غير أنه فوجئ، ولم تكد تمضي نصف ساعة على دخول البحارة المدينة، بأن كل بحار أمريكي صغير قد أصبح في صحبة فتاة نمساوية صغيرة، بل أحيانا سيدة كبيرة. كيف تعرفوا عليهن بهذه السرعة؟ ومن أين جاء كل هذا العدد من الفتيات والسيدات؟ لم يكن يدري بل بدا واضحا أن المعرفة ليست سطحية بالمرة، فسرعان ما بدأت عيناه تلمحان أيدي البحارة الصغار وهي تمتد إلى الخصور وفتحات الأثواب امتدادات غير بريئة، لا بد أن هؤلاء الخواجات يتفاهمون مع بعضهم البعض بطرق لا نعرفها نحن الشرقيين، وكان طبيعيا جدا أن بدأت تتكون جماعات من عدد من البحارة وعدد من الفتيات متخاصرين، سكارى، صاخبين، يغنون معا، وأحيانا يرقصون في الشوارع هكذا عيني عينك.
ثم بدأ ازدحام أزواج الفتيات والبحارة يقل، وبدأ يلاحظ أن كل زوج يتسرب إلى شارع مظلم أو في اتجاه المنتزه أو الطرق المؤدية إلى مدينة الملاهي والخالية تقريبا من المارة ... طبعا لتحقيق كل ما يمنع النور تحقيقه. والناس، أهل فيينا الكبار في السن والرجال والوقورون ذوو القبعات الغامقة والوجوه الجادة، والسيدات المسنات المتشحات بالسواد، يرون كل هذا ولا يحركون ساكنا، وكأن ما يحدث يحدث لبنات غير بناتهم ، أو في مدينة غير مدينتهم، وكأنه وضع طبيعي جدا لا غرابة فيه بالمرة.
وبلغ حنق درش على أهل فيينا منتهاه، ولكنه وهو في قمة حنقه لم يفته أن يلاحظ أنه هو الآخر يبحث عن امرأة، وأن بعض حنقه راجع إلى فشله فيما نجح فيه البحارة الأمريكان. وقال لنفسه: لن يذهب هذا النحس الذي أصابني ولن ينفك كربي إلا بكوبين محترمين من البيرة. قال هذا مع أنه لا يحب البيرة ولا الخمر عامة ويضيق بطعمها. ودخل إلى أقرب بار وتأكد أنه ليس من نوع فاخر، فكم أخذ من مقلب! وطلب من البارمان العجوز بيرة، وحين أحضرها له الرجل رمق الورقة المكتوب فيها الثمن بربع عينه، ولما تبين فداحة ثمنها قرر أن يكون هذا هو الشوب الأول والأخير، ومضى يحتسيه محاولا أن يخلق البهجة في نفسه خلقا، ويقنع نفسه أنه في أوروبا، في فيينا الساحرة الجميلة، في ليلة من لياليها، وأن هذا يحدث له حقيقة. ولا بد له أن يستمتع بكل دقيقة وكل ثانية، فغدا تستحيل كل هذه الأشياء إلى ذكرى لا تعود. وكان كلما حاول هذا أحس بالشجن أكثر، وبأنه غريب وحيد، إذ حتى في البار كان لا يزال وحيدا، والمشهد حوله هو نفس المشهد في أي بار: فتاة من فتيات البارات جالسة قرب الباب، ورجل في منتصف العمر ذو صلعة وكرش صغير يجلس إلى سيدة في مثل سنه في ركن، وبينهما كأسان لا تزالان ممتلئتين، وكل منهما ينظر بتدله إلى الآخر، سابحين في قصة حب غريبة، والضجة الوحيدة في المكان كانت تنبعث من رجال يقفون معه على البار بينهم سيدة متصابية تشرب وتدخن، ولها فم سجائر طويل وتضحك بصوت مزعج. هنا أيضا كان واضحا أنه لن يعثر على ضالته المنشودة.
وحين خرج كانت البيرة قد بدأت تعمل عملها، وكان قد بدأ يحس أن خجله وعقده ومخاوفه تتوارى في ركن من نفسه، بل كان قد بدأ ينتابه شعور أهوج جعله يضرب عرض الحائط بكل شيء، ويقول لنفسه: وإيه يعني؟ البلد اللي ما حدا يعرفك فيها اعمل اللي تعمله فيها.
وهكذا بدأ يلقي بتحيات المساء ذات اليمين وذات اليسار بصوت مرتفع ضاحك، غير مبال أن يرد عليه أحد. وإذا توجه بتحية إلى امرأة وأشاحت بوجهها في استنكار وتقزز، أخرج لها لسانه وكاد يقول: يلعن أبوكم، يعني ما ينفعش إلا الأمريكان؟
أما الأمريكان فعددهم كان قد خف كثيرا، والظاهر أن ميعاد أوبتهم كان قد حان، فبدءوا يقفون على محطات الأوتوبيس مع فتياتهم لتوصيلهن، والسكر كان قد بلغ ببعضهم حد الثمل، فبدءوا يصخبون بطريقة مزعجة، وبدأت التكسيات تقف ويحمل الفائقون زملاءهم السكارى فيها حملا. بل بدأ يشهد مناظر وداع بين الفتيات والبحارة الصغار ... وداع ضاحك في معظم الأحيان مدوي القبلات في أحيان أخرى، ولم يخل الأمر من مشهد مؤثر واحد رآه: أمريكي أسمر صغير وفتاة نمساوية صفراء الشعر قصيرة كالتلميذات وقفا على محطة الترام ساعة، ويدها في يده، وعيناه هائمتان في عينيها، ودرش واقف قبالتهما يتفرج ويعجب، أهكذا ينشأ الحب ويستبد بالقلوب في ساعة زمن؟ لا بد أننا حقيقة في عصر الذرة.
ولم يجد درش غضاضة فيما فعله بعد هذا، فقد كان ينتظر إلى أن ينصرف الرفيق الأمريكي ثم يتبع رفيقته. ولكنه حتى وهو ليس في كامل وعيه لم يحاول أن يبدأ إحداهن بالحديث، كان على الدوام ينتظر أن تلحظه هي فتتلكأ أو يبدو عليها أقل بادرة من بوادر القبول ليقدم هو. لم يكن يريد أن يجرح كرامته حتى وهو في البلد الذي لا يعرفه فيه أحد، ولكن الفتيات كن ينصرفن مهرولات إلى بيوتهن وكأنما شبعن واكتفين.
وحين دقت ساعة الكاتدرائية الكبيرة اثنتي عشرة دقة، كان الميدان قد خلا من البحارة الأمريكان تماما، ومن الفتيات الصغيرات، ولم يبق فيه إلا مجاميع صغيرة من الناس تنتظر الترام أو الأوتوبيس. ها هو ذا مرة أخرى مع الأوروبيين أهل فيينا وحدهم بلا أمريكا ولا منافسين، ولكن نفسه لم تكن تحفل بانتعاش أول الليل، كأن اليأس قد بدأ يزحف عليه بلا شفقة، فبالأمس وأول الأمس حدث مثلما حدث له الليلة تماما، وعاد في آخر الأمر إلى فندقه وحيدا في الشوارع الضيقة المهيبة التي يعرفها، ونام والغيظ يملؤه، وكل الظواهر تدل على أنه ملاق الليلة نفس ما لاقاه بالأمس.
ومن جديد راح درش يجوب الميدان ويتصفح وجوه المارة والواقفين لعله يبعثر على ضالته ... وجوه كثيرة متشابهة، وكأنها نسخ مكررة لوجه واحد. أناس أنوفهم تنحدر من الجبهة بنفس الزاوية، وعيونهم يكاد يكون لها جميعا نفس اللون والبريق. أناس يعرفون بعضهم، ويفهمون، ولغتهم الألمانية ذات «الناخت» و«الفوخت» و«الأنين» تسري بينهم كالأسلاك الكهربية الخفية، تربطهم وتجمعهم وتجعلهم يبدون كالجسد الواحد المتجانس الكبير. وهو الوحيد الغريب اللون والأنف والشعر واللغة ... هو الوحيد النشاز. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يعاوده فيها إحساسه بالحنين إلى بلده. كلما شم رائحة السجق وهو يقلى، كلما سمع رطانة ألمانية لا يفهم منها حرفا، كلما حدق في سيدة ولم تأبه له ... عاوده الحنين إلى بلده وشقته المحندقة في شارع ابن خلدون، وزوجته النقية الصافية كدعوات المجاذيب في حي الحسين. الطيبة الراقدة الآن تغط في نوم عميق وتحلم برجوعه وتنتظره، تماما كما كانت تنتظره كل ليلة وهو عائد من سهراته المتأخرة كالولد العاق، كلما عاوده الحنين إلى ابنته الصغيرة التي تسنن، وبالذات إلى سنتيها الأماميتين الصغيرتين اللتين تطلان من فمها كلما فتحته لتقبله حين يقول لها بوسة بابا، وإلى صندلها الصغير الذي اشتراه لها من زمن وكاد يبلي صوفه الأحمر، ومع هذا فنعله لا يزال جديدا لأنه لم يلامس الأرض قط. وهو هنا، في قلب فيينا، يبحث عن امرأة يجرب طعمها الأوروبي، والساعة قد جاوزت منتصف الليل!
ونفض رأسه بعنف، نفضة حقيقة وهو ماش في الشارع. فليكن هذا كله، ولكنه لا يمكن أن يحول بينه وبين الشيء الوحيد الذي أراده وجهز له عاما طويلا، لقد فعل المستحيل لتتاح له هذه الفرصة، فهل يضيعها بعد أن أتيحت له؟ لا بد أن يستغل الفرصة أولا، وهو عارف أن ضميره سيؤنبه حتما، وسيؤنبه كثيرا، ولكن فليحدث هذا التأنيب في مصر بعد عودته، فساعتها سيكون لديه الوقت الكافي لمحاسبة نفسه. أما الآن فلم يبق لديه وقت، الدقائق تتسرب من ساعته بسرعة مجنونة، والليل يوغل في التقدم، ولا وقت حتى لتأنيب الضمير.
Неизвестная страница