واللذة، أعمق من الآلام؛
يقول الألم: مر يا هذا وانقض!
ولكن ليس من لذة لا تطلب الخلود؛
خلودا لا نهاية له.
هذا ليس شعرا مميزا، ولا حتى في النسخة الألمانية. ولكن عاطفته الأساسية مؤثرة، وهي بالنسبة إلى زرادشت الأقرب صلة بالتكرار الأبدي. وفي موضع سابق من نفس القسم أوضح زرادشت ذلك قائلا:
هل قلتم يوما نعم للذة واحدة؟ يا أصدقائي، إذن فقد قلتم نعم ل «جميع» الآلام! فجميع الأشياء متسلسلة ومتداخلة ومتعاشقة. أفما اشتهيتم أن تعود المرة مرتين فهتفتم: «رجاء أيتها اللذة، ابقي لحين من الدهر!» إنكم بهذا التمني وددتم لو تعود الأشياء «جميعها»، مجددا وللأبد، متسلسلة ومتداخلة ومتعاشقة، وهكذا «أحببتم» العالم. أيها الخالدون، كان حبكم أبديا لا نهاية له. قلتم للآلام أن تنقضي ولكنكم دعوتموها لتعود! لأن «كل لذة تطلب الخلود».
هذا هو تناول نيتشه الغنائي والفياض بالمشاعر لرأيه الذي عبر عنه على نحو أكثر تشددا في مواضع أخرى، والذي يدور حول أن تمني شيء واحد يعني تمني كل شيء، بما أن الشبكة السببية تعتمد فيها أية حالة على بقاء بقية حالات الطبيعة على وضعها. وهذا هو رأيه، على الأقل في البداية، عن التكرار الأبدي الذي يروج له. الإنسان الأسمى هو الكائن المستعد لأن يقول نعم لأي شيء؛ لأن اللذة والألم لا ينفصلان، كما يعبر نيتشه على الدوام، بداية من الفردية البدائية في كتاب «مولد المأساة» وما يليه. ولهذا، على الرغم من هول الوجود حتى الآن، فإنه مستعد لإقرار هذا كله. وهذا، على أية حال، فهمي للأمر، وله.
ولكن ليست هذه إلا بداية لتفسير الإنسان الأسمى؛ لأنه بعد أن عبر عن قبوله غير المشروط للوجود إلى الدرجة التي يطلب فيها أن يتكرر كل شيء مثلما كان تماما، في دورات أبدية، ما زالت هناك مسألة ما يفعله الإنسان الأسمى بوقته. من المحتمل أن يكون شيئا مختلفا تماما عما يفعله الإنسان العادي، الذي تم تعريفه من قبل بوصفه «حبلا مشدودا بين الحيوان والإنسان الأسمى؛ حبلا مشدودا فوق هوة سحيقة» («هكذا تحدث زرادشت»، الجزء الأول، المقدمة، 4). سيكون مختلفا عنا مثلما نختلف نحن عن الحيوانات. وأيا كان ما يفعله فسيفعله بروح القبول والإقرار، ولكن ماذا سيكون شكله؟ نعلم الهيئة التي ينتفى أن يكون عليها؛ أي شيئا ضئيل الحجم، وتفاعليا، وممتعضا. وثمة لمحة من نقض القوانين لدى زرادشت تشير إلى أنك إذا كنت صاحب الموقف الأساسي الصحيح فبإمكانك أن تفعل ما تريد. ويظهر هذا بوضوح في الفصل الذي يحمل عنوان «عن العفة»، حيث كتب يقول:
هل أشير عليكم بقتل حواسكم؟ إن ما أوجبه إنما هو طهارة هذه الحواس. هل أشير عليكم بالعفة؟ إنها لو كانت فضيلة عند البعض فإنها لتكاد تكون رذيلة عند الكثيرين. ولعل هؤلاء يمسكون عن التمتع، غير أن شبقهم يتجلى في كل حركة من حركاتهم. إن كلاب الشهوة تتبع هؤلاء الزاهدين حتى إلى ذرى فضيلتهم، فتنفذ إلى أعماق تفكيرهم الصارم لتشوش عليه سكينته. ولكلاب الشهوة من المرونة ما تتوسل به لنيل قطعة من العقل المفكر إذا منعت عنها قطعة من اللحم.
ثمة مسحة من التزمت هنا، ولكنها قاسية، خصوصا الجملة الأخيرة، وهي بالنبرة الآمرة بوجه عام في «هكذا تحدث زرادشت» تمثل نوعا من الراحة. ولكن ثمة سطر مهيمن، بعيدا عن تلك النبرة، يدفع في الاتجاه المضاد، وهو ليس ذا طبيعة قمعية، ولكنه يؤكد على الاستحالة والصعوبة، مع النفس قبل كل شيء. هذا ما نتوقعه، بما أن اهتمام نيتشه الأول ينصب على العظمة. أما الراحة والرضا والإشباع الجسدي، فهي أمور معادية للعظمة. وبأية طريقة ستنسب العظمة إلى الإنسان الأسمى؟ يوجه نيتشه دائما بعض الاهتمام على الأقل إلى الإنجاز الفني الإبداعي، ومن ثم قد يتوقع المرء منه أعمالا فنية مذهلة، ولكن في هذا الشأن، كان كتاب «هكذا تحدث زرادشت» خاويا تماما. من غير المجدي بالطبع تأمل أعمال فنية لم تبدع بعد، بعكس تناول الإنجازات العلمية التي لم تتحقق بعد، بما أننا في الحالة الثانية نعلم ما نريد من إجابات عنه. ولكن في حالة الفن لا توجد أسئلة بهذا المعنى. علاوة على ذلك، فإن فكرة وجود مجموعة من «البشر السامين» كلهم من الفنانين تبدو بالفعل سخيفة. ولكن ماذا سيكون شكلهم؟ لا فائدة من التخمين أكثر من هذا؛ لأن نيتشه لا يقدم لنا أية إشارات بهذا الخصوص. في واقع الأمر، يبدو أنه كان عاجزا عن إحراز أي تقدم في هذا الشأن، وعلى الرغم من أنه اشتهر بصياغته المصطلح مثلما اشتهر بأمور أخرى، فإن هذا لا يتكرر في أعماله، باستثناء الاحتفاء بالذات في «هذا هو الإنسان»، حيث يفرد لحديثه عن «هكذا تحدث زرادشت» وقتا أطول من بقية كتبه الأخرى، قائلا: «هنا يجري في كل لحظة تخطي الإنسان، وهنا أصبح مفهوم الإنسان الأسمى الحقيقة العظمى» («هذا هو الإنسان»، «هكذا تحدث زرادشت»، 6).
Неизвестная страница