالفعل، فقد التبس عليه الأمر. ولو افترضنا أنه لم يكن يعنيه، فماذا كان يعني؟ إنه يواصل (بدهاء مميز) تغيير الموضوع بمعدل قد يفقدنا تركيزنا، لو لم نحترس، تجاه ما يتناوله. ومن ثم، فإنه ينتقل في الجزء الثاني إلى نطاق أوسع من الموضوعات، التي أكثرها بحثا هو «الإيمان بقيم نقيضة» لدى الميتافيزيقي. وهو يشير بذكاء إلى أن الميتافيزيقيين، الذين كان يهاجمهم منذ انفصاله هو نفسه عنهم في «مولد المأساة»، على الرغم من أنهم يميلون إلى الادعاء بأنهم يشكون في احتمالية كل شيء، لا يحققون في احتمالية اشتقاق الشيء من نقيضه. وبما أنهم، على سبيل المثال، ينكرون أن حب الغير يمكن أن ينبع من حب الذات، ونقاء القلب من الشهوة، والحق من الباطل، فإنهم يضعون فرضية «حضن الكون، اللافاني، الإله المخفي، «الشيء في ذاته»»، إذ ما من شيء أقل قوة سيكون كافيا ليكون مصدر قيمنا. بعبارة أخرى، فإن تلك القيم التي لم يستخدمها نيتشه هنا، ولكنه استخدمها كثيرا في مواضع أخرى، ترجع في الأصل إلى أفلاطون. فهناك الزيف، والقبح، والشر (الشهوة) في الدنيا، ومن ثم لا بد أن تنبع نقائضها مما فوق الدنيوي.
على النقيض من ذلك، يشكك نيتشه:
فيما إذا كانت ثمة أضداد على الإطلاق، وثانيا فيما إذا كانت تلك التقييمات وأضداد القيم الرائجة التي طبع عليها الميتافيزيقيون بخاتمهم، ربما ليست مجرد تخمينات سطحية، بل مجرد منظورات مؤقتة ... منظورات أشبه بمنظور الضفدعة المحدود إن صح هذا التعبير المستعار من الرسامين الذين درجوا على استعماله. ومع الإقرار بكل القيمة التي قد يستحقها الحقيقي والحقاني والإيثاري، فإنه سيظل من الممكن في نظر كل حياة أن نضفي قيمة أعلى وأكثر جوهرية على التظاهر وإرادة الخداع والمصلحة الذاتية والشهوة، بل من الممكن كذلك أن يكون قوام ما يجسد قيمة تلك الأشياء الخيرة والمحترمة هو أنها قريبة ومقترنة ومتجانسة على نحو ماكر مع تلك الأشياء الرديئة والمضادة لها ظاهريا، أو هو أنها مماثلة لها ربما. ربما! «ما وراء الخير والشر»، الفصل الأول، 2
إن التخمين بهذا المستوى خطير، ونيتشه لا يكف. إذا عدنا للوراء، فدعونا نلاحظ إلى أي مدى قد غير بالفعل تركيزه منذ الجزء الافتتاحي. ففي الوقت الحالي، نجده يمعن النظر ليس في إرادتنا للحق، وإنما في إرادتنا للتفكير بأن أنواعا معينة من التصريحات حقيقية، تلك التي تتناقض فيها الأشياء التي ننظر إليها بتدن مقارنة بالأشياء التي نعلي قيمتها. وما يفعله هو تقديم الأمثلة، التي يأمل أن نعتبرها مرفوضة ولكننا لا نستطيع دحضها، عن كيفية أن ما نعتبره القيمة الأساسية للحق هو في الواقع مشتق من قيم أخرى أكثر غريزية. إننا ننظر إلى الحق - طبعا لو كنا فلاسفة - بوصفه موضوعا للتأمل الواعي. ولكن، إذا انتقلنا إلى فكرة نيتشه التالية، فإنه يرسخ الجزء الأكبر من نشاط الفيلسوف عند المستوى الغريزي، ويدعي أن الأفكار الواعية للفلاسفة تمليها عليهم أهواؤهم، أو «تخميناتهم، أو بعبارة أوضح مطالب فسيولوجية للحفاظ على نوع معين من الحياة » («ما وراء الخير والشر»، الفصل الأول، 3). يبدو هذا أمرا مؤسفا، ولكن مع هذا، يواصل نيتشه فكرته في جزء آخر مثبط للفكر بقوله:
إن خطأ حكم ما لا يشكل عندنا بالضرورة مأخذا على الحكم. ولعل هذا من الأمور الأغرب وقعا على السمع في لغتنا الجديدة. فالمسألة هي بالأحرى إلى أي مدى يكون الحكم منميا للحياة، ومحافظا على الحياة، ومحافظا على النوع، بل وربما محسنا للنوع؟ ... فأن نقر باللاحقيقة شرطا للحياة يعني بالطبع أن نبدي وبصورة خطيرة مقاومة ضد ما اعتدنا عليه من مشاعر قيمية. والفلسفة التي تجازف بهذا، تطرح نفسها - بهذا وحده - فيما وراء الخير والشر. «ما وراء الخير والشر»، الفصل الأول، 4
تطرح مثل هذه الفلسفة نفسها فيما وراء الخير والشر بقوة نكرانها للأسس التي نبني عليها أحكامنا القيمية. كما أنها - أعتقد كجزء من نية نيتشه للتلميح - تجعلنا علماء أنثروبولوجيا في نظرتنا إلى المشهد الإنساني بأكمله، كي نكون فيما وراء الخير والشر بالصورة ذاتها التي يكون فيها علماء الأنثروبولوجيا المختصون بدراسة القبائل البدائية «فيما وراء» مفاهيم القبائل التي يدرسونها. ولكن هذا يرفعنا في الواقع إلى مكانة أعلى شأنا، نحن الفلاسفة الجدد، حسبما يصنفنا نيتشه ويصنف نفسه في «ما وراء الخير والشر» من خلال العنوان الفرعي «مقدمة لفلسفة المستقبل». أي شخص مهتم بعمل بعيد المنال للغاية مثلما كان نيتشه مهتما منذ أن بدأ «أفكار حول تحيزات الأخلاق» في «الفجر» سيشعر بنفسه يشغل مكانا أعلى وأعلى بينما يدرك أن كل شيء يتعلق بالأخلاق متحيز، ولكن هذا يخلق بالفعل مشاكل خطيرة فيما يتعلق بكيفية بلوغ هذا المنظور السامي للغاية ثم الحفاظ عليه. يمثل نيتشه بصورة ما الوضع العكسي لما يعرف ب «معضلة عالم الأنثروبولوجيا». وهي تدور حول الكيفية التي يمكن بها للمرء فهم قبيلة لا يشاركها مفاهيمها؛ إذ يعني الفهم في جزء منه الاستعداد لتطبيق نفس المفاهيم في نفس المواقف. وإذا كانت اعتراضات امرئ تتسم بنفس شمولية اعتراضاتنا على قبيلة تمارس الشعوذة، بناء على مجموعة من الآراء حول العلاقة السببية بين المناهج والطقوس التي يؤديها بعض أفراد القبيلة، والحالة الناتجة عن بعض الأفراد الآخرين، إذن فيبدو كما لو أننا بصورة ما لا نستطيع فهم ما يجري، أو على الأقل هذا ما فكر فيه بعض علماء الأنثروبولوجيا والمنظرين في هذا الموضوع.
بيد أن نيتشه، في أثناء محاولته لاتخاذ موقف أنثروبولوجي تجاه مجتمعه والعادات الجوهرية في الثقافة الغربية، يواجه محنة مختلفة ولكنها ربما تكون أشد إزعاجا؛ إذ إنه أول من يصر على عدم وجود ما يعرف بالذات الحقيقية التي تستطيع أن ترى العالم بنزاهة، غير متأثرة ببيئتها. وهو أشد تلهفا ليوضح أننا لسنا سوى دوافعنا وذكرياتنا والحالات والميول الأخرى التي يقودنا علم النحو (وما ينبع من علم النحو، والفلسفة، واللاهوت) إلى أن ننسبها إلى فاعل ما، والذي يتضح أنه أسطوري. وهذه الحالات العقلية يحددها المجتمع الذي ننشأ فيه، وصولا إلى مرحلة لا نستطيع فيها أن ننفصل عن ذواتنا لنلقي نظرة على ما يمكن أن نكون عليه لو استطعنا الانفصال عما يشكلنا. وبناء عليه، ما الذي يمكنه من إلقاء نظرة بانورامية على الوضع الإنساني، بما يخول له إصدار أحكام فيما وراء الخير والشر؟
إنه لا يجيب أبدا عن هذا السؤال إجابة مباشرة، على الرغم من أنه بالتأكيد على دراية به. ويكمن الحل الذي يطرحه، أو ما يهدف إلى أن يكون حلا فعليا، فيما أصبح خلال السنوات الأخيرة أحد أشهر آرائه، بفضل ملاءمته للتفكيكيين. فهو لا يؤمن بوجود حقائق دون تفسيراتها، على الرغم من أن أقوى ادعاءاته في هذا الشأن موجود في دفاتر ملاحظاته (التي طبعت في القسم 481 في «إرادة القوة»). وفي أعماله المنشورة، كان أوضح تصريحاته أن «ليس ثمة وجود «إلا» لرؤية من زاوية معينة، «لمعرفة» من منظور معين. وكلما كان لحالتنا العاطفية دور حيال شيء ما، كان «المفهوم» الذي نكونه عن هذا الشيء أكثر اكتمالا، وكذلك «موضوعيتنا» تجاهه» («أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الثالث، 12). وعليه، فإن ما يفسر وما يفسر كلاهما في موقف يختلف عما تنسبه إليهما نظرية معرفية ساذجة. إننا ملزمون برؤية الأمور من وجهة نظرنا ، ولذلك من المفيد تبني أكبر عدد ممكن من وجهات النظر. ولن نبلغ أبدا «الأمور نفسها»؛ وذلك بسببنا، وكذلك لأننا لا نملك سببا للتفكير في أن هذه الأمور موجودة، بالمعنى الذي كان ينسب عادة إلى هذه العبارة.
لم يصغ نيتشه بالتفصيل قط نظريته المعرفية الخاصة، ولا يوجد سبب يدفعنا إلى التفكير في أنه أراد ذلك تحديدا. فكما هي عادته، ينصب اهتمامه الرئيسي على الثقافة، وهو يقول ما يفعله بشأن وجهات النظر - ولكن ليس بما يكفي لتوفير شرح غير جدلي لمنظوره - لكي يؤكد أن معتقداتنا، ولا سيما فيما يخص القيم، ليست مجردة من المكان الذي نشغله في العالم. ولو حاول امرؤ أن يفرض منظوره أكثر من هذا، فسيبدو هذا مريبا للغاية. وهذا بلا شك هو السبب وراء وفرة علامات التنصيص الموجودة حول كلمات مخادعة في الاقتباس عاليه المأخوذ من «أصل الأخلاق وفصلها». ولكن بقدر ما يتعلق الأمر بالقيم، فإنه يوضح بطريقته الخاصة كيف يستطيع المرء أن يتبنى عدة مواقف تجاه مشكلة محددة، دون أن يتمكن أبدا من بلوغ حقيقتها؛ لأن هذا يعني افتراض أنه توجد حقائق في عالم القيم، ومن ثم - أيضا - إعطاء مكانة مميزة للحقيقة التي يصر على المجادلة بشأنها.
Неизвестная страница