هذه هي النظرية البراجماتية في معاني أفكاره، ومما يترتب على هذه النظرية العملية أننا لو كنا إزاء فكرتين يبدو عليهما التناقض أو الاختلاف، ثم وجدنا أن كلا منهما من حيث نتائجها العملية كزميلتها سواء بسواء؛ حكمنا عليهما بأنهما فكرتان متطابقتان متساويتان. مثال ذلك: افرض أني قلت لك عن هذه المنضدة إن طولها متر، ثم قال عنها قائل آخر إن طولها ليس مترا بل هو أكثر من متر بمقدار يتعذر قياسه بآلات القياسة المعروفة لنا، فإن هذين القولين يبدوان مختلفين، لكن حاول أن تفهم معنى كل منهما بتتبع النتائج المرتقبة؛ تجد أنك في الحالة الأولى وفي الحالة الثانية على حد سواء لن يسعك إلا أن تقوم بعملية واحدة، وهو أن تقيس المنضدة بأدوات القياس المعروفة لتجد طولها مترا، وإذن فالقولان متساويان مهما ظهر في لفظهما من اختلاف.
وكذلك مما يترتب على هذه النظرية أن أية عبارة تحدثك حديثا لا تكون له نتائج فعلية أو ممكنة في خبرتك العملية؛ كانت عبارة بغير معنى. مثال ذلك: أن أقول لك إن في المكان الفلاني كائنا روحانيا لا يمكن أن تراه الأبصار وليس هو بذي صوت تسمعه الآذان ولا رائحة له تشمها الأنوف، ولا تستطيع أن تصدمه بجسم صلب أو تمسه بيديك. فهذا كلام فارغ أجوف ليس له معنى؛ لأنه لا يتضمن نتائج عملية يمكنك أداؤها إزاء هذا الكائن المزعوم.
لكن وليم جيمس يبدي رأيه في العبارة التي تحدثنا عن وجود الله فيقول إنها ذات معنى، على أساس نظريته، على الرغم من أنني لن أحس لوجوده إحساسا بواحدة من حواسي كالعين أو الأذن أو الأصابع؛ ذلك لأن هذا الاعتقاد عند الناس له آثاره الكثيرة في وجهة نظرهم إلى الحياة؛ فهو قد يسبب لهم التفاؤل والأمل وغير ذلك مما يؤثر تأثيرا مباشرا في طريقة العيش التي يحيونها.
وكذلك من النتائج التي تترتب على النظرية البراجماتية فتجعلها بعيدة الاختلاف عن النظرية الواقعية أن صدق المعرفة درجات؛ أي أنك قد تجد فكرتين كلتاهما صادق، لكن واحدة أصدق من الأخرى؛ لأنها أنجح منها في مجال السلوك العملي، مع أنه لو كان رأي الواقعيين في المعرفة صوابا - أي أنه لو كانت المعرفة هي صورة للواقع ترسم على الذهن - لكانت المعرفة إما صوابا كل الصواب أو خطأ كل الخطأ؛ لأنه لا وسط بين الطرفين؛ إذ الفكرة عندئذ إما أن تكون صادقة التصوير لما تصوره أو غير صادقة. أما وقد جعلنا معنى الفكرة نتائجها لا أصلها؛ أعني أننا قد جعلنا معنى الفكرة نفعها العملي لا مجرد تصويرها للحقيقة تصويرا محايدا قد ينفع وقد لا ينفع، فمن الممكن أن تتفاوت الأفكار في النفع؛ وبالتالي تتفاوت في درجة الصدق.
والخلاصة هي أن المعرفة عند البراجماتيين ليست نسخة من أصل هو الحقيقة الخارجية، بل المعرفة بيان لما يمكن أن يكون عليه سلوكنا في حياتنا العملية، بحيث نحقق رضى النفس لأكثر عدد ممكن من الناس.
وبالطبع لا تخلو هذه النظرية البراجماتية من أوجه النقص، فليس من العسير أن تجد أمثلة من معارفنا لا تفسرها هذه النظرية تفسيرا مقبولا. خذ لذلك هذا المثل: إذا قلت لي إن كولمبس قد عبر المحيط الأطلسي سنة 1492م، وأردت أن أعرف إن كان قولك هو الصواب، فبناء على النظرية البراجماتية ينبغي أن أنظر في نتائج هذا القول لا في أسبابه، فإن وجدتها نتائج أدعى إلى السلوك الناجح كان القول صحيحا. لكن ما الفرق من حيث النتائج العملية بين من يقول ذلك، ومن يقول عن رحلة كولمبس إنها وقعت سنة 1491 أو سنة 1493م؟ إنه من العسير أن نتبين فرقا في النتائج، اللهم إلا أن القائل بالعبارة الأولى لو كان طالبا في امتحان فإنه يجتاز امتحانه بنجاح، على خلاف القائل بالعبارة الثانية أو الثالثة.
إننا لو جعلنا حسن النتائج المترتبة على الفكرة هو مقياس صدقها؛ لوجدنا عبارات مقطوعا ببطلانها صحيحة على هذا المقياس، فمثلا قولنا عن سانتا كلوز: إنه موجود (سانتا كلوز شخص خيالي يقال للأطفال في عيد الميلاد المسيحي: إنه يزورهم وهم نيام فيترك لهم هدايا العيد) يكون قولا صحيحا إذا قيس بنتائجه الطيبة على أنفس الأطفال وآبائهم جميعا.
وخذ أيضا هذا المثل: إذا رأيت البرق يلمع في السماء وتوقعت أن تسمع الرعد بعد ذلك ثم سمعته فعلا، فإنك تقول إن توقعك كان صوابا لا لأن اعتقادك بأنك ستسمع صوت الرعد سينفع أو لا ينفع في حياتك اليومية، بل هو صواب لأنه اعتقاد مطابق لما وقع في العالم الخارجي لا أكثر ولا أقل. والظاهر أن كثيرا جدا من معلوماتنا في الحياة اليومية الجارية يكون صوابا أو خطأ على الرغم من نفع الصواب في حياتنا أو عدم نفعه؛ فمعرفتي مثلا بأن فلانا يسكن في المنزل الفلاني، وأن قطار الإسكندرية يقوم من القاهرة في الساعة الفلانية وهكذا، تكون معرفة صحيحة أو غير صحيحة لمطابقتها أو عدم مطابقتها للواقع. وبعد ذلك فقد تكون معرفة نافعة في حياتي أو غير نافعة، أي أن الصواب والخطأ في كثير من الأحيان يتقرران قبل تتبع نتائج الفكرة لمعرفة نفعها أو ضررها، ولو كان عامل النفع العملي وحده هو مقياس صواب الفكرة، بل مقياس معناها وقابليتها للفهم كما يقول البراجماتيون؛ لكان صواب الفكرة من أفكارنا متوقفا إلى حد كبير على قانون العقوبات ونوع الحكومة القائمة وأمزجة أصحاب السلطة، فاعتقاد ساكن الروسيا بالشيوعية يكون صوابا حتما واعتقاده بالديمقراطية يكون خطأ حتما، على حين يكون اعتقاد ساكن الولايات المتحدة بالديمقراطية صوابا واعتقاده بالشيوعية يكون خطأ؛ لأنه إن كان مدار الصواب على النتائج فساكن الروسيا إذا اعتقد في الديمقراطية وضع في السجن، وكذلك يضطهد في أمريكا من يعتقد في النظام الشيوعي. وهكذا يتغير الصواب بتغير الظروف السياسية إن أخذنا بوجهة نظر البراجماتيين على إطلاقها.
الفصل الثالث
طبيعة المعرفة عند المثاليين
Неизвестная страница