والمتصوفة على اختلافهم يتفقون على نقط هامة حتى تعد هذه النقط من أخص خصائص التصوف باعتباره طريقة للمعرفة؛ فهم فوق اتفاقهم جميعا على أن الحدس هو وسيلة الإدراك التي يركن إليها ، تراهم كذلك يتفقون على أن الحقيقة التي يدركها الإنسان بحدسه ليست مما يمكن التعبير عنه بكلمات؛ لأنه في هذه الحالة يندمج في موضوع إدراكه اندماجا يجعلهما شيئا واحدا، وأما الكلمات فهي وصف يحوم حول الموضوع ولا يصل أبدا إلى قلبه ولبابه. وإن شئت فقارن بين حالتين: حالة قراءتك لكلمات تصف الحب بين عاشقين، وحالة شعورك أنت بالحب؛ فالمكابدة والمعاناة تجربة ذاتية تصل الإنسان بموضوعه وصلا مباشرا، أما الألفاظ فمهما بلغت من دقة الوصف فهي شيء آخر غير الوجدان الذي يكابده صاحب التجربة النفسية ويعانيه.
وكذلك هم يتفقون على أن ظواهر الكون ليست هي بحقيقته، بل حقيقته كامنة وراء تلك الظواهر وتختلف عنها، فإن كانت الظواهر تدرك بالحواس، ويقارن العقل بينها ليصنفها في أنواع وأجناس ويستخرج قوانين اطرادها، وهكذا، فإن الحقيقة التي وراءها يستحيل إدراكها إلا بالحدس، وذلك بأن يروض الإنسان نفسه على الاتصال بها والاندماج فيها.
وعندهم أن هذه الحقيقة المطلقة الكامنة وراء الظواهر هي واحدة لا كثرة فيها ولا تعدد. نعم، إنها تعبر عن نفسها في هذه الظواهر الكثيرة المتعددة المتنوعة، لكنها هي واحدة، وما دام الأمر كذلك فكل ما يدل على كثرة فهو باطل؛ ولهذا كان الزمن وهما لا حقيقة؛ لأنه سلسلة من لحظات، لكل لحظة منها لحظة قبلها ولحظة بعدها، وأما الحقيقة المطلقة (أي الله) فلا زمان لها، وليس في وجودها «قبل» و«بعد»، فانقسام الزمن إلى ماض وحاضر ومستقبل إن هو إلا تقسيم يتفق مع الظواهر العابرة، وليس هو بذي معنى بالنسبة إلى الله.
وسنضرب لك مثلا للمتصوف: «الإمام الغزالي»
1
الذي انتهى إلى ما انتهى إليه بعد أزمة نفسية حادة، وبعد استعراضه لما يقوله مفكرو عصره من متكلمين وفلاسفة حتى يطمئن إلى أن خروجه عليهم قائم على أساس صحيح.
تشكك الغزالي في شهادة الحواس، فهي - في رأيه - لا تصلح أداة يركن إليها في تحصيل المعرفة الصحيحة، فهل تستطيع العين أن تدرك حركة الظل؟ إذن فهنالك من الحقائق ما لا يمكن إدراكه بحواسنا، ثم انظر كيف إذا وضعت أمام عينك قطعة من النقود بحيث تقع بين العين وبين نجم في السماء، رأيت قطعة من النقود تغطي النجم كله كأنما هي أكبر منه. وإذن فلا يقتصر الأمر على عجز الحواس عن إدراك بعض الحقائق، بل إنها لتوهمنا بالخطأ على أنه الصواب.
وكذلك تشكك الغزالي في أحكام العقل نفسه، وحسبك أن تأخذ مبدأ واحدا من مبادئه الأولية التي يقال إنها قوانين الفكر العقلي، والتي نقبلها بالتسليم الذي لا يحيط به شيء من الشك، وهو مبدأ عدم التناقض، فعند العقل أنه يستحيل على الشيء أن يكون وألا يكون في وقت واحد، ولكن أيستحيل حقا على الشيء أن يكون وألا يكون؟ إنه لا استحالة في ذلك، ومن الجائز أن تتصور في كائن ينمو بحيث تتغير حاله تغيرا متصلا أنه في كل لحظة من حياته كائن وغير كائن في آن معا؛ لأنه لو كان كائنا على حاله لما تغيرت تلك الحال.
وبعد تشككه في الحواس وفي العقل يسأل قائلا: ألا تكون هنالك وسيلة فوق العقل تبين مواضع خطئه وتدل على بطلانه، كما أن العقل نفسه فوق الحواس يبين خطأها ويدل على بطلانها؟ ويجيب بأن نعم، وأن تلك الوسيلة التي هي فوق العقل والحواس معا هي الحدس.
وهو لا يرسل القول إرسالا بغير بحث، بل يتناول الجماعات الفكرية في عصره ممن كانوا يستندون في تفكيرهم إلى البراهين العقلية كالمتكلمين والفلاسفة؛ ليحلل ما كانوا يفعلونه ويبين أنه طريق لا يؤدي إلى شيء.
Неизвестная страница