Европейская мысль XIX века
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
Жанры
ولا يغيب عنا أن هذه المصطلحات إما أن تشير إلى الأسلوب الذي ينتحى في البحث، وإما أن تشير إلى موضوع البحث ذاته. أما العلم فيعترف بأن له أسلوبا ثابتا لا يحتمل الجدل، ولا يسع التورط في المسائل الخلافية النظرية. وأما بقية فروع الفكر، فإما أن تستعير أساليبها من الأسلوب العلمي! وإما أن تطبق أساليب متغايرة لم يجمع عليها الإجماع كله، أو تأبى الخضوع لأسلوب ما على وجه عام.
إذا بلغنا هذا المبلغ أمكننا أن نقول بأن وضع حد للتفريق بين موضوعات بحثنا أصبح مستطاعا؛ فالعلم يتناول كل الأشياء أو الموضوعات التي تطرأ على أذهان السواد الأعظم من الناس، أو تمس مصالحهم. وهي موضوعات قد يبلغ إلى الإحاطة بها كثير من الناس؛ ولهذا يفخر العلم بأن مشاهداته واستنتاجاته خاضعة دائما للتحقيق والبحث آنا بعد آن، لذلك تجد أن شطرا عظيما من المشاهدات والاستنتاجات العلمية قد تؤخذ في أكثر الأحيان على أنها حقائق تامة أجمع على صحتها وثباتها، فيمضي الذين لا يأنسون من أنفسهم القدرة على تمحيصها وبحثها، أو الذين تقعد بهم الهمة دون فحص براهينها قانعين بأنها أشياء بدهية لا مبدل لها.
غير أن هنالك أشياء كثيرة تقوم في عقل كل فرد من الأفراد، شخصية في طبيعتها، ذاتية في مبعثها؛ ولهذه الأشياء في أنفسنا من الشأن والخطر ما لغيرها من مطالب الحياة وحاجاتها. إن هذه الأشياء لتكون المادة الحقيقية التي يتركب منها الفكر الخارج عن ميدان العلم، وهي في جوهرها ومظهرها مناظرة للعلم اليقيني. وفي هذا الشطر من الفكر لا يستطيع شخص بذاته أن يقوم بعمل ينتفع به الكثيرون، على نفس الطريقة التي تحتذى في العلم، فالأخذ بالبرهان في ذلك الشطر مستحيل، والإجماع على شيء فيه لا يضم تحت لوائه إلا عددا قليلا من الناس، فالأقوال والنظريات لا يمكن أن تؤخذ في هذا الشطر على أنها حقائق ضرورية لا تحتمل الجدل كما هي الحال في العلم، بل إن كل شخص لا بد في أن يجتاز فيها السبيل الذي اجتازه الذين تقدموه، قبل أن يأنس من نفسه القدرة، أو يجد لنفسه حقا، في قبول ما ألقي إليه، أو الانتفاع بثمراته.
إن الصفة الوحيدة التي تلازم ذلك الشطر من الفكر أنه فردي ذاتي، في حين أن العلم، مهما كانت صبغته، ومهما كان أصله، عام موضوعي؛ أي غير ذاتي، يرجع إلى الموضوع لا إلى الذات التي تفكر في الموضوع وتفحص عنه، فإذا تمثلت الفكر بشيء ذي طرفين متناظرين، ألفيت أن العلم الرياضي في أحد طرفي الفكر، وأن الدين في الطرف الآخر. وإنك لتجد أن الاتفاق في الطرف الأول صفة متلازمة كالاختلاف في الطرف الثاني.
تلحظ أن وحدة الفكر صفة ثابتة في الطرف الأول، في حين أنك لن تقع لها على ظل في الطرف الثاني. إنها لم تعرف في الدين ولن تعرف، وإنك إذا أردت أن تعبر عن ذلك بالكلام الدارج لاستطعت أن تقول: إن المعرفة والتحقيق لزام الطرف الأول، وإن الإيمان والاعتقاد لزام الطرف الثاني، على أنك فيما بين الطرفين تقع على مسافة كبيرة من الخلف تفصل بينهما. إن هذه المسافة ليغشاها من الفكر صور تصل بين الطرفين، تبرز حينا في هيكل من المعرفة، وآخر في مثال من الإيمان؛ فيختلط فيها قليل من الأشياء المحققة، بكثير من الإيمان والاعتقاد المبهم.
تلك المسافة الكبيرة، وهذه المفازة المترامية الأطراف، والتي تتوارد عليها صور التغاير والاختلاف سريعة متعاقبة، هي سكن الفلسفة الحقيقي ، ومنبتها الأصلي؛ الفلسفة التي تتناول الحقائق، ولا تأنف من الإيمان، الفلسفة أصل المعرفة، ومنبع الاعتقاد واليقين، الفلسفة حلقة الوصل الواقعة بين الطرفين: طرف العلم اليقيني، وطرف الدين.
ولو كانت كل فكراتنا قائمة على الرياضة الصرفة، راجعة إلى العدد والقياس والتقدير الحسابي، أو كانت دينية صرفة، لا تنظر إلا في مصالحنا الذاتية، ومعتقداتنا الخاصة، لما كان لنا من حاجة إلى وسط يقوم بعبء التفاهم بين الطرفين، ويصل بين المتناظرين، ولما قام في عقولنا خلاف بين الأشياء المحققة، وبين المعتقد الذاتي، غير أننا لا نلبث أن نعكف على القواعد الرياضية، أو نعمل على إبراز معتقداتنا إلى حيز العمل، حتى تدركنا صورتا الفكر الآخريين، وتلزم الاحتكاك بمصالحنا؛ فنشعر إذ ذاك بضرورة الكشف عن نظرية أو مذهب يمنع التصادم بين الأطراف المتباينة، ويسير كل الأطراف في طريق يمتنع فيه احتكاك بعضها ببعض. على أن الظروف التي تنتج مثل هذا الاحتكاك إذ تختلف باختلاف حاجات الحياة العملية ومطالبها، وتتباين بتقدم العلم العلمي، كان تغير تلك النظريات والمذاهب ومضيها ممعنة في التطور والتباين أمرا محتوما بحكم ذلك.
قد يقال هنا - جريا على ما تقدم: إن مهمة الفلسفة تنحصر في تدبر تلك الطرق المختلفة التي تطبق بها الأساليب العلمية الصرفة وينتفع بها، أو ملاحظة تلك السبل المتباينة التي تصبح من طريقها المعتقدات الذاتية ذات أثر في المسائل العملية. وهي مسائل تشترك فيها الصبغة الذاتية الخاصة بالصبغة الموضوعية العامة، ولن يستتبع ذلك أن الفلسفة يجب أن تشيد مذاهب تامة، غير أنه من الطبيعي، بل من الضروري، أن يحدث استجماع عدد كبير من النظريات ومظاهر الفكر العامة نزعة في النفس إلى التأليف بين ما تخالف منها، والتوحيد بين ما تبدد من مجموعها؛ لتصبح كلا متماسك الأطراف. بذلك تجد أن التصميم الذي لم يكن في مبدئه سوى شيء انتقادي تمهيدي صرف، والذي لم يكن إلا مجرد وسيلة يتذرع بها إلى غاية، قد ساق المفكر فيه إلى تكوين نظرة شاملة في حقيقة الأشياء؛ أي إلى مذهب فلسفي.
وأنت في أية من الجهات نظرت في الموضوع، فلا بد من أن تقودك خطواتك إلى اعتبارات ثلاثة يتشكل فيها الفكر: الاعتبار العلمي، والاعتبار الذاتي، والاعتبار الفلسفي. فإذا أهمل باحث من الباحثين النظر في اعتبار من هذه الاعتبارات في تاريخ يضعه في تطور الفكر في القرن التاسع عشر؛ فإنه لا محالة فاقد قسطا من قيمة عمله على قدر ما يكون إهماله.
ولا ريبة في أن هنالك مدارس تصدت لبحث الفكر دمجت العلم في الفلسفة، وأخرى ظلت معتقدة أن لا استقلال بين الفكر في صورته الدينية، وصورته الذاتية، وصورته الفردية، وأن هذه الصور ليست سوى صفات منتحلة لا صفات حقيقية. وهذه النظريات وأمثالها إن حازت قسطا من الأثر في العقول كبير، إلا أنها لم يكن لها من نصيب في النهاية إلا السقوط والفناء.
Неизвестная страница