وهدأ قلب درش بين ضلوعه، المرأة بريئة، فواضح أنها اعتقدت أنه ظل يتابعها لأنه لم يفهم شرحها، وعهدت للعسكري بالمهمة.
وعلى أحر من الجمر انتظر درش إلى أن انتهى العسكري من شرحه المؤدب الطويل، بينما عيناه زائغتان ترصدان تحركات المرأة بدقة لتكمل متابعتها بعد التخلص من هذا المأزق.
وفعلا ما كاد العسكري يدير ظهره حتى دلف مصطفى إلى شارع جانبي آخر، إلى الشارع الذي اعتقد أن المرأة قد سارت فيه. وهنأ نفسه على ذكائه حداقته، فما أسرع ما تلقت أذنه دقات كعب حذائها العالي على أحجار الشارع المربعة. وفي تلك اللحظة فقط أدرك أن الشيء الذي خافه كثيرا قد وقع، إذ أدرك أنه في هذه المرة - وبحق وحقيق - قد ضل الطريق، وويله من تلك الشوارع المتشابهة ذات المنازل المتشابهة والأسماء المتشابهة والغموض حين يتوه فيها إلى ما شاء الله.
غير أنه لم يقلق كثيرا، فإذا حدث وسدت في وجهه كل أبواب الأمل فما عليه إلا أن يركب تاكسيا وليطالب السائق بما يشاء من شلنات نمساوية، الشلن منها ثمنه أكثر من عشرة قروش، بل وصل به الأمر إلى حد الضحك. فهل إذا كان قد دأب على سؤال النساء عن الطريق إلى الفندق وهو يعرف الطريق، فها هي ذي الحجة تصبح حقيقة واقعة، وها هو ذا فعلا مظلوم تائه في حاجة إلى مساعدة حقيقية. حبذا لو جاءت من تلك المرأة التي يتبعها بالذات، والتي ترن دقات كعبها على حجر الشارع رنينا حلوا يتصاعد في سكون الليل، ويهيج كامن أشجانه، ويجعله ينتظر بعد كل دقة من الكعب دقته المثيرة التالية.
وأحيانا كان يفيق ويتهم نفسه بالجنون، فهو يرتب الأمور في نفسه ترتيبا جميلا جدا، مع أن المرأة مثلها مثل غيرها لم يكن قد بدا عليه أبدا أقل لمحة ممكن أن تفسر عل أنها علامة قبول، بل حتى لم يكن بدر منها ما يدل على الشعور بوجوده.
الاحتمال الكيد هو فشله الحتمي، بل لو سلم جدلا بأنه قد ينجح في محادثتها فالوقت متأخر، وهي على ما يبدو عليها ذاهبة إلى بيتها، بل لو حدث المستحيل وأخذ منها ميعادا مثلا وقابلها في الغد، فماذا يكون أن يحدث في ذلك الميعاد سوى جلسة في بار أو في مقهى، وقهوة فرنسية سخيفة الطعم له، ومشروب فادح الثمن لها، ثم ضغطات على اليد وبضع ابتسامات وينتهي كل شيء؟
بتلك المرأة أو بغيرها هذه الليلة، ولا بد سيقضي معها أجمل الأوقات في مكان متلق أمنية مستحيلة التحقيق، ولكنه مصر عليها وكأنها وشيكة الوقوع، نفس الإصرار الذي دفعه للمجيء إلى أوروبا وهو متأكد لسبب ما أن ما يريده إصرارنا نحن المصريين العنيد الغريب، إصرار الأب الجائع، الذي لا يكاد يجد اللقمة، على أن يجعل من ابنه الطفل الذي يلعب الذباب الاستغماية حول عينيه مهندسا أو طبيبا، إصرار الفلاح الذي يريد سقي مساحة شاسعة من الأرض بشادوف يحمل في كل دفعة حفنة ماء، والغريب أنه إصرار لا يخيب: فالأب فعلا يظل يعاند حظه وحاجته وطبقته حتى يجعل من ابنه مهندسا أو طبيبا، والفلاح يظل ينحني ويعتدل ألف مرة، مليون مرة ... عددا لا نهاية له من المرات، حتى ينجح في ري الأرض.
درش هو الآخر كان لا يزال على إصراره، وقد بدأت المسافة بينه وبين المرأة تتناقص بينما أفكاره وخططه تتزايد؛ إذ كان عليه أن يتقدم خطوات أخرى، ووجد أن أحسن طريقة هي أن ينتقل إلى الرصيف الآخر ويسبقها ثم يعود من نفس رصيفها ويقابلها وجها لوجه، فلا بد أن يشعرها بوجوده وبأنه لا يزال يتبعها ولير ما يحدث. وعبر الشارع، واستدار وقابلها، وقبل أن يصبح في مواجهتها تماما توقف وادعى أنه فوجئ وقال: ها نحن مرة أخرى، عالم صغير، أليس كذلك؟
وواجهته بملامح فيها هي الأخرى بعض المفاجأة وخالية من أية نوايا، وفعلت هذا كله وهي ماضية في طريقها دون أن تنطق بكلمة أو حتى تشير بإيماءة.
وكان قرار درش قاطعا بعد خطوتين أن يتوجه توا إلى أي شارع رئيسي ويأخذ تاكسيا وينطلق إلى فندقه، وكفى ما كان. بل لا بد أن المرأة الآن تعتقد أنه من الغرباء المصابين بلوثة، أو من يدري ربما تستدعي له البوليس بجد في المرة القادمة. ولكن قراره لم ينطبق إلا على عشر خطوات خطاها أصبح بعدها القرار في خبر كان، فما لبث أن استدار وتابع سيره وراء المرأة، ولكنه آثر أن يترك مسافة أطول بينهما على سبيل الاحتياط.
Неизвестная страница