Зов истины: С тремя текстами о правде Хайдеггера
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Жанры
أما المرحلة الأولى - التي تجد ملخصا وافيا لأهم أفكارها في النصف الأول من هذا الكتاب - فقد بلغت تلك الذروة مع صدور كتابه الأكبر «الوجود والزمان» - ومع أن الكتاب لم يظهر منه سوى جزئه الأول، وبقي الجزء المنتظر عن الزمان والوجود مجرد شذرات تمثلت في بحوث ورسائل عديدة متتالية؛ فقد وقع الكتاب على أرض الحياة الفلسفية وقوع الصاعقة الخاطفة، وبوأه مكانة مرموقة في الحياة الفلسفية.
وقد كان أهم ما اهتم به هيدجر في هذا الكتاب - كما سيرى القارئ بنفسه - هو إعادة الحياة إلى السؤال الأساسي عن الوجود، وهو السؤال الذي سبق أن قال عنه أفلاطون إنه خاض من أجله صراعا يشبه الصراع مع العمالقة، لكن إحياء السؤال لم يكن معناه - كما حدث منذ أرسطو وحتى هيدجر نفسه - هو معالجته كمشكلة مجردة، ولا هو التحليل التقليدي للمقولات التي ينضوي تحتها الشيء أو الموجود، بل كان هو النظر في معنى الوجود من خلال علاقته بالإنسان وعلاقة الإنسان به وفهمه المسبق والمباشر له؛ لهذا تحتم على الفيلسوف أن يبدأ بالكلام عن أهمية طرح السؤال المنسي، وعن فهم الإنسان له ووجود هذا الإنسان ومقولاته (أو لنقل وجوداته!) الأولية فيما سماه بالأنطولوجيا الأساسية ، وكان عليه أن يتحدث عن الموجود الإنساني الملقى به في العالم
4 (أو الدازاين) في حياته اليومية وتعامله مع الأشياء والأدوات، وسقوطه في اللغو والثرثرة والفضول التي تطغى على الحياة البشرية العادية.
وقد قابل الفيلسوف ذلك السقوط بإمكانية توصل الإنسان إلى ذاتيته الحميمة ووجوده الأصيل وحريته في الاختيار من خلال تجربة القلق الذي يستشعره ويعانيه في كل لحظة في مواجهة الموت والعدم المحتوم الذي لا يعرفه موعده؛ بذلك قدم تفسيره الوجودي للواقع والحاضر المتردي في حضيض بغير قرار، كما قدم تحليلا عميقا لزمانية الموجود الإنساني الذي «يشرع» نفسه أو يتجه على الدوام صوب المستقبل.
واصل هيدجر بعد «الوجود والزمان» معالجة فكرة الوجود في كتابات مختلفة، ومن زوايا متعددة، وانشغل بمشكلات منهجية طرحها في أعماله الثلاثة «ما الميتافيزيقا» و«رسالة عن النزعة الإنسانية» و«الهوية والاختلاف» (الذي يدور حول الفارق الأساسي بين الوجود ذاته، وبين الموجودات المتنوعة) وتفرغ لدراسات عديدة في تاريخ الفلسفة (عن أنكسمندر، وبارمنيدز، وهيراقليطس، وأفلاطون، وأرسطو، وديكارت، وكانط، وهيجل، ونيتشه) كما شرح وأول بعض القصائد لعدد من الشعراء الألمان (ومن أهمهم على الترتيب: هلدرلين، ورلكه، وستيفان، جئورجه، وتراكل، وجوتفريد بن) بجانب مشكلات أخرى عن اللغة والفن والتقنية (راجع الفصول الأخيرة من هذا الكتاب)، وأدرك هيدجر من كل هذه المحاولات أن التفكير الحقيقي في الوجود لن يتم عن طريق التفكير في الإنسان، وأن العكس من ذلك هو الأصح؛ أي عدم التفكير في الوجود من جهة الإنسان، بل التفكير في الإنسان وفي الواقع المتناهي بأكمله من جهة الوجود، وتوصل في هذه الأثناء إلى الصيغة التي سنقف عندها على الصفحات التالية، وهي «رجعة» الفكر أو عودته للوجود نفسه. وقد راح يكافح طوال العقود الأخيرة من حياته لتوضيح هذه الفكرة دون أن تخرج في تعبيره عنها من ضباب الغموض الذي يقترب - في تقديري على الأقل - من غموض الغنوص أو نزعة الإشراق الصوفية، والمهم أن الأمر بعد التحول إلى «الرجعة» لم يعد يتعلق بالإنسان، الذي زعزعه هيدجر عن موقعه الذي كان يحتله في الفلسفات الذاتية العقلانية والإرادية منذ ديكارت وحتى نيتشه والفلسفة الوجودية المعاصرة (عند سارتر وغيره) بل أصبح كل شيء يتعلق بالوجود.
فإذا سألناه أن يقول لنا شيئا محددا واضحا عن هذا الوجود، وجدناه يعزف أنغاما متنوعة على أوتار الحيرة والالتباس، وربما اقتربنا قليلا مما يقصده بالوجود لو سلكنا سبيل السلب والنفي - على طريقة ما يسمى باللاهوت السلبي - فقلنا إنه ليس هو «الله» ولا هو «أساس العالم» وإنه - أي الوجود - مختلف عن أي موجود، وإنه حدث متحقق وجامع لكل ما يتصف بأنه موجود، في هذا الحدث، أو هذا القدر التاريخي كما يصفه أحيانا، يتكشف الوجود والإنسان؛ إذ هو «اللاتحجب» الذي يحدث أو يتحقق أو يتجلى في العالم بأشكال مختلفة، ومن ثم يكون الوجود هو «الإنارة»، ويكون الشعر والفلسفة من أساليب إنارة الوجود-في- العالم أو على حد تعبيره من «الأقدار» التي يقدرها تاريخ الوجود على لسان شاعر أو مفكر معين، وفي مجتمع أو عصر بعينه، وعلينا ألا ننسى في كل الأحوال أن هذه الإنارة أو ذلك التكشف للعالم من طوايا التحجب والكمون لا يحدث من جهة الإنسان، وإنما يتحقق بفضل من نعمة الوجود ذاته.
5
ويتحدث هيدجر عن «تاريخ» للوجود الذي يتكشف من خلاله العالم والإنسان بصور مختلفة في عصور وحضارات ومجتمعات مختلفة عند الصينيين والإغريق، وفي العصر الوسيط، بيد أن تحقق إنارته لهؤلاء قد اختلف عن أسلوب تحققه بالنسبة للإنسان الغربي المعاصر؛ فهو يتجلى لهذا الأخير في صورة شديدة العدمية والسلبية، وذلك بقدر نسيانه للوجود واغترابه عنه، ونسيانه حتى لنسيانه السؤال عنه، وتشبثه - لا سيما تحت طغيان النزعة التقنية الحديثة - بالموجودات والعلوم الجزئية، فلا عجب أن يظهر له الوجود نتيجة لذلك في صورة الاضطراب والزعزعة لكل ما هو موجود، وفي غربة الإنسان عن البيت والوطن والأرض، ولا عجب أيضا أن يسمي هيدجر عصره بعصر النسيان للوجود والتخلي عن التفكير فيه، ومثل هذا العصر الذي يفتقر إلى الوجود لا بد بالضرورة أن يكون هو عصر الضلال والمحنة، وأن يكون التاريخ المقدر من الوجود نفسه على الإنسان الغربي هو تاريخ العدمية، أي فقدان كل القيم قيمتها كما عرفها نيتشه، وخاض معركتها اليائسة إلى حد الجنون.
أليس ثمة خلاص من هذا القدر؟ نعم، ولكن ليس عن طريق الإنسان ولا من خلال فعله، فمن الضروري أن يتوجه الوجود نفسه ومن تلقاء نفسه من جديد صوب الإنسان السادر في ليل الضلال، وأن تصبح تجربة الوجود مرة أخرى أمرا ممكنا، ذلك هو أمل هيدجر في المستقبل، أما في الحاضر فلا يملك الإنسان في تقديره إلا أن «يرعى» الوجود وينصت لندائه ويساعده على أن «يقول»، وفي هذا تكمن - في رأيه - مهمة الإنسان وقيمته وكرامته ... ويبقى أن الحديث عن هذا كله يفوق طاقة الفلسفة بمعناها التقليدي، وأن فكر المستقبل لن يكون فلسفة وإنما سيكون - على حد تعبير الفيلسوف وبلغته المنحوتة بأزاميل ثقيلة! - فكرا في حالة الهبوط «في فقر ماهيته المؤقتة، وسوف يكون عليه أن يجمع اللغة في القول البسيط»، أما الإنسان فلن يكون أمامه إلا أن يتعلم الصبر على الحياة «فيما لا اسم له»، وأن يعبر محنة نسيان الوجود بتعلم الإنصات للغته وانتظار تفتحه وتجليه وإنارته لكل من العالم والإنسان اللذين لا ينفصلان.
6
Неизвестная страница