تقديم
1 - النيازك في التاريخ
2 - ما بين التصديق والإنكار
3 - ما بين التقديس والازدراء
4 - النيازك في التراث العربي
5 - لماذا ندرس النيازك؟
6 - أخطار النيازك بين الحقيقة والخيال
7 - من أين تأتي النيازك؟
8 - الصدمات النيزكية
9 - كنوز النيازك
10 - أسطورة «أطلانطس» والنيازك
المراجع والهوامش
تقديم
1 - النيازك في التاريخ
2 - ما بين التصديق والإنكار
3 - ما بين التقديس والازدراء
4 - النيازك في التراث العربي
5 - لماذا ندرس النيازك؟
6 - أخطار النيازك بين الحقيقة والخيال
7 - من أين تأتي النيازك؟
8 - الصدمات النيزكية
9 - كنوز النيازك
10 - أسطورة «أطلانطس» والنيازك
المراجع والهوامش
النيازك في التاريخ الإنساني
النيازك في التاريخ الإنساني
تأليف
علي عبد الله بركات
جلال الملك أيام وتمضي
ولا يمضي جلال الخالدينا
أحمد شوقي
من أقوال «جون بويل أوريلي» (1844-1890م) عن الحب والحياة: «النيزك حجر كثيف وداكن في الفضاء، ولكن يشتعل كلهب ناري عندما يندفع في المجال الجوي؛ وكذلك حياتنا المملة مثل نيزك، تتوهج في مجال الحب.»
1
تقديم
يعنى علم دراسة النيازك «ميتوريتكس»، بدراسة المواد الصلبة الحديدية والحجرية، التي تسقط على الأرض من الفضاء الخارجي. وهو من العلوم الحديثة نسبيا، التي يعود تاريخ الاهتمام بها إلى بدايات القرن التاسع عشر، أي منذ حوالي 200 سنة خلت. وأخذ العلم ينمو نموا كبيرا في الآونة الأخيرة، وأصبحت تطبيقاته تغزو مجالات العلوم المختلفة، التي من أهمها أبحاث الفضاء، وما يرتبط به من علوم؛ كنشأة الكون، والمكونات الكيميائية للنجوم والكواكب، وعلاقة الأجرام السماوية بالأرض، وبحث مسألة احتمال وجود حياة خارج الأرض. ويسهم علم دراسة النيازك في تطور علوم الأرض، وتقدم الدراسات الخاصة بمراحل تطورها، وسير العمليات الحيوية عليها، ونشأة بعض المعادن والصخور، التي تتكون من تأثيرات الصدمات النيزكية بالأرض.
وكما كانت النيازك ترتبط ببعض المعتقدات في العصور القديمة، ولا تزال في بعض الثقافات، ترتبط أيضا في الثقافة العلمية الحاضرة بكثير من المسائل العلمية التي تناقشها وسائل الإعلام يوميا وتلقى اهتماما كبيرا من قبل الناس، مثل موضوع انقراض أنواع من الحياة كالديناصورات، بل أيضا موضوع اختفاء حضارات إنسانية كحضارة «أطلانطس»، المفترضة، وخطورتها على الحياة، وقضية وجود حياة على كواكب أخرى في المجموعة الشمسية ، وفوائدها العلمية والمادية، وتأثيراتها في فكر الإنسان عبر العصور، وإسهامها في تطور الفكر العلمي.
ويلمس هذا الكتاب موضوع النيازك، والظواهر المرتبطة بها، من وجهة تاريخية. ولا يقصد بالوجهة التاريخية هنا تاريخ النيازك، فذاك موضوع مختلف ومتخصص، يعنى بتاريخ تكونها في مصادرها الأصلية، وتاريخ سقوطها على الأرض. والمقصود بالوجهة التاريخية هنا، معرفة الإنسان للنيازك وعلاقته بها. ويبدو أن الإنسان سجل سقوط النيازك خلال عصور ما قبل التاريخ؛ إذ توجد رسومات ضمن تلك التي تركها الإنسان خلال تلك العصور، يفسرها البعض على أنها تمثل إشارات صريحة لسقوط النيازك على الأرض. ومن بين تلك الرسومات التي تعد أقدم إشارات لتسجيل سقوط النيازك، تلك التي توجد على جدران كهوف التاميرا الشهيرة في إسبانيا. وكذلك تلك التي توجد على جدران أحد الجلاميد الصخرية بمنطقة جبل العوينات في أقصى جنوب غرب مصر.
وخلال العصور التاريخية، توجد إشارات لسقوط النيازك من السماء في شكل تلميحات لمصدر الحديد الذي توفره النيازك الحديدية، يستدل منها على معرفة الإنسان لظاهرة سقوط النيازك ثم تأتي التسجيلات الصريحة لسقوط الأحجار السماوية، واختلاف الباحثين عبر التاريخ حول هذه الظاهرة، التي استمرت حتى القرن الثامن عشر؛ حيث كان البعض يرفض فكرة إمكانية سقوط الأجسام الصلبة من السماء. وممارسات الإنسان تجاه النيازك، وتأثيراتها في معتقداته وأفكاره العلمية، وما قدمت له من حديد خالص استغله في تشكيل أدواته الحديدية في العصور القديمة، حيث لم يكن يعرف استخلاص الحديد من خاماته الأرضية، وما قدمته من كنوز معدنية، استغلها الإنسان منذ عصور بعيدة.
الفصل الأول
النيازك في التاريخ
«لفهم علم ما، لا بد من دراسة تاريخه.» (أوجيست كونت، 1798-1857م) *** (1) شذرات من التاريخ
عرف الإنسان الأحجار الصلبة التي تسقط من السماء على الأرض (النيازك) قديما في التاريخ، لكن تسجيلاته الأولى والقديمة لها ضاعت في ظلام الحقب الزمنية البعيدة. ولا يجد الباحث في تاريخ النيازك وممارسات الإنسان حيالها سوى إشارات، تارة تكون واضحة وأخرى تكون غامضة مبهمة. وهكذا يجد الباحث نفسه أمام بيانات ناقصة في كثير من الأحيان، عليه أن يكملها، بما لديه من خلفيات تاريخية، وهو يحاول أن يضع صورة تاريخية لعلم وليد. وعلى الرغم من ملاحظة سقوط الأحجار السماوية قديما في التاريخ، فلا توجد إشارات صريحة تذكر كلمة «نيازك» في السجلات التاريخية. ومن طبيعة النيازك ومكوناتها وشغف الإنسان وحفاوته بالفلزات عبر العصور، والظواهر التي تصاحب سقوط النيازك، كالأضواء الخاطفة والأصوات العالية؛ يمكن استقراء تاريخ معرفة الإنسان القديم لها، ويمكن العثور على الإشارات الدالة عليها في الثقافات المختلفة عبر التاريخ، ويمكن من خلال مطالعة رسومات إنسان ما قبل التاريخ، العثور على بعض الرسومات الدالة على سقوط النيازك؛ فقد تشير بعض رسومات كهوف «التاميرا»، الموجودة في إسبانيا، التي تعود إلى قرابة 20000 عام، إلى ظواهر نيزكية، فيما يمكن اعتباره أقدم إشارات إلى سقوط نيازك.
1
وفي الآونة الأخيرة عثر الباحثون على رسم ملون، يعود لسكان ما قبل التاريخ، على جدران أحد الجلاميد الصخرية بوادي كركور طلح، بالقرب من جبل العوينات، في أقصى جنوب غرب مصر، ربما يمثل تسجيلا لحدث نيزكي. ويصور الرسم، الذي يوجد على سطح أحد الجلاميد الجرانيتية الضخمة، جسما ساقطا تنتشر منه ستة خيوط سميكة لأعلى، ويظهر الرسم - بالقرب من الجسم الساقط - رجلا يطلق ساقيه للريح هربا. ويقارب هذا الرسم الملون أو يضاهي الرسومات التي وجدت خلال العصور التاريخية والتي تسجل ظواهر سقوط النيازك على الأرض. ومن الإشارات غير المباشرة التي تعني معرفة الإنسان القديم بالنيازك، ما حققه الباحثون
2
من دلائل، على أن سكان شرق آسيا في العصور الموغلة في القدم، اعتبروا السماء مكونة من مادة حجرية. وتعكس هذه الإشارة أن الناس قديما عرفوا سقوط الأحجار السماوية، تماما كما أشار قدماء المصريين للسماء على أنها سقف من الحديد، في إشارة إلى معرفتهم بسقوط النيازك الحديدية.
رسم على جدران صخور كهوف «التاميرا» بإسبانيا، ربما يكون أقدم إشارة لسقوط النيازك.
رسم على سطح أحد الجلاميد الجرانيتية بمنطقة جبل العوينات يبين الجسم الساقط (على الجانب الأيسر) والرجل الذي يطلق ساقيه للريح هربا.
ومنذ بداية عصور ما قبل التاريخ وحتى العصور الحديثة نسبيا، كان الناس لا يرون النيازك سوى حديد يسقط من السماء، أو حديد يتكون من تأثير الصاعقة على الصخور الأرضية؛ إذ تشمل النيازك الساقطة على الأرض من السماء نوعا مميزا، هو النيازك الحديدية، التي تتشكل من سبيكة طبيعية من الحديد والنيكل؛ ومن ثم يوفر سقوطها الحديد الفلزي. ويصاحب سقوط النيازك الأضواء الخاطفة، والكرات النارية، والأصوات العالية المفزعة. ومن هذه الخيوط يستشف الباحثون - بطريقة غير مباشرة من قراءة إشارات الإنسان القديم لمصادر الحديد الفلزي - مدى معرفة الإنسان قديما بوجود النيازك. فماذا تذكر الكتابات القديمة عن مصادر الحديد؟ تكشف الدراسات الأركيولوجية عن وجود إشارات إلى المصادر السماوية للحديد، في عدد من الكتابات القديمة؛ فالكتابات المصرية القديمة، أطلقت على الحديد، خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد تسمية: «آن بار نا»، التي تعني معدن أو فلز السماء، مما يعني معرفة قدماء المصريين بسقوط النيازك الحديدية من السماء. وما يؤكد ذلك تصورهم الكون على أنه عبارة عن صندوق كبير بيضاوي إلى مثلثي الشكل، طويل من الشمال إلى الجنوب، وقصير نسبيا من الشرق إلى الغرب، تشغل مصر وسطه، وتحد سلسلة من الجبال شرقه وغربه، وتمثل السماء غطاءه.
3
ومن الطريف أنهم تخيلوا السماء سقفا من الحديد. وهذا يؤكد معرفتهم بالنيازك الحديدية التي تسقط من السماء.
4
إشارة قدماء المصريين للحديد على أنه فلز سماوي.
وتوجد إشارات للنيازك في اللغة اللاتينية، التي أطلقت على الحديد تسمية «سيدروس»، المشتقة من الكلمة «سيدوس»، التي تعني نجما، في إشارة إلى أصله السماوي. ومن الإشارات الدالة على المصدر السماوي للحديد، إشارة السومريين القدماء للحديد باسم «آن بار»، التي تعني في رأي بعض الباحثين «نار السماء»،
5
في إشارة صريحة للنيازك التي تسقط مصحوبة بالنيران. وكذلك كتابات الحيثيين (2000-1200ق.م.)، التي أشارت، في رأي بعض الباحثين، للحديد باسم «كو آن» والتي تعني أيضا «نار السماء»، وفي رأي البعض الآخر، باسم «آن بار»، والتي تعني فلز أو عنصر السماء. ويؤكد بعض الباحثين أن هذه الإشارة تعني الحديد السماوي تحديدا، ولا تعني شيئا آخر؛ إذ ورد في نفس تلك النصوص إشارات لبعض المواد التي من بينها الحديد مشفوعة بمصادرها الأرضية، كما وجد في نص شعائري بمناسبة تشييد منزل: «الديوريت (حجر أرضي من الصخور النارية) الذي أحضروه من الأرض. الحديد الأسود السماوي الذي أحضروه من السماء. النحاس والبرونز الذي أحضروه من «تاجاتا» في «ألاسيا»، قبرص».
6
ويرى الباحثون أن الإشارة إلى الحديد هنا تعني أنه من مصادر سماوية في إشارة واضحة وجلية إلى النيازك الحديدية تحديدا. ومما يؤكد ذلك أن النص وصف الحديد النيزكي، بأنه الحديد الأسود، في إشارة إلى الطبقة السوداء البراقة التي تغطي النيازك، والتي تتكون من احتراق الجزء الخارجي من الجسم النيزكي أثناء مروقه في الغلاف الجوي للأرض. وقد اعتبر الباحثون وصف الحديد باللون الأسود، يعني أن هذا النص يفرق بين مصدرين للحديد، حديد سماوي وحديد أرضي، ورد ذكره أيضا في نفس الكتابات مجردا. فمثل هذه الإشارات في الكتابات القديمة للحديد على أنه معدن أو فلز سماوي، تعني معرفة القدماء بظواهر سقوط الأجسام الصلبة من السماء، خاصة الحديدية. وغني عن القول أن هذه التفسيرات مجرد اجتهادات، لا ترقى لدرجة اليقين بأي حال من الأحوال؛ إذ قد يفسرها باحثون آخرون بطريقة مخالفة.
رسم تخطيطي حديث يصور فكرة قدماء المصريين عن الكون.
ويرى بعض المهتمين بتاريخ تسجيلات حوادث سقوط النيازك أن الوثائق التاريخية تحوي العديد من الإشارات الدالة على سقوط النيازك. ويعتبر حدث سقوط نيزك على «فرجيا» (مملكة قديمة في الأناضول بآسيا الصغرى، تقابلها الآن تركيا) في حوالي عام 2000ق.م. أقدم حدث مسجل في تاريخ علم النيازك. ويشير عدد من المؤرخين إلى أن هذا النيزك حفظ لسنوات طويلة في أحد المعابد حتى ينال التقدير والتبجيل، بوصفه جسما مقدسا لأنه سقط من السماء. وخلال تمدد وسطوة نفوذ الإمبراطورية الرومانية، طلب «الملك أتالوس»
King Attalus
في عام 204ق.م. نقل الحجر إلى روما في حفاوة كبيرة. ووصف الحجر بعض المؤرخين الرومان على أنه مخروطي الشكل له قاعدة مستديرة عريضة، وينتهي إلى قمة ضيقة نسبيا ولونه أسود. وبقي الحجر في روما مصانا لحوالي 500 عام ؛ حيث فقد بعدها ولا يعرف مصيره. ويذكر أن الحجر ظل في معبد بمدينة «بيسينوس» الأثرية التي تقع في الجزء الآسيوي من تركيا الحالية على نهر «ساكارياط» (سانجاريوس)، حيث كان يقدس باعتباره «سيبيل»
Cybele ، أو «أم الجبل» أو رب الأرض. وتمت عملية نقل الحجر من «فرجيا» إلى روما؛ بناء على إعلان أحد الكهان أن امتلاك هذا الحجر يضمن الازدهار والرفاهية لروما.
ويذكر «تيتوس ليفيوس»
Titus Livius (59ق.م.-17م)، المعروف في اللغة الإنجليزية ب «ليفي»، في تاريخه عن مدينة روما والرومان، الذي عنونه «فصول من تأسيس المدينة» وتناول فيه الأساطير والأقوال الخاصة بروما من بداية التأسيس، التي امتدت للوراء حتى عام 753ق.م. يذكر حادثة سقوط وابل من الأحجار على «جبل البان»، في حوالي 652ق.م. فأقر مجلس الشيوخ آنذاك القيام باحتفالية لمدة تسعة أيام، حفاوة بهذا الحدث.
ويعد الصينيون القدماء أول من عني بتسجيل الحوادث النيزكية في الحوليات التاريخية. وحقق باحثون حوالي 300 حدث نيزكي وجدت مسجلة في الحوليات الصينية التاريخية بداية من عام 700ق.م. حتى عشرينيات القرن العشرين. ومن الأحداث النيزكية المسجلة في حولية صينية تاريخية، كتبها المفكر والفيلسوف الصيني «كونفوشيوس» (551-479ق.م.) يطلق عليها «حولية الربيع والخريف»؛ حدث سقوط خمسة أحجار نيزكية على منطقة «سونج» في 24 ديسمبر، عام 645ق.م.
7
وسجل اليونانيون والرومان القدماء حوادث سقوط النيازك ضمن الحوادث التاريخية ذات الدلالة على تاريخ الإنسان. وحقق باحثون أن أقدم نيزك سجله قدماء اليونانيين والرومان هو حدث نيزك «إيجوسبوتامي»، الذي سقط على منطقة «ثراسيان تشيرسونسيس» (شبه جزيرة جاليبولي الحالية)، ما بين 469-467ق.م. وسجل هذا الحدث على لوحة رخامية توجد في «المدخل 57 من سجل الباريان»، كسرت إلى ثلاث قطع في عام 264ق.م. وتسجل هذه اللوحة أهم الأحداث التاريخية؛ كالطوفان وسقوط طروادة ... إلخ، بداية من عام 3800ق.م. حتى عام 264ق.م. ويعد هذا الحدث من أكثر الأحداث النيزكية القديمة وضوحا وشهرة؛ إذ ورد ذكره في العديد من الحوليات التاريخية، وشاع في الأدب اللاتيني والروماني. ويرى بعض الباحثين أن هذا الحدث أثر في فكر اثنين من فلاسفة الإغريق، فيما قبل عصر سقراط، هما: «أناكساجوراس» من «كلازومينا»، و«دياجونس »، من «أبولونيا»، عن الكون والأجسام السماوية؛ فذكر الأول أن الشمس والقمر والنجوم أجسام حجرية نارية تتكون من ثورات بعضها البعض، وأن الشمس والقمر والأجسام التي ترتبط بهما ولا ترى نظرا لصغرها، تقع أسفل الشمس. أما «دياجونس» فقد تصور أن الأجسام السماوية هي أجسام حجرية نارية (ملتهبة)، مثل الصخور التي تقذفها البراكين ملتهبة في الجو. وأهم إسهام له في مجال الأحجار السماوية قوله إن هناك أجساما غير مرئية تدور في فلك الأجسام السماوية المرئية.
8
وذكر «أرسطو» (384-322ق.م.) هذا الحدث في كتاباته، لكنه أنكر كونه جسما ساقطا من السماء، معتبره قطعة من الصخور الأرضية، دفعتها الرياح القوية عاليا في الجو، حيث عادت وسقطت مرة ثانية على الأرض. وذكر حادثة سقوط هذا النيزك «بليني الأكبر» (كايوس بلينيوس سكوندوس
Gaius Plinius Secundus ، 23-79م)، وحدد تاريخ سقوطه، وأضاف أن الحدث وقع في وضح النهار، وأنه يشبه حمل العربة، وأنه لا يزال موجودا في عصره، أي أنه ظل حوالي 550 عاما محفوظا بعد سقوطه.
9
وورد ذكر حدث النيزك في عدد كبير من الكتابات اللاحقة.
وحفل بأحداث سقوط الأحجار من السماء المؤرخون والكتاب العرب الذين سجلوها في شتى المؤلفات، ضمن الحوادث التاريخية والظواهر الطبيعية المهمة، باعتبارها حوادث لها مدلولها العلمي ولها تأثيراتها على الأرض. ويعتبر حدث سقوط نيزك السويداء بسوريا في عام 242ه/856م، أقدم حدث مسجل في التراث العربي؛ إذ سجل المؤرخون العرب سقوط نيزك حجري عبارة عن خمسة أحجار، على قرية السويداء بسوريا. وذكروا أن أحجار النيزك نقلت للأراضي المصرية في ذلك الوقت. وفي ليلة 19 مايو عام 861م، سقط حجر سماوي صغير يزن حوالي 472 جراما، على قرية صغيرة باليابان تدعى «يشو»، بالقرب من مدينة «نوجاتا»، مصحوبا بالأضواء الخاطفة، وبأصوات انفجارات شديدة، وارتطم بالأرض مشكلا حفرة صغيرة غار فيها. وفي الصباح تقصى القرويون الحدث فعثروا على الحجر الساقط، وأخرجوه من الحفرة.
10
ويمثل هذا النيزك، الذي يطلق عليه «نيزك نوجاتا»، أقدم عينة نيزكية معروف تاريخ سقوطها على الأرض حتى الآن.
وفي عام 396ه/1005م سقط نيزك يقدر وزنه بحوالي 260كجم، على منطقة «جوزجانان» [جورجان - جوزجان] التي تقع الآن ضمن حدود أفغانستان. وسجل حادثة السقوط، ووصف النيزك الساقط ابن سينا (980-1037م) في كتابه الطبيعيات ضمن موسوعة «الشفاء»: «المعادن والآثار العلوية».
11
وسجله كذلك عدد من المؤرخين والكتاب العرب. وتعد حادثة سقوط هذا النيزك من أكثر حوادث سقوط النيازك شيوعا في التاريخ، حيث تناوله عدد من الفلاسفة والكتاب والمؤرخين. ومن الوصف الذي قدمه ابن سينا للجسم الساقط في ذلك الوقت، أمكن تحديد طبيعته، وتصنيفه على أنه نيزك حديدي حجري (بالاسيت). وفشل السلطان محمود بن سبكتكين في ذلك الوقت في استغلال حديد النيزك الساقط في تشكيل سيف. وذكر البيروني أن النيزك الذي سقط في هذه الحادثة استخدم أنجرا لتثبيت السفن؛ نظرا لأن حديده لم يكن جيدا.
وعلى نفس المنوال في تسجيل حوادث سقوط الأحجار من السماء، قام مؤرخ صيني يدعى «مو توان لين»
Mu Tuan Lin (1245-1325م)، بجمع التقارير الخاصة بحوادث سقوط الأجسام الصلبة من السماء (النيازك)، خلال قرنين من الزمن ضمن سفر ضخم، يعرف باسم «موسوعة الصين العظيمة»
Great Chinese Encyclopedia .
12
ويورد «ألكساندر فون هومبولدت»،
13
عن تسجيلات تاريخية حدثا فريدا ومهما في موضوع تسجيلات سقوط النيازك، حيث سقط نيزك كبير على هيئة وابل من الأحجار، في عام 1511م، على سهل «لومباردي» بالقرب من ميلان إيطاليا. وتذكر الروايات المسجلة عن هذا الحدث، أن الدنيا أظلمت في ظهيرة يوم 4 سبتمبر 1511م؛ إذ ظهر في السماء فوق مدينة «كريما» شيء هائل مثل الطاووس العملاق، ثم تحول الطاووس العملاق إلى شيء مثل الهرم، الذي عبر السماء من الغرب إلى الشرق في سرعة كبيرة، لم تستغرق بضع دقائق. واختلط خلال تلك الفترة العصيبة دوي الرعود المفزعة مع ومضات البرق التي تخطف الأبصار، والتي كانت تسمع وترى في ربع السماء. وظهرت أضواء شديدة أضاءت المنطقة، حتى إن السكان في «بيرجامو» كان بإمكانهم رؤية كل سهل «كريما» بوضوح تام في تلك الأثناء. وتذكر المدونات التاريخية: وقد يسأل المرء: ما الذي حدث بعد هذه الفوضى العارمة المخيفة في الطبيعة؟ الذي حدث أن سهل «كريما» الذي لم يكن بإمكانك من قبل أن ترى عليه حجرا في حجم بيضة صغيرة، قد غطت سطحه قطع من أحجار كثيفة مختلفة الأحجام، قيل إن عشرة منها تزيد أوزانها عن مائة رطل. وقتلت الأحجار الساقطة في طريقها الطيور والخراف وحتى بعض الأسماك. وبعد كل ذلك، كان بإمكان المرء أن يرى السحابة السوداء التي سقطت منها الأحجار، باقية في السماء بنفس كثافتها. وتلقى «أنجيرا»
Anghiera
بنفسه في إسبانيا، قطعة في حجم قبضة اليد، من تلك الأحجار، وأراها للملك «فيردناند الكاثوليكي»
Ferdinand the Catholic ، في حضور المحارب المعروف «جونزولو دي قرطبة»
Gonzolo de Cordova . وجاء في نهاية خطابه: «... أمدتنا إيطاليا بالأعاجيب والمعجزات، بالفيزياء وعلم اللاهوت، وبالذي يتنبئون به، وكيف يأتون ليمضوا، سوف تتعلم الكثير ريثما جئت إلينا، مكتوب من «بيرجوستو» إلى «فاجيادوس».»
ويذكر «ت. ل. فيبسون»
14
نفس الحدث، ويورد أن حادثة السقوط تلك ذكرها «سارينس كارثيسيان» راهب «كولوجن»، في مذكراته، وذكرها أيضا «كاردان» في مدونته المعروفة ب «دي روم فاريتات». ويضيف أن أحجار النيزك سقطت على موضع يعرف ب: «كريما» على شاطئ نهر «أيدا» قريبا من مدينة «ميلان»، في الساعة الخامسة مساء يوم 4 سبتمبر عام 1511م. وبلغ وزن أكبر الأحجار الساقطة حوالي 120 رطلا. وكانت تلك الأحجار شديدة الصلابة، وكانت تنبعث منها وقت سقوطها رائحة كبريتية. ويذكر أن «بيتروس بارتير» أورد الحدث في مؤلفه الذي يحمل عنوان «أوبيس إبيستولاروم»، وذكر أن عددا كبيرا من الأحجار قدر بحوالي 1120 حجرا، بعضها يزن عدة أرطال، سقط على المنطقة في ذلك الحدث. وقد ضرب أحدها في طريقه أحد الرهبان، فلقي حتفه في الحال. وأصابت الأحجار الساقطة الطيور، والخراف المنتشرة في المنطقة، وقتلت حتى بعض الأسماك في النهر. ولوحظ أن السهل الذي كان خاليا من الأحجار قبل الحدث، قد امتلأ بالأحجار الساقطة من النيزك. وكانت الأحجار الساقطة ثقيلة وذات لون حديدي رمادي، تنبعث منها رائحة كبريتية. وصاحب عملية سقوط الجسم ظهور كرة نارية هائلة، وسحابة سوداء كثيفة، ودوي انفجار عنيف. ويعتبر هذا الحدث من الأحداث المهمة في تاريخ دراسة النيازك. ويشبه حدث سقوط وابل نيزك «سيكوتالين»
Sikhote-Alin
الذي سقط في 12 فبراير 1947م، ووابل نيزك «أليند» الذي سقط في 8 فبراير سنة 1969م.
وفي سنة 679ه/1280م، سجل بعض المؤرخين العرب حادثة سقوط نيزك حديدي، على الجبل الأحمر شرق القاهرة، ووصف الحدث على أنه صاعقة أحرقت الحجر الأرضي الذي أصابته، وكونت نتيجة لذلك قطعة من الحديد. وفي ظهيرة السابع من نوفمبر عام 1492م، سقط نيزك حجري كبير يزن حوالي 280 رطلا مصحوبا بأصوات انفجارات شديدة رجت المنطقة، وأصابت السكان بالفزع، على حقل مزروع بالقمح في قرية صغيرة تدعى «إنيشيم»
Ensiheim ، من إقليم «ألساس»، التي تقع الآن في نطاق الأراضي الفرنسية، والتي كانت في ذلك الوقت تخضع لألمانيا. ولا يزال هذا النيزك محفوظا حتى الآن، وهو ثاني أقدم نيزك معروف في تاريخ سقوط النيازك. وفي أبريل عام 1621م سقط على منطقة «جولاندهار» بإقليم البنجاب، التي تقع في حدود الهند الآن، نيزك حديدي يزن حوالي 150 «تولاس»، مصحوبا بالأضواء الشديدة، والأصوات العالية، وأحدث فزعا بين سكان القرية. ووصف الحدث الإمبراطور «جهانكير» الذي حكم في الفترة من 1605 إلى 1627م، الذي وقع الحدث في نطاق مملكته. وكان هذا الإمبراطور يتمتع بحس علمي مرهف؛ إذ أبدى اهتماما ملحوظا بالظواهر الطبيعية، حيث سجل كسوفين حدثا للشمس في عصره.
وفي 13 ديسمبر عام 1795م سقط على منطقة «والد كوتج»، بالمملكة المتحدة،
15
نيزك حجري كبير. ووقع الحدث في نهار يوم خال من الغيوم، وشاهده عدد كبير من الناس؛ ومن ثم لم يساور الناس شك في كونه شيئا آتيا من الفضاء؛ حيث لا توجد غيوم في السماء، يمكن أن ينسب إلى اصطكاكها تكون الجسم الساقط، كما كان شائعا في ذلك الوقت. ولقي الحدث اهتماما شعبيا كبيرا؛ إذ أقيم في عام 1799م نصب تذكاري يسجل الحدث في الموضع الذي سقط عليه النيزك، ويذكر التوقيت الذي سقط فيه ووزنه.
الفصل الثاني
ما بين التصديق والإنكار
«إنه لمن الأشياء التي لا يجب أن تغتفر في هذا الوقت أن نصدق مثل تلك المزاعم ...» (النمساوي أندرياس كازفييه ستوتز، 1747-1806م) ***
على الرغم من ملاحظة سقوط الأحجار السماوية قديما في التاريخ، فقد مر الاعتراف العلمي الصريح بوجود ظاهرة سقوط المواد الصلبة من السماء، بمنعطفات كثيرة ما بين التصديق والإنكار. ويعد المفكر والمؤرخ والفيلسوف اليوناني «أناكساجوراس»
Anaxagoras ، أول من ترك معلومات مدونة عن الأصل السماوي للنيازك. ولد «أناكساجوراس» في «كلازومينا»، والتي تهجى أيضا كلازوميني
Klazomenai
أو
Clazomenae ، التي تقابلها في العصر الحاضر مدينة «كيليزمان»
Kilizman
بتركيا، في عام 500ق.م. وتوفي في عام 428ق.م. ويعتبر «أناكساجوراس» من أصحاب التاريخ الثري في تاريخ الفكر العلمي. وله مقولة شهيرة صدر بها «فيلكس إم. كليف» كتابه عن فلسفة «أناكساجوراس»، تقول: «كل شيء يدار بالعقل»
All Has Been Arranged by Mind . ويذكر أنه أول من أدخل الفلسفة إلى أثينا، حيث نقلها من «آيونيا»
Ionia
في آسيا الصغرى. وحاول أن يقدم تفسيرات علمية للظواهر الطبيعية، ككسوف الشمس، وقوس قزح، والشهب، والشمس التي اعتبرها جسما ناريا متقدا أكبر من «بيلوبونيس»
، وهي شبه جزيرة كبيرة في جنوب اليونان. واتهم على إثر ذلك بالتجديف في الدين؛ ومن ثم حكم عليه بالطرد إلى مدينة «لامبساكوس»
Lampsacus ، التي يقابلها في الوقت الحاضر «لابيسكي»
Lapseki ، حيث أسس مدرسة للفلسفة كان لها تأثير كبير في نشر العلم والمعرفة، طوال العقدين الأخيرين من حياته التي حفلت بالنشاط العلمي.
1
ويعتبر بعض الباحثين أن الفيلسوف الإغريقي «دياجونس»
Diogenes
2
الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، أشار إلى أن النيازك ترتبط بالنجوم؛ ومن ثم يعد ذلك اعترافا بوجود مادة صلبة تسقط من السماء. ولا توجد إشارات أخرى معروفة في كتابات الأقدمين عن الأحجار السماوية، حتى عصر «أرسطو» (384-322ق.م.) الذي لمس الموضوع في كتاباته عن الموضوعات الجيولوجية في مؤلفه المعروف ب «الآثار العلوية»؛ حيث تطرق إليها ضمنا في محاولته تفسير ظاهرة البرق، التي تختلط مع ظاهرة سقوط الأجسام الصلبة من السماء، معتبرها بمثابة دخان أرضي، يصعد عاليا في الأجواء حيث يتكاثف، ليعود ويسقط ثانية على الأرض بقوة: «... والزفير الجاف عندما يخرج إلى الفضاء، وتحت ظروف خاصة يسبب الرعد والبرق والظواهر الأخرى. وفي أوقات أخرى قد يتجمع كغيمة سوداء تتكاثف لتشكل الحجارة التي تقذف بقوة نحو الأرض؛ لذا فقد سميت «القذائف الرعدية»
Thunder bolts .
3
ويذكر بعض الباحثين أن «أرسطو» أنكر ظاهرة سقوط أجسام صلبة من السماء، وفسر ظاهرة سقوط بعض الأحجار من السماء، كما في حادثة سقوط نيزك «إيجوسبوتامي» التي سبق الإشارة إليها، إلى أنها ناتجة عن اندفاع قطع من الصخور الأرضية بالرياح، ثم ما تلبث أن تسقط ثانية على الأرض، مما كان له أثر في تراجع الاعتقاد بوجود ظاهرة سقوط الأحجار السماوية على الأرض.
4
وتعتبر كتابات ابن سينا (القرن العاشر-الحادي عشر الميلادي) عن الصواعق؛ أهم الإسهامات المباشرة في هذا المجال، والبداية الحقيقية لميلاد علم دراسة النيازك؛ فلقد أشار - في معرض حديثه عن تكون الأحجار في كتابه «الشفاء» - إلى أن النيازك تأتي من مصادر سماوية، باعتبارها ضربا من تكون الأحجار من تحول نيران الصاعقة إلى مواد صلبة، حديدية أو حجرية. وقد خالف بذلك الآراء التي كانت شائعة آنذاك من أنها نواتج الزفير الأرضي، الذي يندفع في الجو، ثم يتكاثف ليسقط ثانية على الأرض، لكن أهم وأكبر إسهام لابن سينا في مجال تطور علم النيازك، هو ما قام به من دراسة وتحليل ما اعتبره نيازك، وخلص إلى طبيعة مكوناتها المعدنية والكيميائية. ويعتبر ذلك أول محاولة معروفة من نوعها في تاريخ علم النيازك، لتحليل الأجسام الساقطة من السماء والوقوف على مكوناتها الكيميائية. ثمة إسهام آخر لابن سينا في هذا المجال؛ هو وصفه لحادثة سقوط نيزك كبير على «جوزجانان» (ضمن حدود أفغانستان الآن) في القرن الحادي عشر الميلادي، حيث سجل صوت الانفجارات الهائلة التي صاحبت عملية السقوط تلك، والرعب والفزع اللذين أصابا الناس، والرجة العنيفة التي أحدثها الجسم لحظة ارتطامه بالأرض. ثم تطرق إلى ما يعد وصفا تفصيليا لتراكيب
Structures
النيزك، ومكوناته المعدنية، ومحاولة نقله من مكانه الذي سقط عليه، ومحاولات اقتطاع أجزاء منه ووزنه. وأشار في وصفه الجسم الساقط إلى أنه يتكون من الحديد وحبيبات مستديرة صغيرة، تشبه حبات «الجاورس» (الذرة الشامية). وقد مكن هذا الوصف الدقيق والوافي لطبيعة ومكونات الجسم؛ الباحثين في العصر الحالي من معرفة نوع النيزك الذي سقط آنذاك، والتحقق من كونه أول نيزك يوصف في تاريخ علم النيازك، من طائفة النيازك الحديدية الحجرية (مجموعة البالاسيت).
5
واستمر الحال سجالا في مجال علم النيازك، ما بين تقدم وانحسار. ومن أشد أوقات انحسار هذا العلم النصف الثاني من القرن الثامن عشر، الذي يعد عصر ازدهار العلوم المختلفة؛ فخلال تلك الفترة ساد اعتقاد يكاد يكون عاما ينكر ظاهرة سقوط الأحجار السماوية. ومن الأحداث المشهودة في ذلك الوقت إنكار واحد من أشهر الباحثين في علم المعادن (النمساوي أندرياس كازفييه ستوتز 1747-1806م) لسقوط الأحجار السماوية، وسخريته من التقارير التي تتعامل مع مثل تلك الحوادث؛ إذ انتقد بشدة وسخر من تقرير سجل وصفا لحادثة سقوط نيزك حديدي في عام 1785م على مدينة «هراشينا» التي تقع في كرواتيا الحالية.
6
حيث ذكر صراحة: «إنه لمن الأشياء التي لا يجب أن تغتفر في هذا الوقت، أن نصدق مثل تلك المزاعم.» وفي نفس ذاك الوقت تقريبا، أنكر عالم المعادن السويسري الأصل «ج. أ. ديلوك» هذه الظاهرة، وأضاف مؤكدا أنه: «لو رأى هو شخصيا حادثة سقوط حجر من السماء، فلن يصدق عينيه.» وشاعت في تلك الأثناء الأفكار التي تنكر ظاهرة سقوط الأحجار السماوية، حتى إن أشهر العلماء في ذلك الوقت تورطوا في إنكار هذه الظاهرة. ومن المواقف التي يجب أن يسلط عليها الضوء بهذا الخصوص، موقف الكيميائي الفرنسي المشهور «أنطوان لوران لافوزاييه»
Lavoisier
الذي وقع في عام 1772م مع طائفة من علماء الأكاديمية الفرنسية للعلوم مذكرة أنكر فيها إمكانية سقوط الأحجار السماوية. وهكذا شكك العديد من الباحثين البارزين في ذلك الوقت، في ظاهرة سقوط النيازك، منهم كيميائيون وفيزيائيون. ومن الطريف أنهم فسروا ظاهرة العثور على أجسام غريبة (نيازك) مصاحبة للأضواء الشديدة التي تظهر في السماء، وتضرب الأرض؛ فسروها على أنها ناتجة من تأثير الصواعق على الأرض.
7
وهذا يعود في الأساس إلى بعض الكتاب العرب القدامى الذين ربطوا بين الصاعقة وتكون المواد الحديدية في الأرض، في محاولة منهم لتفسير ظاهرة وجود الأجسام الحديدية (النيازك) التي يعثر عليها، عقب الأضواء الخاطفة، التي تسقط من السماء على الأرض.
ومن بين الذين كانوا يرفضون بقوة فكرة سقوط الأحجار الصلبة من السماء، أي يرفضون وجود النيازك من الأساس، الرئيس الأمريكي «توماس جيفرسون» (1743-1826م) - ثالث رئيس في ترتيب رؤساء الولايات المتحدة ، حيث شغل كرسي الرئاسة في الفترة ما بين عام 1801 إلى 1809م - شأنه شأن غالبية علماء القرن الثامن عشر الميلادي، الذين كانوا ينكرون ظاهرة سقوط الأحجار الصلبة من السماء، ويعتبرون أن ما يلاحظ من سقوط أحجار من السماء ما هي إلا مواد تخلقت في جو الأرض، أو شظايا صخور أرضية دفعتها البراكين أو الرياح إلى الجو، ثم ما تلبث أن تعود وتسقط ثانية على الأرض، فيراها الناس أثناء سقوطها.
8
وتفيد الروايات التي ذكرها بعض الكتاب بهذا الخصوص، أنه في سبتمبر من عام 1803م، تلقى الرئيس الأمريكي «جيفرسون» من صديقه المقرب «أندرو إليكوت» (1754-1813م)، سفير الولايات المتحدة آنذاك في فرنسا، خبرا يقول إن أحجارا من السماء سقطت على فرنسا، وإن الفلاسفة الفرنسيين هناك، في حيرة ما بين إذا كانت هذه الأحجار نشأت أصلا في الغلاف الجوي للأرض، أم أنها أحجار سماوية دفعتها البراكين القمرية للأرض من سطح القمر. وتذكر الرواية الخاصة بهذا الخبر أن «جيفرسون» تلقى هذه الأخبار باستخفاف قائلا: إنه لا يستغرب أن يسمع عن سقوط الأحجار أو حتى الطواحين من السماء على فرنسا؛ إذ يوجد في فرنسا عدد كبير من الفلاسفة، أكبر من عدد الفلاسفة في أي مكان آخر في العالم، لكنه أيضا عدد كبير من الفلاسفة الكاذبين. وتلقى «إليكوت» بعد عامين عددا من الدراسات الفرنسية المنشورة، التي تناولت بالدراسة والوصف تلك الأحجار التي تقول التقارير إنها شوهدت وهي ساقطة من السماء. وتؤكد التقارير أنها تختلف عن الصخور الأرضية العادية، لكنها في نفس الوقت لم تحسم موضوع كونها تكونت في الجو، أم أنها ساقطة من السماء. وأرسل «إليكوت» ليخبر «جيفرسون» بهذه الأبحاث، لكنه أخبره أنه لم ير كل هذه الأبحاث، وإنما قرأ بحث الفرنسي «إزام» عن طبقات الجو. وأضاف أنه لا ينفي أو يصدق الأخبار الواردة بخصوص ما يقال عن سقوط مواد صلبة من السماء.
وبينما الحال على تلك الشاكلة، ظهرت في سماء نيويورك كرة نارية كبيرة آتية من جنوب كندا، وأمطرت مدينة «وستون كونيتيكت» بنيويورك بعدد من الأحجار. ودرست هذه الأحجار من قبل باحثين من «كلية ييل» أحدهما خبير المعادن والجيولوجي والكيميائي «بنيامين سيليمان» (1799-1864م). وسقط حجر يزن 37 رطلا من هذه الأحجار، في حقل «دانيل سلمون»، الذي أرسله على الفور إلى تاجر وخبير المعادن المعروف «أرشيبالد بروس» في نيويورك لفحصه وتبيان طبيعته. واقتبس «سلمون» ما جاء في تقرير «بروس» من نتائج وسطر خطابا للرئيس في عام 1808م، يقول فيه: إن هذا الحجر - بدون شك - من أصل سماوي (نيزكي)، وإنه يشبه تلك الأحجار السماوية التي رآها «بروس» (تاجر وخبير المعادن الذي فحص الحجر الساقط) في كل من لندن وباريس، كما أنه يشبه القطعة التي في حوزته من نيزك «إنستسيم» الفرنسي الشهير، الذي سقط في عام 1492م. وسأل «سلمون» «جيفرسون» عما إذا كان ينبغي له أن يرسل هذا الحجر (الذي أشار إليه بالزائر الجديد في الولايات المتحدة) للرئيس والهيئة التشريعية الوطنية للنظر في أمره. وأجاب «جيفرسون» على خطاب «سلمون» في 15 فبراير، بخطاب يكشف تشككه في رواية أن هذا الحجر من السماء؛ إذ ورد في رده: «لا يمكن للمرء أن ينكر كل ما لا يعرفه من أشياء؛ إذ إن هناك العديد من الظواهر اليومية التي لا نستطيع أن نفسرها.» ويصل لخلاصة رأيه في الموضوع، فيذكر: يصعب فهم كيف جاء هذا الحجر الذي بحوزتك إلى المكان الذي عثر عليه فيه، لكن من السهل تفسير كيف وجد هذا الحجر في السحب التي من المفروض أنه سقط منها على الأرض. وفي الحقيقة، الشيء الذي يجب أن يتم الآن، هو أن يتم فحص هذا الحجر من قبل من هم مؤهلون لذلك،
9
إذ إنه لا يرى جدوى من إرسال الحجر، الذي يقال إنه سقط من السماء على مدينة «ستون»، إلى الرئيس أو النواب. وهذا يعبر عن إصرار «جيفرسون» على عدم الاعتراف بوجود ظاهرة سقوط الأحجار من السماء، وأنها تتكون في جو الأرض ثم تسقط على الأرض. وذكر بعض الباحثين أن «جيفرسون» قال: «من السهل عليه قبول أن الأساتذة الذين درسوا هذا الحجر كاذبون، لكن يصعب عليه تصديق كون هذا الحجر ساقطا من السماء .»
10
وأثرت تلك المفاهيم، التي سادت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، سلبا على تقدم علم دراسة النيازك، نظرا لأنها جاءت من قبل علماء بارزين لهم إسهاماتهم العلمية، ومن ثم لهم تأثيرهم في انتشار الآراء العلمية أو انحسارها بين الناس. وتخلى عدد من الباحثين، على إثر ذلك، عن دراسة الأجسام التي تسقط من السماء، وهجر الكتاب موضوع النيازك ولم يتطرقوا إليه، ولم يعد أحد يحفل بالتقارير التي تتحدث عن ملاحظة سقوط أجسام صلبة من السماء، وتخلص الباحثون مما كان بحوزتهم من عينات نيزكية كانت في انتظار الدراسة، وتخلصت بعض المتاحف والهيئات العلمية من العينات النيزكية المحفوظة بها. فعلي سبيل المثال تخلص متحف المقتنيات الملكية في «فيينا» من مجموعته النيزكية؛ نتيجة للحملة المعادية لظاهرة وجود أجسام صلبة تسقط من السماء، التي تزعمها «بورن»، أحد العلماء البارزين في مجال الدراسات المعدنية في ذلك الوقت. وهكذا ضاع عدد كبير من النيازك التي كانت بحوزة الأفراد والهيئات العلمية، ببلدان غرب أوروبا في ذلك الوقت.
ومع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، بدأت «الأوساط العلمية» المهتمة بالظواهر الطبيعية تناقش بقوة في محافلها ظاهرة النيازك، وظهرت بين أوساط المتعلمين والمثقفين والفلاسفة آراء متباينة غاية التباين حول موضوع سقوط النيازك من السماء؛ فمنهم من يرجع ظاهرة سقوط الأحجار الصلبة من السماء إلى انصهار مواد أرضية، من تأثير البرق الذي يصيب الأرض؛ ومنهم من كان يرى أنها مواد أرضية تنثرها ثورات البراكين في الجو، ثم تعود وتسقط ثانية على الأرض؛ ومنهم من كان يرى أنها تنشأ من تجمعات الأتربة في الغلاف الجوي، ثم تسقط على الأرض على هيئة مواد صلبة؛ ومنهم من يرى أنها مواد غريبة عن كوكب الأرض، أي أنها من أصل سماوي. وممن تبنوا الرأي القائل بالأصل السماوي «لابلاس»
Laplace ؛ حيث أكد أن الأحجار الصلبة التي تسقط على الأرض تأتي من القمر، من تأثيرات ثورات البراكين القمرية.
ويعتبر الفيزيائي «إرنست فلورانس كلاندي» (1756-1827م) عضو «أكاديمية علوم سان بطرسبرج» الروسية؛ أهم الباحثين الذين دفعوا علم دراسة النيازك في العصور الحديثة؛ إذ درس مجموعة من الأجسام الصلبة التي ذكرت التقارير أنها سقطت من السماء، على أماكن مختلفة من أوروبا، وأكد أنها ليست من أصل أرضي، وإنما من أصل سماوي. ووردت نتائج دراساته تلك في كتاب صغير صدر في «ريجا» في عام 1794م، متحديا الأفكار السائدة آنذاك، التي كانت تدعي أنه لا يسقط شيء من السماء، لكن آراء «كلاندي» لم تلق صدى كبيرا في حينها، وإن اعترف بها بعض من العلماء البارزين، من أشهرهم «و. أولبيرس».
الفيزيائي «إرنست فلورانس كلاندي» (1756-1827م).
وفي سابقة هي الأولى من نوعها - في ذلك الوقت - أقدم الكيميائي البريطاني «إدوارد هوارد»، في عام 1802م، على القيام بعمل تحاليل كيميائية على معادن الطور الفلزي، الموجودة ضمن المكونات المعدنية لنيزك «والد كوتج»، بالمملكة المتحدة، الذي سقط في 13 ديسمبر عام 1795م. وخلص «هوارد» من دراسته إلى أن المعادن الفلزية في هذا النيزك الحجري تشبه تلك التي توجد في النيازك الحديدية، والتي قرأ عنها في كتاب «كلاندي». وأسهمت ملاحظات «هوارد» في إذكاء إرهاصات مخاض الروح الجديدة التي تدعم الاعتراف بوجود ظاهرة الأحجار السماوية، والتي بدأ يرسي دعائمها «كلاندي». وتكريما له من قبل الباحثين، أطلق اسمه على مجموعة من النيازك تعرف الآن باسم «هوارديت». ويعد الباحثون في تاريخ تطور علم النيازك «هوارد» أول من قام بعمل تحاليل كيميائية على نيزك. وفي الواقع أن من قام بذلك هو ابن سينا، لكن يمكن اعتبار «هوارد» أول من قام بتحليل معادن الطور الفلزي في النيازك الحجرية.
ثم حدث تحول كبير نحو قبول آراء «كلاندي» بسقوط نيزك كبير على شكل وابل من الأحجار، بالقرب من مدينة «لأجيل» التي تقع في شمال فرنسا، في 26 أبريل عام 1803م. حيث جعل الحدث العلماء يفكرون جديا في أمر الأحجار الساقطة من السماء؛ إذ لا سبيل إلى التسويف إزاء حدث سقوط آلاف الأحجار على مساحة كبيرة من الأراضي، تمكن من مشاهدته عدد كبير من الناس. ووصف حادثة السقوط والأحجار التي جمعت من ذلك الحدث عالم مشهور هو «ج. ب. بويت»، وقدم أدلة واضحة على أن مصادر هذه الأحجار هي من خارج نطاق الأرض، مما اضطر الأكاديمية الفرنسية للعلوم إلى تغيير موقفها، والاعتراف بأن هناك أجساما صلبة تسقط على الأرض، في صورة أحجار أو مواد حديدية، وهي ما يطلق عليها نيازك.
وفي تلك الأثناء، قام باحثون بعمل تحاليل كيميائية على بعض العينات النيزكية المحفوظة في المؤسسات الروسية، ونشرت نتائج التحاليل في «دورية التكنولوجي» التي تصدرها أكاديمية علوم سان بطرسبرج» الروسية.
11
وأصدر الفيزيائي «أفاناسي ستويكوفيتش»، أستاذ الفيزياء بجامعة «كاركوف»، في عام 1807م كتابا مهما بعنوان «عن الأحجار الهوائية وأصلها» بوبه في جزءين، ناقش في الجزء الأول منه حوادث سقوط النيازك المعروفة، وقدم فيه نتائج الدراسات التي أجريت على النيازك التي تم جمعها من حوادث السقوط التي وصفها، متضمنة التحاليل الكيميائية، والدراسات المعدنية، ووصفا لكل النيازك المحفوظة. وفي الجزء الثاني من الكتاب ناقش بالتفصيل كل الآراء المعروفة آنذاك عن أصل النيازك. ومن الطريف أنه فضل الرأي الذي يعتبر النيازك شظايا أو قطعا شبيهة بالكويكبات (وهو الرأي السائد الآن). وكان لهذا الكتاب تأثير كبير في انتشار مفاهيم علم دراسة النيازك في روسيا، التي كانت تحتفظ بأكبر مجموعة من النيازك آنذاك، محفوظة في «أكاديمية علوم سان بطرسبرج»، والتي كانت تحوي عدد 7 نيازك مختلفة، على حسب القائمة المنشورة في عام 1811م.
وفي عام 1819م، صدر كتابان عن النيازك أثريا مفاهيم العلم ولعبا دورا حاسما في انتشاره؛ الأول أصدره «كلاندي» بعنوان: «الكرات النارية وما يسقط معها من أجسام»؛ والثاني أصدره الكيميائي الروسي «إيفين موكين» عن «أكاديمية علوم سان بطرسبرج» الروسية، تحت عنوان: «عن الزخات (الأمطار) غير العادية وعن الأحجار التي تسقط من الجو أو الهوائيات». ويناقش هذا الكتاب ظاهرة الكرات النارية، ويقدم قائمة طويلة بأحداث سقوط الأحجار السماوية، التي حدثت في بلدان مختلفة، منذ أقدم العصور وحتى وقت ظهوره. ولم يشاطر المؤلف في هذا الكتاب «كلاندي» رأيه الخاص بالأصل الكوني للنيازك، بل انتقده معتقدا أن النيازك تتكون في جو الأرض، وإن أشار إلى الحاجة لمعرفة المزيد عن مكونات الغلاف الجوي والنيازك؛ كي يصل الباحثون لرأي قاطع في هذا الخصوص. ويبدو أن مؤلف هذا الكتاب كان ينهج نهج الكتاب العرب، في تسجيله للحوادث التي تسقط فيها الأحجار من السماء. كما أن رأيه في أصل النيازك كان متأثرا بالفروض القديمة التي كانت ترى أن النيازك تتكون في جو الأرض، ثم تسقط ثانية على الأرض.
وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم تعد دراسة النيازك قاصرة على وصف ظواهر السقوط، وما يصاحبها من أضواء وأصوات مفزعة، ومحاولات عمل التحاليل الكيميائية المبدئية على العينات التي يتم جمعها من النيازك الساقطة، ومحاولات فهم ظاهرية لمكوناتها المعدنية؛ إذ أضاف اختراع المجهر (الميكروسكوب) المستقطب، في ستينيات القرن التاسع عشر (حوالي 1860م)، بعدا جديدا لعلم النيازك، حيث أخذ الباحثون يدرسونها كدراسة الأحجار الأرضية العادية؛ ليتعرفوا على تراكيبها الداخلية ومكوناتها المعدنية. وزاد الاهتمام بمثل هذه الدراسات في روسيا، على وجه الخصوص، حيث بدأ الباحثون يهتمون بدراسة ظواهر جديدة في النيازك لم تؤخذ في الاعتبار في الدراسات السابقة. وقام الكيميائي «أ. ف. جيبيل» بالتطرق لأهمية الأشكال الخارجية للنيازك، في دراسة نشرها عام 1868م، وقدم وصفا تفصيليا للشكل الخارجي لنيزك «كركيل» الذي سقط في عام 1840م، على مقاطعة «سيمبالاتبنسك». وأعقب ذلك الاهتمام بالتراكيب الداخلية للنيازك، والوصف التفصيلي للأشكال التي توجد عليها المكونات المعدنية للنيازك. وقد نال معدن الأوليفين الذي يوجد في نيازك البالاسيت اهتماما كبيرا، فنشر الأكاديمي الروسي «ن. ي. كوكتشروف» في عام 1870م نتائج دراسته على الخصائص البلورية لمعدن أوليفين البالاسيت في دراسة خاصة. ويعكس الكتاب المهم الذي أصدره «جوستاف سكيرماك»
Gostav Tschermak ، في عام 1885م بعنوان «النيازك»، أثر المجهر المستقطب على الدراسات النيزكية ؛ إذ جاء كعلامة فارقة في دراسة المكونات المعدنية والتراكيب الداخلية للنيازك، الأمر الذي مكنه من عمل تصنيفات علمية لمجموعات النيازك التي كانت معروفة ومتاحة آنذاك. ولا يزال هذا الكتاب حتى اليوم من الدراسات المهمة التي يرجع إليها الباحثون.
ثم كانت النقلة الكبيرة في هذا العلم في ثلاثينيات القرن العشرين (حوالي عام 1930م) مع تقدم تقنيات التحاليل الكيميائية وتطبيقاتها العامة، حيث أخذ ينظر إلى مكونات النيازك الكيميائية على أنها تمثل المكونات الكيميائية للكون، مما دفع الباحثين لعمل تحاليل دقيقة للنيازك أفضت إلى تحديد محتواها من العناصر الشائعة والعناصر الشحيحة. وكان يتم نشر الأبحاث الخاصة بالنيازك في الدوريات العلمية الخاصة بعلم الفلك والكيمياء والفيزياء والميتالورجي والجيولوجيا. وظهرت في عام 1939م أول مجلة متخصصة لنشر نتائج الأبحاث والدراسات التي تجرى على الأجسام النيزكية، أصدرها «الاتحاد السوفيتي السابق» تحت مسمى «ميتيوريتكا»
Meteoritika . ومنذ هذا التاريخ أخذ العلم في الصعود حتى وقتنا الحاضر؛ حيث تشعبت فروعه وتطورت معارفه، وغدا دعما مباشرا لأبحاث الفضاء التي ارتبط هذا العلم بها في كثير من النواحي. وأصدرت رابطة علم النيازك العالمية بالولايات المتحدة، في الستينيات من القرن العشرين دورية فصلية متخصصة في علم النيازك والعلوم المرتبطة به، أطلق عليها «ميتوريتكس»
Meteoritics ، كانت تزين غلافها الرموز الهيروغليفية: «بيا آن بيت»
bia n pit ، والتي تعني «فلز أو معدن السماء». ثم تغير اسمها إلى مجلة: «النيازك وعلوم الفضاء»
Meteoritics and Planetary Science ، وهي المجلة التي تصدر شهريا الآن.
الفصل الثالث
ما بين التقديس والازدراء
«إن الناس نظروا للأحجار التي تسقط من السماء باعتبارها أجساما تسقط من مواقع مقدسة في السموات.» (طومسن جالي، موسوعة الأديان) إذا رأيت شهابا ساقطا من السماء (النجم الساقط)، فتمن ما تشاء؛ فإن أمنياتك سوف تتحقق. ***
شاهد الناس قديما سقوط النيازك من السماء، وتفاوتت نظرتهم إليها من مكان لآخر، ومن زمن لآخر، ومن مجتمع لآخر، ومن ثقافة لأخرى، ما بين التقديس والازدراء. (1) تقديس النيازك
عبد الإنسان قديما الأحجار التي كانت تمثل بالنسبة إليه أشياء غير عادية؛ فالأحجار التي تظهر في الصحاري والحقول وتشبه صور الحيوانات والناس لفتت أنظار الإنسان القديم. وأهم الأحجار التي لا بد أنها لاقت التقديس من الإنسان القديم، هي بطبيعة الحال النيازك؛ فقد تخيل الناس أن النيازك التي تسقط من السماء على الأرض مصحوبة بالأضواء الخاطفة والأصوات العالية تمثل رسائل من الآلهة لها مدلولاتها؛ ومن ثم نالت منهم النيازك الحديدية (باعتبارها النوع الأكثر شهرة في التاريخ القديم) حظا كبيرا من الإجلال والتقديس.
1
ويذكر «طومسن جالي»، في «موسوعة الأديان»، أن الناس نظروا للأحجار التي تسقط من السماء باعتبارها أجساما تسقط من مواقع مقدسة في السموات؛ ومن ثم نالت التقديس والاحترام من الناس في العصور القديمة. ويذكر مثلا على ما يعرف بال «نومانا» من سكان وادي نهر النيجر بغرب أفريقيا، الذين يقدسون السماء. هؤلاء الناس يقدسون حصوات صخرية صغيرة، يرون أنها ساقطة من السماء. ويشكلون أقماعا من تراب الأرض بارتفاع 3 أقدام، ويضعون هذه الأحجار الصغيرة التي في حجم الحصى فوق قمة الأقماع التي يشكلونها من التراب، ويحجون إليها ويقدسونها. وباعتبار أن هذه الحصى ساقطة من السماء، فإنهم يعتبرونها أحجارا مقدسة من رب السماء.
2
وقد سبقت الإشارة إلى معرفة قدماء المصريين النيازك مبكرا، من خلال إشاراتهم للحديد باعتباره من مصادر سماوية. ونالت لديهم النيازك الحديدية الإجلال والتقديس؛ إذ يرى عالم المصريات الأستاذ زكي إسكندر أن قدماء المصريين كانوا لا يعتدون إلا بحديد النيازك، ولا يعيرون الحديد الأرضي أهمية تذكر.
3
وربما تكون ظاهرة سقوط النيازك وراء اختيار قدماء المصريين للشكل الهرمي الذي شيدوا عليه بعض مقابرهم ومسلاتهم. فمن بين المصادر التي ربما يكون قدماء المصريين استوحوا منها الأشكال الهرمية؛ شكل أشعة الشمس التي تشع من نقطة واحدة ثم تتسع، كما لو كانت قاعدة هرم. ولما كانت النيازك الساقطة على الأرض ترسم في الفضاء مخروطا من الضوء والدخان على نفس شاكلة شعاع ضوء الشمس، فلماذا لا يكون قدماء المصريين تخيلوها في تشكيل أشكال أهراماتهم؟
ويرى بعض الباحثين أن تمثال الإلهة «ديانا»
Diana
في «إفيسوس» والأثر المقدس في معبد «فينوس» في قبرص؛ مشكلان من مواد نيزكية. ومن مظاهر الاعتداد بالحديد النيزكي واعتباره من المواد المقدسة في بعض المتقدات ما حققه بعض الباحثين من أنه في عهد ملك روما «نوما بومبليوس» (753-715ق.م.) سقط نيزك حديدي من السماء، فشكل منه الكهنة درعا صغيرا، نال بدوره حظا وفيرا من التقديس؛ إذ شاع أن اقتناءه يحقق الحظ السعيد والحماية والسيادة. ومن الطريف أن بعض الكهنة - آنذاك - صنعوا أحد عشر درعا صغيرا مزيفا من الحديد الأرضي، على نفس شاكلة الدرع النيزكي، كي يقتنيها الناس تبركا بها.
4
ويرى بعض الباحثين، في مجال النيازك، أن المعابد وأماكن الصلوات والعبادات القديمة، أقيمت في مواضع سقطت عليها أحجار سماوية، أو هي تتضمن في لبناتها ووحدات بنائها أحجارا سماوية. وفي هذا الخصوص يظن بعض الباحثين أن أحد أهم الأحجار المقدسة الذي يوجد في معبد «أبوللو» في ديلفي، أنه حجر سماوي؛ اعتمادا على تفسيرات متضاربة للأساطير اليونانية الرومانية القديمة الخاصة ب «جوبيتر»، الذي تقول عنه الأساطير إنه ابن «ريا» و«ساترون». وكان «ساترون» يأكل أولاده قبل ولادة ابنه «جوبيتر»، فاحتالت «ريا» بعد ولادة «جوبيتر» فأعطته قطعة حجر ملفوفة بالقماش، فأكلها وأنقذت الوليد «جوبيتر». ثم احتالوا بعد ذلك على «ساترون» فجعلوه يتقيأ الحجر الذي أكله. وتستمر الأسطورة فتذكر أن السيكلوب (الكوكلوب) أعطى «جوبيتر» الرعد والبرق كمكافأة على صنيعه. وتصف الأسطورة الحرب بين «جوبيتر» وبين المردة، الذين تسلقوا السماء وأخذوا يقذفون الصخور التي سقط بعضها على البحر فكون الجزر، وسقط بعضها على اليابسة فكون الجبال.
5
وغالبا ما يصور «جوبيتر» على شكل رجل مهيب يجلس على عرش، وبيده اليمنى الصاعقة التي تمثل بكيفيتين؛ شعلة متقدة من طرفها؛ أو آلة مدببة ومزودة بسهمين، وبيده اليسرى آلهة النصر. فالصاعقة في هذه الأسطورة تشير - في رأي بعض الباحثين - للنيازك. والمعبد الذي بني هناك بني في الموقع الذي لفظ عليه الحجر الذي كان قد ابتلعه «ساتورن»، أي نيزك سقط على المنطقة.
6
ويذكر الكاتب الروماني «بوسانياس»
، الذي عاش في القرن الثاني الميلادي (180م)، أنه رأى الحجر هناك، ووصفه بأنه حجر ليس كبيرا جدا، وأضاف أن كهنة معبد «ديلفي» كانوا يطلونه بالزيت كل يوم.
وفي سنة 242ه/856م، سقطت خمسة أحجار على قرية السويداء ناحية مضر، بسوريا. ووقع حجر منها على خيمة أعراب فاحترقت. ووزن حجر من الأحجار الساقطة فكان وزنه حوالي عشرين كيلوجراما. ونقل النيزك إلى مصر؛ إذ ذكرت المصادر أن أربعة من الأحجار الساقطة نقلت إلى الفسطاط وواحدا إلى «تنيس». ولم تذكر الروايات المختلفة التي ذكرت الحادثة في أي مؤسسة أو مكان في الفسطاط أو «تنيس» وضعت هذه الأحجار؟ ولماذا نقلت من مواقعها إلى مصر في ذلك الوقت؟ وهل كان في مصر باحثون بإمكانهم دراستها، أم نقلت لأغراض أخرى؟ ومن ظاهر الرواية أن الناس احتفوا بهذا الحدث؛ بدليل قيامهم بوزن واحد من الأحجار الساقطة، ونقلها إلى مصر.
وفي ليلة 19 مايو عام 861م، سقط حجر سماوي صغير يزن 472 جراما، على قرية صغيرة باليابان تدعى «يشو»، بالقرب من مدينة «نوجاتا»، مصحوبا بالأضواء الخاطفة، وبأصوات انفجارات شديدة، وارتطم بالأرض مشكلا حفرة صغيرة غار فيها. وفي الصباح تقصى القرويون الحدث، فعثروا على الحجر الساقط وأخرجوه من الحفرة، وحفظوه في معبد خاص بطائفة «الشنتو»، بقرية «سوجا جينجا» حيث ظل من وقتها إلى الوقت الحالي. ولم يفطن أحد من الباحثين في تاريخ النيازك لهذه الحالة، حتى عام 1982م، عندما قام باحثون بدراسة العينة، وتبينوا أنها عينة نيزكية. ووجدت العينة محفوظة في صندوق خشبي صغير، مكتوب عليه تاريخ سقوط النيزك بالتقويم «الجولياني»، الذي يوافق 19 مايو عام 861م. واتضح من الدراسة التي أجريت بخصوص هذا النيزك، أن العينة وضعت في الصندوق بعد وقت طويل نسبيا من سقوطها.
7
ويمثل هذا النيزك، الذي يطلق عليه «نيزك نوجاتا»، أقدم عينة نيزكية معروف تاريخ سقوطها على الأرض حتى الآن.
ومن القصص الكاشفة عن مدى الاهتمام والتبرك بالنيازك، ما حدث في ظهيرة السابع من نوفمبر، عام 1492م، من سقوط نيزك حجري كبير، يزن حوالي 280 رطلا، مصحوبا بأصوات انفجارات شديدة، رجت المنطقة وأصابت السكان بالفزع على حقل مزروع بالقمح، في قرية صغيرة تدعى «إنيشيم»
Ensiheim ، من إقليم «ألساس»، التي تقع الآن في نطاق الأراضي الفرنسية، والتي كانت في ذلك الوقت تخضع لألمانيا؛ إذ احتفى الناس بذلك الحدث حفاوة كبيرة، كما أنه حظي بعناية الفنانين والشعراء، فرسم أحد الفنانين على قطعة خشبية لوحة تصور حادثة سقوط النيزك. وتظهر اللوحة اثنين من الرجال يرقبان سقوط النيزك من موقع قريب في الغابة. ونظم الشاعر الألماني «سيباستيان برانت» (1457-1521م) قصيدة باللغة اللاتينية؛ تخليدا لهذا الحدث. وكتب: الكرة النارية (النار التي صاحبت سقوط النيزك)، شوهدت عبر «سويسرا» و«برجانديا»، وأعالي وادي الراين، وأنذر ذلك الحدث بانتشار الأمراض، عبر كل تلك المساحة الشاسعة التي شوهد فيها. ويؤكد بعض الباحثين أن غلاما صغيرا فقط هو الذي شاهد تلك الحادثة، وهو الذي أرشد سكان البلدة للموضع، الذي كانت ترقد فيه أحجار النيزك الساقطة من السماء، والذي كان على هيئة حفرة يبلغ عمقها ثلاث أقدام، فسارع الناس إلى جمع القطع النيزكية الساقطة، واقتطاع أجزاء منها للاحتفاظ بها، باعتبارها مواد لها تأثيرات خارقة، إلى أن أمرهم حاكم المقاطعة بالتوقف عن ذلك. وتفقد موقع الحدث الإمبراطور «ماكسميلين الأول»
Maximilian I ، الذي زار المنطقة بعد ثلاثة أسابيع من وقوع الحادثة، واعتبر النيزك الساقط بمثابة رسالة غضب من الرب على الفرنسيين، الذين يحاربون الإمبراطورية الرومانية المقدسة. وأمر بأن يوضع النيزك في أبرشية القرية؛ تذكيرا بتدخل الرب في النزاع القائم بين الطرفين لصالح الإمبراطورية.
8
وتذكر بعض الروايات التاريخية أن الإمبراطور تبرك بهذه الظاهرة واعتبرها ظاهرة مشجعة للقيام بالحروب الصليبية، وواقية من الغارات التركية على البلاد.
9
وبعد قيام الثورة الفرنسية، صدر النيزك من الكنيسة، ونقل إلى متحف وطني جديد أقيم في «كولمار»
Colmar ، قريبا من القرية. واقتطع الباحثون أجزاء للدراسة من جسم النيزك الرئيسي. كما وزعت قطع منه على المتاحف الخارجية. وبعد عشر سنوات تقريبا أعيد الجزء المتبقي من النيزك، الذي أصبح يزن 122 رطلا فقط، إلى الكنيسة مرة أخرى. ثم ما لبث أن نقل من الكنيسة إلى معرض خاص به في المدينة، حيث يوجد معروضا حتى الآن. وقد كان لسنوات عديدة، يظن أن هذا النيزك يمثل أقدم نيزك معروف حتى عام 1982م؛ حيث اكتشف نيزك «نوجاتا» الياباني الذي سقط عام 861م.
ويروي «فليت» في كتابه «النيازك»، الذي صدر في عام 1887م،
10
أن أفراد قبيلتي «كرى» و«بلاكفيت» من الهنود الحمر، كانوا يحجون سنويا إلى موقع نيزك «أيورن كريك»، على قمة تل عال، يبعد أكثر من 200كم إلى الجنوب من «فيكتوريا»، بمقاطعة «ألبيرتا» بكندا؛ حيث كانوا يطلقون عليه «حجر الروح المقدس»
Manitou stone . وقيل: إن أي فرد من أفراد هاتين القبيلتين أو القبائل المجاورة لا يمكنه المرور بالقرب من موقع النيزك، دون أن يزوره ويتقرب إليه. وكان أفراد القبيلتين يزعمون أن وزنه يزداد مع الوقت، وأنه يمثل علاجا فعالا لشتى الأمراض. وفي عام 1869م نقل المستوطنون البيض هذا النيزك، الذي يبلغ وزنه حوالي 360 رطلا، من موقعه الأصلي إلى «كلية فيكتوريا». واعتبر أفراد القبيلتين من الهنود الحمر عملية نقل النيزك بمثابة كارثة حلت بهم.
ويتناقل أفراد قبيلة «هوبي» من الهنود الحمر، في الولايات المتحدة الأمريكية، أسطورة مفادها أن «الروح العظيم» هبط ذات مرة من مقامة العالي على الأرض، تحيط به النار والرعد، ودخل جوف الأرض من ثغرة كبيرة. ويشيرون إلى الثغرة التي دخل منها الروح العظيم في الأرض، فإذا هي فوهة «الأريزونا» الشهيرة، التي يبلغ قطرها حوالي 1200 متر، وعمقها 175 مترا، والتي نشأت من سقوط نيزك حديدي ضخم في الماضي البعيد. وما يدهش الباحثين حقا في هذه الأسطورة أن النيزك الذي أحدث هذه الفوهة، والذي يعرف بنيزك «كانون ديابلو»، s سقط من زمن بعيد نسبيا (20000-30000 عاما)، أي قبل أن يوجد أسلاف هؤلاء الناس بزمن كبير. فكيف توصلوا لهذه الحكاية؟ لا أحد يدري على وجه اليقين! وتشير الدراسات الأركيولوجية في كل من الولايات المتحدة والمكسيك إلى أن الهنود الحمر اكتشفوا نيزك «كانون ديابلو»، الذي توجد شظاياه متناثرة في الموقع، داخل وحول الفوهة، وتاجروا في قطعه ونقلوها إلى أماكن بعيدة، منذ أزمنة بعيدة، قبل أن يصل «كولومبس» إلى شواطئ العالم الجديد.
11
ويسجل «ه. ه. نينجر»
12
عددا من الحالات وجدت فيها النيازك ملفوفة بعناية، كما لو كانت مومياوات، ومدفونة في منازل ومساكن الهنود الحمر؛ حيث عثر على نيزك حديدي كبير نسبيا (135 رطلا)، ملفوفا في القماش والريش، في الركن الشمالي الشرقي لأطلال أحد المساكن القديمة، التي كان يقطنها الهنود الحمر، إلى الجنوب من بلدة «وينونا»، بالقرب من «كامب فيرد»، بولاية الأريزونا. ووجد النيزك مدفونا بنفس الطريقة التي يدفن بها الأطفال الصغار، بمصاحبة بعض الأواني الفخارية. وأسهمت هذه الأواني في تحديد عمر الدفنة، الذي قدر بحوالي 800 عام تقريبا. وعثر في عام 1928م، بأطلال مساكن حجرية تعود إلى حضارة ما قبل التاريخ، على نيزك يزن حوالي 24كجم، بالقرب من بلدة «وينونا» أيضا، في صندوق حجري، مدفونا على عمق 25سم. ويعبر دفن النيازك بهذه الطريقة عن اعتزاز الهنود الحمر بها، وتقديسهم لها.
ويبدو أن عملية دفن النيازك لم تكن قاصرة على الهنود الحمر وحدهم؛ إذ عثر على عدد من النيازك مدفونة بعناية في مناطق مختلفة من العالم. فعثر في عام 1845م على نيزك بيردناسك، الذي يزن 2,365كجم في ركام دفنة من الدفنات بجنوب روسيا، وفي عام 1867م عثر على نيزك «كاساس جرانديس» في مقبرة بالمكسيك، وفي عام 1892م عثر على نيزك «لوجان» بالأرجنتين، على عمق 6 أمتار أسفل بقايا «نصب حجري» في رواسب الحقب الرابع.
13
ومن مظاهر تقديس النيازك والاعتزاز بها، إقامة نصب تذكاري بالموضع الذي سقط عليه نيزك «والد كوتج» الحجري بإنجلترا، في 13 ديسمبر عام 1795م الذي سبق الإشارة إليه؛ إذ على النقطة التي ارتطم بها النيزك بالأرض، رأى السيد «إدوارد توفام»، صاحب الأرض التي سقط عليها النيزك، أن يخلد ذكرى هذا الحدث الجلل في تاريخ البلاد وقتها، وأن يقيم بناء بالطوب الأحمر، يضم لوحة رخامية كبيرة، يسجل عليها البيانات الخاصة بهذا النيزك. وفي عام 1799م أقام بالفعل النصب التذكاري للنيزك، وكتب بخط مميز على اللوحة الرخامية التالي:
14
ترجمة ما كتب على اللوحة الرخامية في النصب التذكاري الذي أقامه في عام 1799م السيد «إدوارد توفام» بموضع سقوط حجر «والد كوتج» النيزكي.
ويذكر أحد الباحثين
15
أنه سقط في عام 1853م نيزك صغير يزن حوالي رطل واحد فقط، على منطقة تقع بالقرب من شمال زنجبار، على الساحل الأفريقي الشرقي. وشاهد حدث السقوط صبية من الرعاة، فالتقطوه على الفور. وحاول المبشرون الألمان الذين كانوا بالمنطقة شراء النيزك الساقط بكل الطرق، لكن أفراد «الوانيكاس» المجاورين لموقع السقوط، الذين آل إليهم الحجر النيزكي، رفضوا بيعه أو التفريط فيه رفضا باتا؛ إذ اعتبروه إلها؛ لأنه حجر مقدس ساقط من السماء. وأخذوه ودهنوه بالزيت، ولفوه في القماش، وزينوه باللآلئ، وأقاموا له ضريحا صغيرا. ولم يسمح لأي أحد من المبشرين أو وكلائهم برؤية الحجر، ولا مجرد ذكر أي صفقة لشرائه منهم، لكن حدث بعد ذلك بثلاث سنوات أن هجم أفراد قبيلة «الماساي» البدوية على القرية، ودمروها وقتلوا عددا كبيرا من أفراد «الوانيكاس» وأحرقوا القرية؛ ففقد الحجر المقدس مكانته عند من قدسوه؛ ومن ثم باعه شيوخ القبيلة عند أول عرض تقدم به المبشرون لشرائه. ونقل النيزك الصغير لألمانيا، وظل معروضا ضمن مقتنيات متحف ميونخ في ألمانيا.
وما زالت بقايا ممارسات تقديس النيازك والتبرك بها موجودة في كثير من الثقافات، في عدد كبير من البقاع. فعلى سبيل المثال لا يزال يحرص رجال بعض القبائل والطوائف في الهند على جمع النيازك الساقطة، والاحتفاظ بها في دور العبادة الخاصة بهم، باعتبارها أجساما مقدسة. ويتصارعون مع رجال المساحة الجيولوجية الهندية، المنوط بهم جمع النيازك الساقطة على البلاد، بهدف دراستها ومعرفة طبيعتها. وما لم يسبق الباحثون في جمع النيازك التي تشاهد وهي ساقطة، يسبق إليها الأهالي ويقتنصونها.
16
ومن المواقف التي تكشف عن الاعتزاز بالنيازك، باعتبارها مادة سماوية، إقدام بعض الأهالي في قرية روسية على أكل حجر من أحجار نيزك سقط في أواخر عام 1886م، على قرية «نوفا أوري» التي تقع بجمهورية «موردوفيا» الروسية.
17
ولا يعرف سبب ذلك التصرف من قبل هؤلاء الناس، وهل كان نوعا من التبرك بالنيازك، أم ظنوها تمثل نوعا من العلاج الفعال؟ (2) ازدراء النيازك
في الوقت الذي لاقت فيه النيازك التقدير والإجلال من بعض الأفراد والقبائل والشعوب، لاقت التحقير والازدراء من البعض الآخر؛ حيث صارت مرادفة للعنة والهلاك والانتقام من قبل السماء. وساد الاعتقاد في أوروبا، خلال العصور الوسطى على وجه الخصوص، أن الأحجار الساقطة من السماء تمثل رسائل عقاب من الرب. ومما يدل على ارتباط النيازك بالشرور في أذهان بعض الناس تخيلهم سقوط النيازك على أنها ثعابين ضخمة تسقط من السحب. وتروي السجلات الروسية أنه في عام 1091م ذكر أحد القرويين أن ثعبانا ضخما سقط من السحب، رج الأرض وأصاب الناس بالذعر.
18
ومن بين الحالات الطريفة التي ورد ذكرها في الوثائق التاريخية، أن الناس كانوا يشيرون خلال القرون الوسطى إلى نيزك «إليبجين»، في «بوهيما»، الحديدي الذي يزن حوالي 107كجم، ويصفونه باسم غريب؛ هو «البارون المسخوط». وعلى حسب الرواية التي ظل الناس يتناقلونها فترة طويلة من الزمن عن هذا النيزك - الذي يرى بعض الباحثين أنه سقط خلال عام 1400م - أن الرب سخط البارون السيئ، ومسخه ليبدو على شكل هذه القطعة من الحديد.
19
ولا يدري أحد من الباحثين ما الذي دفع الناس لهذا الظن؟! وهل كان شكل النيزك الخارجي يشبه شكل الإنسان، وهل كان شكله يوحي بوجود شبه بينه وبين وجه ذلك البارون المكروه؟!
وفي أستراليا يتناقل السكان الأصليون ذكرى كارثة حلت بأسلافهم، عندما هوت مجموعة من الأحجار السماوية الضخمة على منطقة «ولف جريك»، فأحدثت فجوات كبيرة غائرة في الأرض، تشبه فوهات البراكين. ويشيرون إلى إحدى قطع النيازك الضخمة الموجودة بالقرب من هذه الفوهة، على أنها صخرة الشيطان، ويرفضون الاقتراب منها؛ خشية أن تصيبهم الكوارث.
20
رسم يصور النيازك على أنها ثعابين تسقط من السماء (مكسيكو، 1529م).
ويبدو أن «الإسكيمو» يحتقرون النيازك أيضا؛ إذ يعتقدون أن روح الشر المدعوة «تينارسوك» قذفت من السماء بامرأة، ومعها كلبها وخيمتها، في إشارة إلى ثلاث قطع من نيزك حديدي، وجدت في أرضيهم، واستغلوها في الحصول على أدوات حديدية، كالسكاكين والحراب المدببة، لفترة كبيرة من الزمن. وكانوا يطلقون على إحدى تلك القطع اسم «المرأة» (إذ بدت لهم على أنها أشبه بامرأة تحيك الثياب)، والقطعة الثانية أطلقوا عليها اسم «الكلب»؛ نظرا لشبهها بجسم كلب، أما الثالثة، وهي أكبر تلك القطع، فقد أطلقوا عليها اسم «الخيمة»؛ نظرا لشكلها المخروطي الذي يشبه الخيمة. وتعود قصة معرفة الباحثين لهذا النيزك إلى عام 1818م، عندما كان الكابتن «جون روس» يقوم برحلته القطبية، ولاحظ أن رجال «الإسكيمو» يستعملون حرابا مدببة ذات أطراف حديدية حادة وقاطعة، وسكاكين حادة، تستعمل في اقتطاع الجليد وغير ذلك من المهام والأغراض المختلفة. وتوقع «روس» أن «الإسكيمو» يحصلون على حديد السكاكين والحراب تلك من نيزك حديدي. وباءت محاولاته التي بذلها لمعرفة موقع مصدر هذا الحديد بالفشل، حيث كان «الإسكيمو» يعتبرون ذلك من الأسرار الخطيرة في حياتهم، التي لا يمكن أن يطلعوا عليها أحدا من الغرباء (المستكشفين البريطانيين والدنماركيين)، الذين يحلون على أراضيهم، لكن الأميرال «روبرت أ. بيري»
Robert A. Peary ، الذي قام برحلات استكشاف لمنطقة القطب الشمالي، في الفترة من 1886 إلى 1909م، تقرب كثيرا من أفراد قبيلة «الإسكيمو» وتودد إليهم، فقدم لهم الكثير من الهدايا؛ كالسكاكين، والبنادق، والإبر، والحراب، وغير ذلك من الأدوات التي غيرت حياتهم بشكل ملحوظ، فأصبح بالنسبة إليهم صديقا حميما؛ ومن ثم وافق أفراد قبيلة «الإسكيمو» الصغيرة على إرشاده إلى الموقع، الذي كانوا يجلبون منه الحديد. ووصل بالفعل إلى شرق «كاب يورك» ب «جرين لاند» في عام 1894م؛ حيث ترقد قطع النيزك الثلاث. وفي عام 1895م رفعت القطعتان «المرأة والكلب» على ظهر سفينة النجدة «كايت»
Kite ، في حين لم يتمكن الأميرال «روبرت أ. بيري» ورجاله من رفع قطعة النيزك الأخرى التي يطلق عليها «الخيمة» نظرا لثقلها، لا في هذه المرة ولا في المرة التي تلتها، خلال عام 1896م، لكنه تمكن هو ورجاله من ذلك في عام 1897م. واستقرت القطع الثلاث في قاعة «هايدن للكواكب السيارة» بالمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي في نيويورك؛ حيث يمر عليها آلاف الزوار كل عام.
21
وفي عام 1963م استطاع الباحث الدنماركي «فاجن بوشوالد»
22
العثور على قطعة أخرى كبيرة من نفس النيزك تزن حوالي 20 طنا، في نفس المنطقة التي عثر فيها على القطع النيزكية الثلاث السالفة الذكر في «جرين لاند»، والتي لم يكن رجال «الإسكيمو» يعرفونها أو يذكرونها. وقد نجح «بوشوالد» - باستخدام وسائل بسيطة، وبدون اللجوء إلى استخدام معدات ثقيلة - في تحريك هذه القطعة النيزكية ودفعها على سطح الجليد، وتحميلها على ظهر السفينة، التي نقلتها إلى كوبنهاجن، حيث تستقر الآن ضمن عدد كبير من النيازك الأخرى. (3) الحجر الأسود
يتخيل بعض دارسي النيازك أن الحجر الأسود، في الركن الجنوبي الشرقي من الكعبة، حجر نيزكي سقط من السماء،
23
وقت إعادة إبراهيم عليه السلام بناء الكعبة، معتبرين أن اعتزاز المسلمين بالحجر الأسود يأتي في سياق العادات القديمة التي مارسها الناس تجاه الأحجار السماوية، التي ظنوها تمثل رسائل من السماء وتمثل صورا للآلهة، كما سبق الإشارة إلى ذلك. وتمتد هذه الرؤى لتحاول إثبات أن الحجر الأسود في الكعبة من الأحجار السماوية، أو هو من صخور الصدمات النيزكية، التي تنشأ من تأثيرات ارتطام النيازك الكبيرة بصخور سطح الأرض. والذي يغذي مثل تلك الرؤى اعتزاز المسلمين واهتمامهم بالحجر الأسود، والروايات الخاصة بمصدره؛ إذ ثمة إشارات ظاهرية وردت ضمن الروايات التاريخية التي تتحدث عن مصدر الحجر الأسود، وقت إعادة إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام بناء الكعبة في العصور القديمة، هي المحرك الأساسي لتفسيرات الباحثين أن الحجر الأسود ضرب من ضروب الأحجار السماوية؛ فتشير بعض الروايات التاريخية إلى أنه أثناء قيام إبراهيم عليه السلام بعملية إعادة البناء، رغب في وضع حجر من نوع خاص ومميز في ركن من أركان الكعبة؛ كي يصير علامة يرجع إليها الناس أثناء الطواف، فطلب من إسماعيل عليه السلام أن يأتيه بمثل هذا الحجر الذي يرغب فيه. فأخذ إسماعيل عليه السلام يبحث عن الحجر المطلوب، وعاد ومعه بعض الأحجار، فوجد إبراهيم عليه السلام، وقد وضع هذا الحجر المميز في البناء، فسأل عن مصدره فأخبره أنه قد أعطاه له الله؛ فهذا ما يجعل الناس يظنون أن الحجر الأسود حجر من الأحجار السماوية، لكن لا يعني هذا القول بالضرورة أنه ساقط إليه من السماء، بل قد يعني أن الله هو الذي هداه إلى العثور عليه من بين صخور الأحجار الأرضية المتاحة من حوله.
الحجر الأسود في جدار الكعبة المشرفة.
ومن الباحثين في مجال النيازك من يظن أن الحجر الأسود قطعة من زجاج الصدمة النيزكية، التي وقعت في منطقة وابر بالربع الخالي، شمال شرق المملكة العربية السعودية، وكونت نوعا مميزا من المادة الزجاجية السوداء، التي يطلق عليها «زجاج وابر». وهو نوع من الزجاج الطبيعي، الذي توجد به فجوات ناتجة عن هروب الغازات الحبيسة في المادة المصهورة لحظة التصلب. أي أنها مادة زجاجية تشبه إلى حد كبير الصخور البركانية المعروفة بحجر الخفاف ال «بيومس». ويعتمد من يظن أن الحجر الأسود قطعة من «زجاج وابر»
24
على روايات تقول إن الحجر الأسود يطفو فوق الماء ولا يغوص فيه ، كما في رواية صلاح الدين الصفدي (696-764ه/1296-1363م) في كتابه الوافي بالوفيات؛ إذ يذكر في معرض حديثه عن موضوع إعادة الحجر الأسود من قبضة القرامطة، عام 339ه/951م:
25 «ولما أرادوا رده حملوه إلى الكوفة وعلقوه بجامعها حتى رآه الناس، ثم حملوه إلى مكة ... وجهز الخليفة (المطيع) إليهم عبد الله بن عكيم المحدث وجماعة معه. فأحضر أبو طاهر شهودا ليشهدوا على نواب الخليفة بتسليمه ثم أخرج لهم أحد الحجرين المصنوعين فقال له عبد الله بن عكيم: إن لنا في حجرنا علامتين؛ لا يسخن بالنار ولا يغوص في الماء، فأحضر ماء ونارا وألقى الحجر في الماء فغاص ثم ألقاه في النار فحمي وكاد يتشقق، فقال: ليس هذا بحجرنا. ثم أحضر الحجر الآخر المصنوع وقد ضمخهما بالطيب وغشاهما بالديبالج إظهارا لكرامته، ففعل به عبد الله بن عكيم كذلك ثم قال: ليس هذا بحجرنا. فأحضر الحجر الأسود بعينه فوضعه في الماء فطفا ولم يغص ثم وضعه في النار فلم يسخن، فقال: هذا حجرنا. فعجب أبو طاهر.» وقد اطلع على مثل هذه الروايات بعض الباحثين في مجال النيازك، واعتبروا أن كون الحجر الأسود يطفو فوق الماء ولا يغوص فيه، يعني أنه يشبه حجر الخفاف الذي يطفو فوق الماء. ولما كان «زجاج وابر» قريب الشبه بحجر الخفاف، من حيث وجود الفجوات فيه، فقد اعتبر ذلك دليلا على أن الحجر الأسود من «زجاج وابر»، لكن الحقيقة أن «زجاج وابر» لا يطفو فوق الماء بل يغوص فيه؛ إذ رغم كونه به فجوات هوائية، إلا أنه أيضا يحوي في الغالب كرات تتكون من الحديد مع النيكل ثقيلة صغيرة، من نفس مادة النيزك الحديدي الذي كان السبب في تكونه؛ ومن ثم فإن الدراسة اعتمدت على ظاهر الرواية التي تقول إن الحجر الأسود يطفو فوق الماء. ولم يثبت عمليا أن الحجر الأسود يطفو فوق الماء.
ويغفل الباحثون قضية مهمة، وهي أن الاهتمام بالحجر الأسود في شعائر المسلمين، لا يعتمد على طبيعته الذاتية، وإنما يعتمد على كونه علامة من علامات الطواف حول الكعبة؛ ومن ثم يجب تقبيله أو الإشارة إليه من قبل الحجاج. وثمة مبرر آخر للاعتزاز بالحجر الأسود؛ وهو كونه الحجر الذي وضع في بناء الكعبة بيدي إبراهيم عليه السلام، وأعيد وضعه في واحدة من مرات تحريكه، بيدي النبي محمد
صلى الله عليه وسلم . وعموما تختلف الآراء حول طبيعة الحجر الأسود؛ فبعضها يرى أنه حجر أرضي من صخور البازلت أو العقيق؛
26
أو نيزك حجري، أو قطعة من «زجاج وابر». وهكذا يظل كون الحجر الأسود من النيازك أو من الصخور الأرضية، رهن فحصه من قبل باحث متخصص في النيازك، يكون على دراية كبيرة بالصخور الأرضية، يمكنه من الفحص الظاهري تبين طبيعة هذا الحجر. حيث لا يمكن اقتطاع أي جزء منه بغرض القيام بتحاليل معملية، وهي الطريقة التي يعتمد عليها غالبية الباحثين في مجال دراسة النيازك. (4) الشهب من التقدير إلى الازدراء
كما ارتبطت النيازك ببعض الممارسات لدى بعض الشعوب، كذلك الأمر بالنسبة إلى الشهب. فبحسب تقويم للكنيسة الأوروبية يعود إلى أكثر من ألف سنة خلت، فإن سيل شهب «فرساوس»، هي دموع القديس «لورانس».
27
وتعود هذه الواقعة إلى ما ساد أوروبا من فوضى عارمة، إبان النزاع بين سلطة الحكومة الرومانية والكنيسة؛ فالحكومة كانت تطلب من المسيحيين أن يبذلوا بعض الوقار للآلهة الرومانية، تمشيا مع الجو العام السائد آنذاك، ولكن أغلب القساوسة كانوا يرفضون ذلك في إصرار وعناد. وتارة تمر الأزمة بدون عنف من قبل الحكومة، لكن عادة ما كانت تقابل بالقسوة والشدة. وتعود قصة ذلك الصراع إلى عام 64م تقريبا، وامتدت حتى نهاية القرن الثالث. وكانت حدة الاضطهاد ضد المسيحيين تخف ثم ما تلبث أن تزيد، وفي حوالي عام 258م عادت مرة أخرى حدة التعذيب للمسيحيين، كما يذكر المؤرخ الكبير ويل ديورانت في موسوعة «قصة الحضارة»:
28 «وفي أزمة أخرى من أزمات الغزو والرعب التي كانت تواجهها الإمبراطورية الرومانية، أمر الإمبراطور «فليريان» أن يمتثل كل شخص للشعائر الرومانية، وحرم كل الاجتماعات المسيحية، لكن البابا «سيكستوس»
Sixtus
عصى الأمر، فأعدم هو وأربعة من شمامسته، وقطع رأس «سبريان» أسقف قرطاجنة، وحرق أسقف «طراقونة» حيا . وكان القديس «لورانس» واحدا من الضحايا خلال تلك الأحداث؛ إذ عذب وأحرق في 10 أغسطس (آب) عام 258م. ويذكر أن أول من أمر بالاحتفال بهذه الذكرى هو الإمبراطور الروماني «قسطنطين» الأول. أما الظاهرة فهي أنه في منتصف أغسطس (آب)، تلمع في السماء آلاف الشهب في عرض سماوي فريد، يتوافق مع ذكرى حرق القديس لورانس؛ ومن ثم فإن الكنيسة اعتبرت أن هذه الشهب بمثابة دموع القديس الذي أحرق حيا.
وتعود ظاهرة الشهب هذه إلى أن الأرض - أثناء دورتها حول الشمس - تمر في الفترة من يوم 8 إلى يوم 12 من شهر أغسطس، بالقرب من، أو تقطع مدار المذنب «سويفت تاتل»
Swift-Tuttle (نسبة إلى مكتشفيه الفلكيين الأمريكيين «لويس سويفت» و«تشارلز تاتل» في عام 1862م). ودرس الفلكي «جيوفاني شياباريلي» في عام 1867م علاقة الأرض بمدار هذا المذنب، وخلص إلى أنها تدخل مداره في 11 أغسطس من كل عام، وأن ظاهرة الشهب التي ترى في هذه الفترة، تعود إلى دخول الجسيمات الصغيرة - التي خلفها المذنب في مداره - جو الأرض فتحترق، محدثة ما يعرف بظاهرة عرض الشهب، التي ترى في منتصف شهر أغسطس. ويذكر مؤلف معجم الخرافات والمعتقدات الشعبية في أوروبا «بيار كانافاجيو»
29
أن الناس يرون في الشهب أرواحا شريرة تهبط في الجحيم، عدا شهب ليلة 15 أغسطس. وإذا أبصر الصقلي شهابا صلب (يرسم صليبا بالإشارة).
ومن الأقوال الشائعة التي ترتبط بالشهب: إذا رأيت شهابا ساقطا من السماء (النجم الساقط)، فتمن ما تشاء؛ فإن أمنياتك سوف تتحقق. ويقال: عندما يسقط شهاب يسقط ملك. وهكذا تقاس أقدار الأمم حسب الشهب الساقطة من السماء. فيذكر الكاتب الروماني «سينيكا الأكبر» (54ق.م.-39م)، في مدونته «مشاكل الطبيعة» أن شهابا كبيرا، غلب ضوءه ضوء القمر، سقط في عام 168 قبل الميلاد، أثناء معركة «بيدنا» في اليونان؛ حيث كان الجنرال الروماني «ماسيدونيكوس بولوس» يشن حربا ضروسا ضد «بيرسوس».
30
وهي المعركة التي أنهت حكم آخر ملوك مقدونيا العظام الذين ينتسبون للإسكندر الأكبر، ووضعت نهاية الإمبراطورية اليونانية، وجاءت بسطوة الرومان على شعوب الشرق الأدنى.
الفصل الرابع
النيازك في التراث العربي
«وانقض كوكب يحكي من رآه أنه كان على هيئة القمر فانهدمت حينئذ مواضع كثيرة في الجبال.» (الخزجي، كتاب العقود اللؤلئية في تاريخ الدولة الرسولية) ***
يكاد يجمع مؤرخو العلم على أن العرب خلفوا تراثا علميا قيما فيما يخص علم الفلك؛ فالعرب بطبيعة حياتهم المعيشية يتعلقون بالسماء، التي يهتدون بنجومها في مواقيتهم، ورحلاتهم وتنقلاتهم من منطقة لأخرى أو من بلد لآخر عبر الدروب الصحراوية، وانتظارهم الأمطار التي تعد مصدر المياه الرئيسي في بلادهم. ساعدهم على ذلك صفاء سماء أرضيهم الخالية من العواصف والسحب والغيوم، لكن ذلك لم يكن خليقا بأن يخلفوا هذا التراث الهائل بدون حس علمي، جعلهم يسجلون مشاهداتهم، التي تطورت إلى أبحاث بفتح المجال نحو مناقشة تلك المشاهدات، وتمحيص الآراء التي تختص بها؛ فقد تمتلك الشعوب مهارات خاصة ومعارف كثيرة، لكنها تقتصر على سلوكياتها الحياتية، وانتقالها للأجيال شفاهة، لكنها لا تسجل كتابة، فتضيع مع موت أهلها، وتظل آثارها باهتة في مخيلات من سمعوا بها. وهذه الشعوب وإن تفوقت علميا، إلا أنها لم تكن تمتلك الحس العلمي، الذي يجعلها تحرص على تسجيل الظواهر والمشاهدات، والآراء والمساجلات الخاصة بالظواهر الطبيعية والإنسانية، في الكتب والحوليات والوثائق، التي تظل وعاء يحرس هذا التراث أو ذاك، لتستفيد منه البشرية على مر الزمن ، وتطوره بما يضاف إليه من معارف جديدة يكتسبها الإنسان. وهذا ما يميز أمة - في تاريخ العلم - عن غيرها من الأمم، ويحدد إسهامها ودورها مقارنة بأمة أخرى. وتسجيل الأحداث لا يخرج بحال من الأحوال عن مدى تطور الأمة؛ إذ يعكس الرخاء الذي تنعم به، نتيجة لنظمها السياسية والإدارية والمالية المتطورة، التي تغرز ذلك المناخ العلمي، الذي يعكس حرصها العام على بقاء ذكرها في التاريخ. وقد تفوق العرب في التسجيل تفوقا كبيرا لا ترقى إليه أمة في التاريخ، حتى إن بعض الباحثين يذكر أن حب العرب للتدوين وكثرة كتاباتهم، وما استخدموه من أوراق وأحبار في كتاباتهم التي تفوق الحصر؛ كان وراء تطور وسائل الكتابة بصفة عامة، وكان وراء اختراع ورق الكتابة بشكله الحالي.
1
ونالت النيازك حظا وفيرا من اهتمام المؤرخين العرب، باعتبارها ظاهرة طبيعية فريدة تخرق فكرة الكون الثابت التي علقت بالأذهان قديما وحديثا؛ ومن ثم فقد تبارى المؤرخون العرب في تسجيلها ضمن أهم الأحداث التي وقعت في التاريخ. والأهم من ذلك أنهم حرصوا على نقل أخبارها من كتبهم التاريخية. فنرى كاتبا أو مؤرخا يسجل حدثا نيزكيا وقع في أزمنة بعيدة عن زمنه الذي يعيش فيه تماما، شأنها في ذلك شأن أهم الأحداث التاريخية. ومن الأمثلة المبكرة على دراسة موضوعات دقيقة تتعلق بعلم النيازك، في التراث العربي، ما أورده المرزوقي (أحمد بن محمد بن الحسن أبو علي المرزوقي، عالم بالأدب من أهل أصبهان، المتوفى سنة 421ه/1030م) في كتابه الرائع «الأزمنة والأمكنة»، من مناقشة لقضية من أهم قضايا علم النيازك، وهي تغير معدلات سقوط النيازك على الأرض مع الزمن. وهي قضية تشغل الباحثين في الوقت الحاضر. ففي لمسة طريفة لهذا الموضوع المهم، يذكر في معرض حديثه عن رجم الشياطين بالشهب:
2 «فإن قال قائل: كيف يصح أن يكون انقضاض الكواكب رجما للشياطين ولا يخلو من أن يكون الذي يرمى به الشيطان ليحرقه كوكبا فيجب أن يفارق مكانه وينقص من عدد الكواكب، وقد علمنا منذ عهدت الدنيا لم تنقص ولم تزد؛ أو يكون الذي يرمى به شعاعا يحدث من احتكاك الكواكب واصطكاك بعضها ببعض فيفصل ذلك الشعاع من الكواكب ويتصل بالجني حتى يحرقه؛ إذ لو لم يتصل به لم يحترق وهذا أيضا لا يجوز لأن الكواكب لا تحتك. قيل له: إن كل ما ذكرت غير ممتنع قد يجوز أن يكون هناك كواكب لا تلحقها العين لصغرها، كما قال قوم في المجرة إنها كلها كواكب ولا تبين، فيجوز أن يحتك بخاران عظيمان فيحدث الشعاع ويحترق الجني، وكل ذلك ليس بمستنكر وعلى هذا جاء في القرآن.»
وهذه العبارة، على قصرها، تحتوي على عدد من الظواهر العلمية، مما لا تسعه مجلدات علمية كاملة. فقول المرزوقي عن المجرة: إنها كلها كواكب ولكن لا تبين لصغرها، هو من الأشياء المنظورة علميا الآن، وينصب عليها جانب كبير من اهتمام علماء الفلك، وتطالعنا الأبحاث العلمية بأخبار اكتشاف كواكب تتبع نجوم مجرة درب التبانة. وفي قوله: «قد يجوز أن يكون هناك كواكب لا تلحقها العين لصغرها.» إشارة إلى عدد كبير من الأجسام التي تدور بين المريخ والمشتري، فيما يعرف بحزام الكويكبات، الذي يعد المصدر الرئيسي للنيازك (وهي الأجسام الكبيرة نسبيا) التي تتساقط على الأرض، أو الصغيرة التي تحترق في الجو، وينشأ عن احتراقها في طبقات الجو العليا الضوء اللامع الخاطف، فيما يعرف علميا بظاهرة «الشهب». وفي قوله: «فيجوز أن يحتك بخاران عظيمان فيحدث الشعاع ويحترق الجني.» إشارة إلى تفسير ظاهرة الشهب؛ فالشهب - كما هو معروف - ظاهرة تحدث من احتكاك الأجسام الدقيقة الحجم بغازات جو الأرض. ومثل هذا الاحتكاك هو الذي يقود إلى احتراقها، وتولد الأضواء التي تنبعث منها أثناء مروقها في الجو. والأكثر من ذلك أن عملية الاحتكاك، بين النيازك وغازات جو الأرض، وراء النيران التي تنبعث من هذه الأجسام أثناء اختراقها جو الأرض.
ويلمس الدارس تسجيلات عرضية لظاهرة الشهب وردت في بعض المؤلفات العربية، على سبيل المثال، يورد المؤرخ الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن الذهبي (673-748ه/1274-1348م) في كتابه «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام»، كثيرا من حوادث وقوع الصواعق وانقضاض الكواكب، وعرض الشهب الكثيفة (التي يطلق عليها نجوما متطايرة مضطربة). ففي معرض تسجيله لأحداث سنة 599ه يذكر:
3 «أنبأنا ابن البزوري قال: في سلخ المحرم ماجت النجوم، وتطايرت كتطاير الجراد، ودام ذلك إلى الفجر، وانزعج الخلق، وخافوا وضجوا بالدعاء لله تعالى. ولم يعهد ذلك إلا عند ظهور رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» ثم يضيف في ذات السياق:
4 «وذكر عنه ابن الجوزي مثل ما قدمنا من موج النجوم وتطايرها. وقال العز النسابة: رئي في السماء نجوم متكاثفة متطايرة، شديدة الاضطراب إلى غاية.» (1) الخلط بين النيازك والصواعق
أشار الكتاب العرب - شأنهم شأن جميع الكتاب في ذلك الوقت - إلى ظاهرة سقوط النيازك بعبارات مختلفة، منها: انقضاض الكواكب، وانقضاض النجوم، ووقوع الصواعق. وفي حالات محددة أشاروا إليها بعبارات سقوط الأحجار من السماء . وميزوا في كتاباتهم ما بين الكواكب والنجوم الثابتة، وبين الأجسام التي تظهر عرضا في السماء فتمكث بعض الوقت ثم تختفي دون أن تنقض (المذنبات)، أو تلك التي تظهر عرضا فتهوي أو تنقض، ويكون انقضاضها مشفوعا بظاهرة ضوئية فقط (الشهب)، أو مشفوعا بالأصوات والانفجارات القوية أو الهزات الأرضية، أو يكون انقضاضها نهارا (النيازك). وفرقوا بين النيازك والصواعق؛ حيث حرص بعض المؤرخين على الإشارة إلى عدم وجود غيوم أو سحب وقت الحدث، مما يعني أن الظاهرة تمثل سقوط نيازك على الأرض، لكن في بعض الحالات وصفوا النيازك على أنها صواعق.
وقد سجل كتاب العرب ظاهرة الصاعقة في كتبهم الأدبية والتاريخية، وقدموا تعريفا لها باعتبارها ظاهرة طبيعية ترتبط بالغيوم والسحب التي تظهر في السماء. وقدموا في بعض تسجيلاتهم تعريفا صريحا لظاهرة الصاعقة يختلف عن وصفهم للأحداث المرتبطة بالأحجار السماوية؛ حيث يتمكن المرء من التمييز بسهولة بين الصواعق وبين النيازك، من خلال الأوصاف المرافقة للأحداث؛ فالصواعق العادية لا يتبعها سقوط أحجار، تحدث هدة عظيمة، وإنما يشار إليها بالنيران التي تحرق المنشآت أو الزروع، أو تقتل بعض الناس. وورد تعريف الصواعق في عدد كبير من الكتب العربية؛ ففي كتاب «الكشكول» لبهاء الدين العاملي (محمد بن حسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي الهمداني (953-1031ه/1547-1622م))، تعريف الصاعقة على النحو التالي:
5 «... الصاعقة تذيب الذهب والفضة في الصرة ولا تحرق الخرقة المصرورين فيها، قال المحقق الشريف في شرح المواقف: قد أخبرنا أهل التواتر بأن الصاعقة وقعت بشيراز على قبة الشيخ الكبير أبي عبد الله الحفيف، فأذابت قنديلا فيها ولم تحرق فيها شيئا، والسبب في ذلك أن تلك النار لغاية لطافتها تنفذ في المتخلل، وهي سريعة الحركة جدا فلا يبقى فيه ريثما، وأما الأجسام المندمجة فتنفذ فيها في زمان أكثر، فيبقى فيها قدرا يعتد به فتذيبها.» [في هذا التعريف إشارة إلى علوم فيزيائية، يجدر أن يتصدى لها الباحثون في هذا المجال.] وفي كتاب «الأزمنة والأمكنة» للمرزوقي:
6 «فأما الصاعقة في اللغة فهي الواقع الشديد من صوت الرعد يسقط معه قطعة من نار ... وقال الخليل: الصاعقة: صوت العذاب. وقال بعضهم: نار ريحية وريح نارية وذلك أنها إذا وقعت في الخشب أحرقته وأشعلته. وإذا وقعت على ذهب أو فضة أحمته وأذابته. وهذا الفعل من أفعال النار. قال: فيقول: إنها وإن كانت نارا فليست بالنار الحرية بل هي نار لهبانية. وذلك أنها إذا سقطت على الأرض لم يوجد جمرها بل يرى ذلك الموضع الذي تقع فيه الصاعقة كثير الدخان متصدعا. وهذه من خواص النار والريح، والصاعقة أيضا ألطف من جميع النار اللهبانية التي عندنا، وذلك أن النار التي عندنا لا تنفذ في الحيطان ولا في الأرضين. والصاعقة تنفذ في كل جوهر محسوس، وهي لا تبصر لأنها بلطافتها تفوت أبصارنا، لكن أفعالها تبصر، ولسرعة حركتها تجاوز الوقت الذي يمكن أن يكون فيه البصر. والصاعقة تكون لعلتين؛ إما لاكتمان النار في الغمام وإفلاتها بغتة، وإما لاكتمان الريح في الغمام واحتكاكها به وشدة خروجها بغتة، وفي مجيئها إلى الأرض تصير نارا، كما ترى ذلك في الرصاص إذا رمي بالمقلاع، فإنه يسخن بمحاكة الهواء ويلتهب ويذوب.» وفي كتاب «نهاية الأرب في فنون الأدب»، للنويري (أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم القرشي التميمي البكري شهاب الدين النويري (677-733ه/1278-1333م)):
7 «وأما الصواعق فهي ما قاله الزمخشري في تفسيره: الصاعقة قصفة في رعد ينقض معها شقة من نار. وقالوا: إنها تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه. وهي نار لطيفة حديدة (حادة) لا تمر بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. على أنها متى سقطت على نخلة أحرقت عاليها. وقال صاحب كتاب مناهج الفكر ومباهج العبر في كتابه: ومن عجيب شأنها أنها تحرق ما في الكيس، ولا تحرق الكيس؛ وإن احترق فإنما يحترق باحتراق ما ذاب فيه. قال: وهي إذا سقطت على جبل أو حجر كلسته ونفذته (ربما يشير هنا إلى أحجار الصاعقة)، وإذا سقطت في بحر غاصت فيه وأحرقت ما لاقت من جوانبه.» وفي كتاب «الحيوان» يذكر الجاحظ (الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (163-255ه/780-869م))، في معرض حديثه عن الصواعق:
8 «الصواعق وما قيل فيها: ومتى كان البخار حارا يابسا قدح وقذف بالنار التي تسمى الصاعقة، إذا اجتمعت تلك القوى في موضع منه، فإن كانت القوى ريحا كان لها صوت، وإن كانت نارا كانت لها صواعق، حتى زعم كثير من الناس أن بعض السيوف من خبث نيران الصواعق، وذلك شائع على أفواه الأعراب والشعراء.»
ووردت تسجيلات الأحداث التي وقعت فيها الصواعق في كثير من كتب المؤرخين العرب ضمن الأحداث التاريخية المهمة. وتناقلها المؤرخون عن بعضهم البعض، باعتبارها أحداثا جديرة بالتسجيل، لما أصابت من ضرر امتد للإنسان، والحيوان، والزروع، والمنشآت. ومن الأمثلة على ذلك، المؤرخ ابن الجوزي (أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن جعفر، المتوفى سنة 597ه) الذي يورد عددا من حوادث سقوط الصواعق ضمن تأريخه للأحداث التي وقعت في زمانه والأزمنة السابقة في كتابه «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم»؛ ففي معرض تأريخه لأحداث سنة 403ه/1012م، يذكر:
9 «وفي شعبان وقعت بالكوفة صاعقة في أثناء رعد وبرق فسقطت على حائط فرمت به.» وفي تأريخه لأحداث سنة 442ه/1051م يذكر:
10 «ووقعت في ليلة الجمعة ثاني رمضان صاعقة في حلة نور الدولة على خيمة لبعض العرب كان فيها رجلان، فأحرقت نصفها ورأس أحد الرجلين ونصف بدنه ويدا واحدة ورجلا واحدة فمات، وسقط الآخر مغشيا عليه لم يتكلم يومين وليلة ثم أفاق، وعصفت ريح شديدة وجاء مطر جود فقلعت رواسن دار الخلافة على دجلة.» ويذكر ضمن أحداث 470ه/1077م:
11 «فمن الحوادث فيها أنه وقعت صاعقة في شهر ربيع الأول في محلة التوثة من الجانب الغربي على نخلتين من مسجد فأحرقتهما، فصعد الناس فأطفئوا النار بعد أن اشتعل من سعفهما وكربهما وليفهما، فرمي به، فأخذه الصبيان وهو يشتعل في أيديهم كالشمع.» ويروى في معرض سرده أحداث سنة 479ه/1086م:
12 «وفي رجب وقعت صاعقة في خان الخليفة المقابل لباب النوبي فأحرقت جزءا من كنيسة الخان وفتتت أسطوانة حتى صارت رميما، وسقط منها مثل كباب القطن الكبار نارا فخر الناس على وجوههم، وسقطت أخرى بخرابة ابن جردة فقتلت غلاما تركيا، وسقطت أخرى على جبل آمد فصار رمادا، ووقعت صواعق في البرية لا تحصى في ديار الشام.» ويذكر ضمن أحداث سنة 569ه/1173م:
13 «وفي ربيع الأول وقعت صاعقة في نخلة بالجانب الغربي فاشتعلت النخلة.» ويذكر ضمن أحداث سنة 571ه/1175م:
14 «وجاء في ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر مطر عظيم برعد شديد ووقعت صاعقة في دار الخلافة وراء التاج وأحرقت ما حولها، فأصبحوا فأخرجوا أهل الحبوس وأكثروا الصدقات.»
وفي كتاب «البداية والنهاية» لابن كثير (إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي أبو الفدا، المتوفى سنة 774ه/1372م)، عدد من الأحداث التي سقطت فيها الصواعق وأصابت الناس؛ إذ يذكر في معرض تأريخه لأحداث سنة 470ه/1076م:
15 «قال ابن الجوزي: في ربيع الأول منها وقعت صاعقة بمحلة التوثة من الجانب الغربي، على نخلتين في مسجد فأحرقت أعاليهما، وصعد الناس فأطفئوا النار، ونزلوا بالسعف وهو يشتعل نارا.» وواضح من خلال هذا الوصف أنه يشير إلى صاعقة عادية.
وللخلط بين الصاعقة والنيازك أسبابه الظاهرية؛ فالصاعقة (البرق والرعد) تحدث نتيجة احتكاك السحب بعضها ببعض، وينشأ عنها أضواء شديدة وأصوات مفزعة. وسقوط النيازك أيضا يكون مصحوبا عادة بالنيران والأضواء والأصوات المفزعة. والعلامة الفارقة بين الظاهرتين عدم سقوط الأجسام الصلبة في حالة الصواعق، وسقوطها في حالة النيازك. وحتى هذه العلامة الفارقة، لم تكن فارقة بالنسبة للناس قديما؛ إذ اشتبهت عليهم. والسبب وراء ذلك الاشتباه أن الصاعقة قد تصهر الصخور الأرضية وتكون نوعا من الصخور الجديدة، يطلق عليها «حجر الصاعقة أو الفولجوريت». وهذه مادة تنشأ من انصهار الرواسب الأرضية المفككة خاصة الرمال، من الحرارة العالية المتولدة من طاقة البرق الذي يضرب الصخور الأرضية في موقع الاحتكاك. وتكون على هيئة أجسام غير منتظمة، إلى أجسام أنبوبية تمتد عميقا في سطح الأرض، بحسب طاقة اختراق البرق للصخور السطحية. ومن خلال المشاهدات الطبيعية، التي كان يقوم بها الناس قديما، للمواقع التي تتعرض لتأثيرات البرق أو سقوط الأجسام النيزكية، كانوا يجدون أنواعا مختلفة من الصخور الصلبة، أو مواد حديدية؛ ومن ثم اختلط الأمر عليهم، فأطلقوا تعبير صاعقة على النيازك.
وتتوقف درجة الخلط بين ظاهرة الصاعقة والأحداث النيزكية، إلى مدى فطنة الكاتب في التفريق بينهما؛ فبعض الكتاب خلطوا بين الظاهرتين، لكن غالبيتهم فصلوا بين الظاهرتين فصلا بينا. ومن بين المؤرخين العرب الذين فصلوا بين الظاهرتين ابن الجوزي في كتابه «المنتظم»؛ ففي معرض تأريخه لأحداث سنة 403ه/1012م، يذكر الظاهرتين ذكرا مستقلا لا لبس فيه:
16 «وفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من صفر وقت العشاء انقض كوكب كبير الجرم عن يمنة القبلة وملأ الأرض ضوءه واستعظم الناس ما رأوه منه، وفي شعبان وقعت بالكوفة صاعقة في أثناء رعد وبرق فسقطت على حائط فرمت به، وفي رمضان انقض كوكب من المشرق إلى المغرب غلب ضوءه ضوء القمر وتقطع قطعا وبقي ساعة طويلة.» فهو هنا يشير إلى حدث نيزكي، ثم يصف صاعقة عادية حدثت أثناء برق ورعد، ثم يسجل انقضاض كوكب، في إشارة إلى حدث نيزكي آخر.
ويرد الخلط بين الصاعقة والنيازك في كلام النويري، وفي نفس السياق السابق لتعريفه الصاعقة، حيث يذكر:
17 «وربما عرض لها (يقصد الصاعقة ) عند انطفائها في الأرض برد ويبس، فتكون منها أجرام حجرية أو حديدية أو نحاسية. وربما طبعت الحديد سيوفا لا يقوم لها شيء. وأما البرق وما قيل فيه، فقد ذهب المفسرون: إلى أنه ضرب الملك الذي هو الرعد للسحاب بمخراق من حديد. وروي عن مجاهد: إن الله عز وجل وكل بالسحاب ملكا؛ فالرعد قعقعة صوته، والبرق سوطه.» وليس أدل من شيء على الخلط بين الصاعقة والنيازك، أكثر مما ورد في قول النويري:
18 «... وربما عرض لها عند انطفائها في الأرض برد ويبس، فتكون منها أجرام حجرية أو حديدية أو نحاسية. وربما طبعت الحديد سيوفا لا يقوم لها شيء ...» وفي قوله عن البرق:
19 «إنه ضرب الملك الذي هو الرعد للسحاب بمخراق من حديد.» فهذا يعني أن الناس من خلال المشاهدات الطبيعية شاهدوا قطعا من الحديد أو قطعا غريبة من الأحجار أو مواد نحاسية، عقب ظهور الأضواء وسماع الأصوات المفزعة، التي تصاحب سقوط الأحجار السماوية، فخلطوا بين الظاهرتين. وكذلك في تعريف الجاحظ للصواعق، حيث يذكر في السياق نفسه: «حتى زعم كثير من الناس أن بعض السيوف من خبث نيران الصواعق، وذلك شائع على أفواه الأعراب والشعراء.»
وامتدادا للخلط، بين النيازك والصواعق، يشير بعض المؤرخين العرب إلى النيازك على أنها صواعق، ضمن تسجيلاتهم للأحداث الطبيعية التي كانت تحدث بين الفينة والأخرى. ومن الأمثلة على ذلك بعض الأحداث النيزكية التي ورد ذكرها في كتاب «البداية والنهاية» لابن كثير بوصفها صواعق. ففي معرض تأريخه لأحداث سنة 679ه/1280م، يذكر حادثة وقوع صاعقة على الجبل الأحمر شرق القاهرة، فأصابت حجرا فأحرقته، وكونت نتيجة لذلك حديدا، حيث يورد:
20 «ووقعت صاعقة بالإسكندرية وأخرى في يومها تحت الجبل الأحمر على صخرة فأحرقتها فأخذ ذلك الحديد فسبك فخرج منه أواقي بالرطل المصري.» ويورد بعض المؤرخين نفس الحدث، مثل اليونيني (قطب الدين أبو الفتح موسى بن محمد اليونيني، المتوفى سنة 726ه) في كتابه «ذيل مرآة الزمان»؛ والسيوطي (جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (849-911ه))، في كتابه «حسن المحاضرة»؛ وابن حبيب (بدر الدين الحسن بن عمر بن الحسن بن عمر بن حبيب، المتوفى سنة 779ه/1377م) في كتابه «تذكرة النبيه في أيام المنصور وبنيه»، الذي وصف الحدث ضمن أحداث سنة 679ه/1280م:
21 «ووقع بالجبل الأحمر ظاهر القاهرة صاعقة على حجر فأحرقته، وأخذ من ذلك الحجر قطعة وسبكت فظهر منها قطعة حديد زنتها أواقي من الكيل المصري.» ويبدو جليا من هذا الوصف أن الصاعقة المقصودة هنا تشير صراحة إلى سقوط نيزك حديدي.
وتخلط بعض التسجيلات التاريخية بين الصواعق والنيازك، خلطا يصعب معه التفريق بين الظاهرتين؛ فلا يستبين المرء إن كان الحدث صاعقة أم نيزكا. فعلى سبيل المثال، يجد القارئ لكتاب «عقد الجمان في مرآة أهل الزمان» لبدر الدين العيني (محمد بن أحمد بن موسى بن أحمد (762-855ه/1360-1451م))، يجد نفسه حائرا في تفسير حادثة صاعقة ورد ذكرها ضمن أحداث سنة 691ه/1292م، وهل هي نيزك أم صاعقة عادية؟ حيث يصف:
22 «واتفق يوما أن الأمير بدر الدين بيدرا كان جالسا وقد تقدم الفراش ليمد السماط بين يديه وإذا بصاعقة قد نزلت بخيمته فنفذت من الخيمة ووقعت على ظهر الفراش فقصمته نصفين ووقع إلى الأرض، ونفر كل من كان واقفا وغاصت الصاعقة في الأرض، وقام بيدرا وفي قلبه رجفة عظيمة.» فالوصف قد يعني سقوط أحجار نيزكية اخترقت الخيمة، وقسمت الفراش، وغاصت في الأرض، وفي نفس الوقت قد ينطبق على صاعقة عادية. وكذلك ما أورده ابن الأثير (عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد أبي عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، المعروف بابن الأثير (555-630ه))، في كتابه «الكامل في التاريخ» من حدث ظهور سحابة كثيفة سنة 411ه، على ما كان يعرف آنذاك بإفريقية؛ إذ يذكر في معرض عرضه لما حدث من حوادث بإفريقية في تلك السنة:
23 «وفيها، في ربيع الآخر، نشأت بإفريقية أيضا سحابة شديدة البرق والرعد، فأمطرت حجارة كثيرة ما رأى الناس أكبر منها، فهلك كل من أصابه شيء منها.» وقد أورد القزويني (زكريا بن محمد القزويني (506-682ه/1203-1283م))، ذات الحدث نقلا عن ابن الأثير، في كتابه «عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات»:
24 «وحكى أبو الحسن علي بن الأثير الجزري (هكذا ذكر اسم ابن الأثير) في تاريخه أنه نشأت بإفريقية في سنة إحدى عشرة وأربعمائة سحابة شديدة الرعد والبرق، فأمطرت حجارة كثيرة وأهلكت كل من أصابته.» باعتباره من الغرائب. والسحابة الواردة في هذا الخبر قد تفسر على أنها سحابة مائية عادية، سقط منها برد كبير الحجم نسبيا، لكن يمكن أيضا تفسيرها على أنها سحابة نشأت من انفجار نيزك كبير الحجم نسبيا في الجو، وسقطت شظاياه على الأرض على هيئة أحجار، في ظاهرة قريبة الشبه بما حدث في عام 1511م، على سهل «لومباردي» بالقرب من ميلان إيطاليا، والذي سبق وصفه في الفصل الأول من هذا الكتاب. (2) بعض مؤرخي العرب الذين حفلوا بالنيازك
للشيخ الرئيس ابن سينا (أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا (980-1037م))، الريادة في تسجيل ووصف النيازك الساقطة من السماء، بل أيضا دراستها في كتابه الكبير أو موسوعته الكبرى «الشفاء» التي تتضمن جزءا (أسماه فنا) من أجزاء كتاب الطبيعيات، بعنوان «الفن الخامس من الطبيعيات: المعادن والآثار العلوية ». ومما يؤسف له أن هذا الجزء من كتاب الطبيعيات، الخاص بالمعادن والآثار العلوية، غير شائع كبقية أجزاء الطبيعيات التي أعيد طبعها بالقاهرة. ففي هذا الجزء، الذي يعد من بواكير الدراسات العلمية الخاصة بعلوم الأرض، يسجل ابن سينا حادثة سقوط نيزك كبير في سنة 396ه/1004م، على منطقة «جوزجانان» [جورجان - جوزجان - جرجان] التي تقع الآن ضمن حدود أفغانستان، فيما سوف يتم ذكره فيما بعد. وقد أورده البيروني (أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني (362-440ه))، الذي عاصر الحدث، في كتابه «الجماهر في معرفة الجواهر»، لكنه اعتبره من مواد أرضية. وورد ذكر الحدث في العديد من المؤلفات العربية اللاحقة، نقلا عن وصف الشيخ الرئيس ابن سينا، مثل كتاب القزويني «عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات»، وكتاب ابن إياس (محمد بن أحمد بن إياس الحنفي (1448-1523م))، «بدائع الزهور في وقائع الدهور». ولذكر ابن إياس لهذا الحدث (الذي يفصل بينه أكثر من 500 عام) دلالة مهمة على اعتبار ما قدمه ابن سينا من وصف بهذا الخصوص، هو المرجع الرئيسي للتفريق بين الصاعقة الحقيقية والصاعقة غير الحقيقية، وكذلك الاهتمام بالنيازك باعتبارها ظاهرة طبيعية تقدم نوعا جيدا من الحديد الذي يتم تشكيله واستعماله في صناعة مشغولات قيمة.
وورد تسجيل الأحداث النيزكية في عدد من كتب التأريخ والأدب العربية؛ فعلى سبيل المثال، يسجل كتاب «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام» للمؤرخ الذهبي (شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن الذهبي) كثيرا من حوادث وقوع الصواعق وانقضاض الكواكب. وفي كتاب «المنتظم» لابن الجوزي عدد كبير من تسجيلات الأحداث النيزكية. ومن الطريف أن ابن الجوزي يقدم وصفا يمكن من خلاله التمييز بين ما يمكن اعتباره نيازك، وبين المذنبات، وبين الصواعق. ويأتي ابن الأثير في المرتبة الثانية - بعد ابن الجوزي - في اهتمامه بتسجيل الأحداث النيزكية؛ إذ سجل أكثر من 22 حدثا خلال 22 سنة مختلفة، في كتابه «الكامل في التاريخ». ويعتبر ابن الأثير من أكثر المؤرخين اهتماما بالأحداث التي ظهرت فيها المذنبات، أو انقضت فيها النيازك على الأرض. ويورد المؤرخ الفقيه ابن العماد (أبو الفلاح عبد الحي بن أحمد بن محمد العكري الحنبلي الدمشقي، المتوفى سنة 1089ه) بعض الأحداث النيزكية، في كتابه «شذرات الذهب في أخبار من ذهب». ويسهم ابن كثير في تسجيل قدر معقول من الأحداث النيزكية في كتابه «البداية والنهاية»، نقلا عمن سبقوه من المؤرخين خاصة ابن الجوزي. وللنويري إسهام مهم في مجال رصد الأحداث النيزكية، بل يميز بين المذنبات باعتبارها أجساما (نجوما) تظهر في السماء في أوقات معينة، وتستمر في الظهور فترات طويلة نسبيا (عادة بضعة أيام) ثم تختفي، وبين النيازك باعتبارها أجساما تسقط على الأرض، وتصاحبها ظواهر محددة، كالأصوات والأضواء القوية، والرجة العنيفة التي تحدث من جراء ارتطامها بالأرض، وذلك في كتابه القيم «نهاية الأرب في فنون الأدب»، الذي يعد موسوعة ضخمة تلخص التراث العربي بشقيه الأدبي والتاريخي. ومن الأحداث النيزكية المهمة التي انفرد بتسجيلها حدث نيزكي كبير، ضمن تأريخه لأحداث سنة 637ه، وهو ما سوف يأتي ذكره.
ويورد اليونيني (قطب الدين أبو الفتح موسى بن محمد اليونيني، المتوفى سنة 726ه) في كتابه «ذيل مرآة الزمان» حدث صاعقة (نيزك) الجبل الأحمر شرق القاهرة، ولعلي بن الحسن الخزرجي، المتوفى سنة 812ه/1410م، إسهام في تسجيل بعض حوادث سقوط النيازك، منها حادثة فريدة لسقوط نيزك على الأراضي اليمنية في سنة 792ه/1388م، يذكره في معرض تأريخه لأهم أحداث تلك السنة، ضمن كتابه «العقود اللؤلئية في تاريخ الدولة الرسولية». ويورد الرحالة «ابن بطوطة» (أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم (703ه/1304م-779ه/1377م))، في كتابه «رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار» الذي يسجل فيه مشاهداته خلال رحلته الشهيرة في العديد من الأمصار، وصفا لنيزك شاهده في مدينة «بركي» من أعمال البلاد التركية. ولأبي المحاسن، يوسف بن تغري بردي الأتابكي (813-874ه)، إسهام أيضا في تسجيل بعض الأحداث النيزكية، في كتابه المعروف «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة». ويورد السيوطي في كتابيه «تاريخ الخلفاء» و«حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة»، بعض الأحداث التي انقضت فيها الكواكب على الأرض. ويلمس المؤرخ ابن إياس بعضا من الأحداث النيزكية في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور ». وللعيدروس (عبد القادر بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس، المؤرخ والباحث اليمني، 978-1038ه/1570-1638م) في مؤلفه النادر «النور السافر عن أخبار القرن العاشر»، الذي فرغ من كتابته سنة 1012ه؛ إسهام مهم في مجال تسجيل الأحداث النيزكية على الأراضي اليمنية. وفي السطور التالية عرض لبعض حوادث سقوط النيازك المدونة في بعض كتب التراث العربي التي أمكن الاطلاع عليها، مرتبة ترتيبا زمنيا، من الأقدم للأحدث، بالسنوات الهجرية.
سنة 242ه
يذكر ابن الجوزي في معرض تأريخه لحوادث سنة 242ه، أنه:
25 «... رجمت قرية يقال لها السويدا ناحية مصر (مضر-سوريا) بخمسة أحجار، فوقع حجر منها على خيمة أعرابي فاحترقت، ووزن منها حجر فكان فيه عشرة أرطال.» ويذكر ابن تغري بردي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة:
26 «... ورجمت قرية السويداء بناحية مضر (سوريا) بالحجارة. وقع منها حجر على أعراب (على خيمة أعراب فاحترقت)، فوزن حجر منها فكان عشرة أرطال (لعله بالشامي).» والرطل الشامي يعادل حوالي 2565,890 جراما. ويعبر حرص مؤرخ كبير على ذكر سقوط نيزك من زمن بعيد مضى (خمسة قرون تقريبا تفصل بين حادثة السقوط والمؤلف) يعبر على مدى الاهتمام بهذه الظاهرة؛ حيث يسجلها ضمن الأحداث التاريخية المهمة. وقد ورد ذكر نفس الحدث، في كتاب «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» لمؤلفه المؤرخ والفقيه ابن العماد، يورد ذات الحدث في معرض تأريخه لأهم أحداث سنة اثنتين وأربعين ومائتين للهجرة؛ إذ يقول:
27 «فيها على ما قاله في الشذور: رجمت قرية السويداء ناحية مصر (والصحيح: مضر-سوريا) بخمسة أحجار فوقع حجر منها على خيمة أعراب فاحترقت. وزن منها حجر فكان عشرة أرطال.» ويضيف: «فحمل أربعة إلى الفسطاط وواحد إلى تنيس.» ويتبين من هذا الوصف، السلوك العلمي الذي تحلى به المؤلف تجاه ظاهرة سقوط النيازك، كتسجيل الحدث في الزمان والمكان، ووصف تأثيراته، وعدد الأحجار الساقطة، ووزنه، ثم يزيد أيضا تسجيلا لما حدث له، فيذكر إلى أي الأماكن نقل. ويورد السيوطي في كتابه «حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة» ذات الحدث في معرض سرده للحوداث الغريبة التي وقعت في مصر:
28 «وفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين، زلزلت الأرض ورجمت السويداء (قرية بناحية مصر [والصحيح مضر-بسوريا وليس مصر]) من السماء، ووزن حجر فكان عشرة أرطال.»
سنة 300ه
يورد ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ» خبرا صغيرا عن حادث انقضاض الكواكب في هذه السنة؛ إذ يذكر بطريقة مقتضبة:
29 «وفيها انقضت الكواكب انقضاضا كثيرا إلى جهة المشرق.» وربما يشير هذا الخبر لظهور شهب في الفضاء، أو سقوط نيازك لكن على بعد مسافة كبيرة من الذي شاهد الحدث، بحيث لم تسمع أصوات كتلك التي يسمعها المشاهد عن قرب للحدث. وقد أشار الدكتور عمر عبد السلام تدمري (محقق الكتاب) إلى أن هذا الخبر موجود في نسخة خطية من كتاب «البداية والنهاية» لابن كثير، لكن النسخة المطبوعة المتاحة من ذاك الكتاب لا تحوي هذا الخبر. وهذا مما قد يحدث في بعض الأحيان، بما يعني أن بعض الأخبار قد ترد في طبعة من كتاب ولا ترد في طبعة أخرى من ذات الكتاب.
سنة 303ه
يروي ابن الجوزي ضمن سرده لأحداث هذه السنة:
30 «... وفي ليلة الجمعة لثمان بقين من رمضان انقض كوكب عظيم وبقي ضوءه ساعة كالمقباس.» وينفرد ابن الجوزي بتسجيل هذا الحدث، دون غيره من المؤرخين؛ إذ لم ينقله عنه أحد من المؤرخين اللاحقين. ولا يعرف على وجه اليقين معنى «وبقي ضوءه ساعة كالمقباس.»
سنة 307ه
يروي ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة:
31 «... وفي ذي القعدة انقض كوكب عظيم غالب الضوء وتقطع ثلاث قطع وسمع بعد انقضاضه صوت رعد عظيم هائل من غير غيم.» وقد ورد خبر هذا الحدث في كتاب ابن الأثير «الكامل في التاريخ»، ضمن أحداث نفس السنة:
32 «... وفيها انقض كوكب عظيم، فاشتد ضوءه وعظم، وتفرق ثلاث فرق، وسمع عند انقضاضه مثل صوت الرعد الشديد، ولم يكن في السماء غيم.» ويورد ابن كثير نفس الحدث، في كتابه «البداية والنهاية» نقلا عن ابن الجوزي، ضمن أحداث نفس السنة:
33 «وفي ذي القعدة منها انقض كوكب عجيب عظيم غالب الضوء تقطع ثلاث قطع، وسمع بعد انقضاضه صوت رعد شديد هائل من غير غيم ذكره ابن الجوزي.» ويذكره أيضا ابن العماد في كتابه «شذرات الذهب في أخبار من ذهب»:
34 «... فيها كما قال في الشذور انقض كوكب عظيم وتقطع ثلاث قطع وسمع بعد انقضاضه صوت رعد عظيم هائل من غير غيم.» ويورده كذلك السيوطي في كتابه «حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة»:
35 «وفيها انقض كوكب عظيم، وتقطع ثلاث قطع، وسمع بعد انقضاضه صوت رعد شديد هائل من غير غيم.» ويلاحظ التأكيد على عدم وجود غيم في السماء، مما يعني أن الحدث كان نيزكا فعليا.
سنة 310ه
يروي ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة:
36 «... وفي جمادى الآخرة ظهر كوكب ذو ذنب في المشرق في برج السنبلة طوله نحو ذراعين.» وقد يختلط هذا الوصف المختصر مع وصف ظهور المذنبات، لكن ابن الأثير يؤكد أن الكوكب انقض، في كتابه «الكامل في التاريخ»، حيث يذكر نفس الحدث:
37 «... وفيها، في جمادى الآخرة، انقض كوكب عظيم له ذنب في المشرق في برج السنبلة، طوله نحو ذراعين.»
سنة 313ه
يروي ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة:
38 «... ولليلة بقيت من المحرم انقض كوكب قبل مغيب الشمس من ناحية الجنوب إلى ناحية الشمال فأضاءت الدنيا منه إضاءة شديدة وكان له صوت كصوت الرعد الشديد.» وقد ورد خبر نفس هذا الحدث في كتاب «الكامل في التاريخ»، ضمن أحداث نفس السنة، حيث يذكر ابن الأثير:
39 «وفيها انقض كوكب كبير وقت المغرب، له صوت مثل الرعد الشديد وضوء عظيم أضاءت له الدنيا.» وأورد ابن كثير الحدث نقلا عن ابن الجوزي:
40 «قال ابن الجوزي: لليلة بقيت من المحرم انقض كوكب من ناحية الجنوب إلى الشمال قبل مغيب الشمس، فأضاءت الدنيا منه وسمع له صوت كصوت الرعد الشديد.» وأورده أيضا ابن العماد:
41 «فيها كما قال في الشذور انقض كوكب قبل مغيب الشمس بأربع ساعات من ناحية الجنوب إلى الشمال فأضاءت منه الدنيا وكان له صوت كصوت الرعد.»
سنة 315ه
يروي ابن الجوزي، في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة، خبر سقوط نيزك من السماء؛ إذ يذكر:
42 «وفي يوم الأحد لثمان خلون من ربيع الأول انقض كوكب عظيم له ضوء شديد على ساعتين بقيتا من النهار.» وقد ورد خبر هذا الحدث في كتاب «الكامل في التاريخ»، ضمن أحداث نفس السنة:
43 «... وفيها، في ربيع الأول، انقض كوكب عظيم، وصار له صوت شديد على ساعتين بقيتا من النهار.»
سنة 317ه
يروي ابن الأثير ضمن تأريخه لأحداث هذه السنة:
44 «... وفيها، آخر ذي القعدة، انقض كوكب عظيم، وصار له ضوء عظيم جدا.» ولم يرد - فيما يبدو - ذكر لهذا الحدث في كتب أخرى، من تلك التي تناولت أحداث نفس السنة.
سنة 323ه
يورد النويري حادثة تسجيل ظهور ظاهرة الشهب ضمن حوادث هذه السنة؛ إذ يذكر:
45 «وفيها في ليلة الثاني عشر من ذي القعدة انقضت الكواكب انقضاضا دائما مستمرا من أول الليل إلى آخره.» ويورد ابن الجوزي نفس الحادثة، في ذات التاريخ، إذ يقول:
46 «وفي هذه الليلة بعينها: انقضت النجوم ببغداد من أول الليل إلى آخره. وبالكوفة أيضا انقضاضا مسرفا لم يعهد مثله ولا ما يقاربه.» ويورد كذلك السيوطي خبر انقضاض النجوم في كتابه «تاريخ الخلفاء» في معرض عرضه لأهم الحوادث التي وقعت في خلافة «الراضي بالله» (322-329ه)، فيذكر ضمن أحداث سنة 323ه:
47 «وفيها: في ذي القعدة: انقضت النجوم انقضاضا عظيما ما رئي مثله.» وربما يكون هذا الحدث لعرض من عروض الشهب البديعة في الجو؛ إذ إن الخبر يذكر نجوما منقضة وليس كواكب، وهذا ربما يكون لبعدها في الفضاء، فوصفها من شاهدها بأنها نجوم.
سنة 359ه
يروي ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة، حادثة سقوط نيزك كبير؛ إذ يذكر:
48 «... وفي ذي الحجة انقض كوكب عظيم في أول الليل أضاءت منه الدنيا حتى صار كأنه شعاع الشمس وسمع في انقضاضه صوت كالرعد الشديد.» ويورد ابن كثير حادثة سقوط هذا النيزك، ضمن أحداث نفس السنة، نقلا عن ابن الجوزي؛ إذ يورد رواية ابن الجوزي صراحة، حيث يذكر:
49 «قال ابن الجوزي: وانقض كوكب في ذي الحجة فأضاءت منه الدنيا حتى بقي له شعاع كالشمس، ثم سمع له صوت كالرعد.» وأورد نفس الحادثة ابن تغري بردي، وزاد عليها ما أصاب الناس من فزع وهول، جراء رؤيتهم حادثة السقوط؛ إذ يذكر:
50 «... وفيها في ذي الحجة انقض بالعراق كوكب عظيم أضاءت منه الدنيا حتى صار كأنه شعاع الشمس وسمع في انقضاضه صوت كالرعد الشديد، فهال ذلك الناس وارتعدوا له.» وأورده أيضا السيوطي في كتابه «تاريخ الخلفاء»، ضمن تناوله الأحداث التي وقعت أثناء خلافة المطيع لله (334-363ه):
51 «... وفي سنة تسع وخمسين (وثلاثمائة) انقض بالعراق كوكب عظيم أضاءت منه الدنيا حتى صار كأنه شعاع الشمس وسمع بعد انقضاضه صوت كالرعد الشديد.»
سنة 361ه
يروي ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة، حادثة سقوط نيزك ؛ إذ يذكر:
52 «... وانقض في ليلة الأربعاء تاسع صفر كوكب عظيم له دوي كدوي الرعد.» وأورد نفس الحدث أيضا ابن الأثير ضمن أحداث نفس السنة، حيث يقتبس - فيما يبدو - من ابن الجوزي؛ إذ يذكر:
53 «في هذه السنة في صفر، انقض كوكب عظيم، وله نور كثير، وسمع له عند انقضاضه صوت كالرعد، وبقي ضوءه.»
سنة 373ه
يروي ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة:
54 «... وفي ليلة الأربعاء الحادي عشر من صفر انقض كوكب عظيم الضوء وكانت عقيبة دوي كالرعد.» وأورد ابن الأثير، حدثا آخر في نفس السنة:
55 «وفيها، في ربيع الأول، انقض كوكب عظيم أضاءت له الدنيا، وسمع له مثل دوي الرعد الشديد.»
سنة 389ه
يروي ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة:
56 «... فمن الحوادث فيها أنه انقض في يوم الأحد لعشر بقين من ربيع الأول كوكب كبير صحوة النهار.» وذكر ابن الأثير نفس الحدث ضمن أحداث نفس السنة:
57 «... في هذه السنة، عاشر ربيع الأول، انقض كوكب عظيم صحوة نهار.»
سنة 392ه
يروي ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة:
58 «... وفي ليلة الأربعاء لثمان بقين من رمضان طلع كوكب الذؤابة (مذنب). وفي ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة انقض كوكب كضوء القمر ليلة التمام ومضى الضياء وبقي جرمه يتموج نحو ذراعين في ذراع برأي العين وتشقق بعد ساعة.» وأورده ابن كثير ، نقلا عن ابن الجوزي:
59 «قال ابن الجوزي: وفي ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة انقض كوكب كضوء القمر ليلة التمام، ومضى الضياء وبقي جرمه يتموج نحو ذراعين في ذراع برأي العين، وتشقق بعد ساعة.» لكن ابن الأثير يورد الخبرين ضمن أحداث سنة 393ه:
60 «... في هذه السنة، في رمضان، طلع كوكب كبير له ذؤابة (مذنب)، وفي ذي القعدة انقض كوكب كبير أيضا كضوء القمر عند تمامه، وانمحق نوره وبقي جرمه يتموج.»
سنة 396ه
يصف الشيخ الرئيس ابن سينا (980-1037م)، في كتابه الطبيعيات: الفن الخامس من الطبيعيات «المعادن والآثار العلوية» من موسوعة «الشفاء» حادثة سقوط نيزك كبير في هذه السنة، على منطقة «جوزجانان» [جورجان - جوزجان - جرجان] التي تقع الآن ضمن حدود أفغانستان؛ إذ يذكر:
61 «وقد صح عندي بالتواتر ما كان ببلاد جوزجان، في زماننا هذا الذي أدركناه، من أمر جديد لعله يزن مائة وخمسين منا. نزل من الهواء فنقر في الأرض، ثم نبا نبوة أو نبوتين نبو الكرة التي ترمي بها الحائط، ثم عاد فنشب في الأرض. وسمع الناس لذلك صوتا عظيما هائلا. فتعذر نقله لثقله، فحاولوا كسر قطعة منه، فما كانت الآلات تعمل فيه إلا بجهد. وحكي أن جملة ذلك كان ملتئما من أجزاء جاورسية صغار مستديرة، التصق بعضها ببعض.» ويلمس البيروني، الذي عاصر الحدث، الموضوع في كتابه «الجماهر في معرفة الجواهر»، أثناء وصفه للحديد ضمن الفلزات الأخرى التي عرض لها، ويقدم فرضية مخالفة لابن سينا عن أصل المواد الصلبة التي تسقط أثناء ما كان يطلق عليه الكتاب القدامى «الصواعق»؛ إذ عاد لما كان يتصوره الفلاسفة القدماء من أن هذه المواد إما مقذوفات من باطن الأرض، أو هي منقولات من على سطحها، كما يحدث في حالة الأعاصير الشديدة التي تكتسح في طريقها الأحجار ثم تلقى بها في مواقع أخرى، كما يؤكد أن حديد النيزك لم يكن جيدا؛ إذ يقول:
62 «... فليس إلا الريح التي مع الرعود والبروق والصواعق وهي سببها تحمل الفلزات من مواضع أخر؛ إما من ظهر الأرض وإما مرمية بالمردغات من بطنها - يشهد له الحديد الواقع منذ سنين بالجوزجان إذ كان أنجرا بحريا على ما شهد أحد المحصلين فيه من مشابهة بعد تغير شكله بما غشيه من الإحماء في قوة الرمي ولم يكن جوهره بجيد؛ إذ ليس تختار الأناجر من أجود الحديد فإن الغرض فيه الثقل فقط.» ويقدم ابن إياس في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور» وصفا للحدث في معرض حديثه عن فحص حجر صاعقة غير حقيقية ضمن أحداث سنة 916ه:
63 «... ومما حكى عن أمر الصاعقة الحقيقة أنه في سنة ست وتسعين وثلاثمائة (ه) وقعت صاعقة عظيمة بجرجان، فرجت لها الأرض وسقطت من هولها الحوامل، فخرج الناس إلى مكان سقطت فيه، فوجدوها قد ساخت في الأرض على قدر قامة، فنبشوا عليها فوجدوها قد بقيت قطعة حديد قدر مائة وخمسين منا [المن وحدة وزن قديمة، تختلف باختلاف البلدان، وربما يقدر الوزن بحوالي 280كجم أو أكثر]، وهي أجزاء جاورسية صغار مستديرة قد التصق بعضها ببعض، فسمع بذلك السلطان محمود بن سبكتكين صاحب خراسان، وهو أول من تلقب بالسلطان، فكتب إلى عامل جورجان بنقل هذه القطعة الحديد، فتعذر عليهم نقلها، فحاولوا كسر قطعة منها فلم تعمل فيها الآلات، فعولج كسر قطعة منها بعد جهد كبير فحملت إليه، فرام أن يصنع منها سيفا له فتعذر ذلك ولم يتم له ما أراد.» وعدم القدرة على تشكيل سيف منها، يعني أنها لم تكن حديدا خالصا، مما يؤكد أن النيزك كان حديديا-حجريا، ولم يكن نيزكا حديديا.
64
ويذكر القزويني - أثناء حديثه عن تكون الأحجار من انعقاد الهواء بالبرودة في إشارة لسقوط الأحجار الصلبة من الجو أثناء الصواعق - هذا الحدث:
65 «وحكى الشيخ الرئيس أيضا أن في زمانه وقع من الهواء بأرض جورجابان جسم كقطعة حديد في قدر خمسين منا كحبات الجاورس المنضمة، فما كان يتناثر من الحديد والجواهر المعدنية كثيرة لا يعرف الإنسان منها إلا القليل.» وهذا الوصف ينطبق على نيازك البالاسيت التي تحتوي مع الحديد على معدن الأوليفين (الزبرجد).
سنة 399ه
يروي ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة:
66 «... فمن الحوادث فيها أنه انقض في وقت المغرب من يوم الأربعاء مستهل رجب كوكب عظيم الضوء وتقطع ثلاث قطع أخذت كل قطعة جانبا. وفي يوم الثلاثاء ثالث عشر شعبان عصفت ريح شديدة وألقت رملا أحمر في الدور والطرق.»
سنة401ه
يذكر ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة:
67 «... وفي يوم الخميس لسبع بقين من صفر انقض كوكب في وقت العصر من الجانب الغربي إلى سمت دار الخلافة من الجانب الشرقي لم ير أعظم منه.» وأورده أيضا ابن الأثير ضمن أحداث نفس السنة:
68 «... وفيها انقض كوكب كبير لم ير أكبر منه.» وكذلك رواه الذهبي.
سنة 403ه
يورد ابن الجوزي، في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة، حدثين لسقوط النيازك:
69 «... وفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من صفر وقت العشاء انقض كوكب كبير الجرم عن يمنة القبلة وملأ الأرض ضوءه واستعظم الناس ما رأوه منه.» ويضيف فيما يعتبر تمييزا بين النيازك والصاعقة: «وفي شعبان وقعت بالكوفة صاعقة في أثناء رعد وبرق فسقطت على حائط فرمت به ... وفي رمضان انقض كوكب من المشرق إلى المغرب غلب ضوءه ضوء القمر وتقطع قطعا وبقي ساعة طويلة.» ويورد ابن كثير نقلا عن ابن الجوزي حدثا واحدا من الحدثين (حدث رمضان) ضمن أحداث نفس السنة:
70 «قال ابن الجوزي: وفي رمضان منها انقض كوكب من المشرق إلى المغرب غلب ضوءه على ضوء القمر، وتقطع قطعا وبقي ساعة طويلة.»
سنة 417ه
يروي ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة:
71 «... وفي شهر رمضان انقض كوكب عظيم الضوء كان له دوي كدوي الرعد.» ويورد ابن الأثير نفس الحدث:
72 «... وفيها انقض كوكب عظيم استنارت له الأرض، فسمع له دوي عظيم، كان ذلك في رمضان.» ويورده كذلك ابن كثير ضمن تأريخه لأحداث هذه السنة:
73 «... وفي رمضان انقض كوكب سمع له دوي كدوي الرعد.»
سنة 420ه
يسجل ابن الجوزي ثلاث حوادث مختلفة، سقطت فيها الأحجار السماوية على الأرض في أماكن مختلفة، في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة. وإن حدد تواريخ تلك الحوادث، فإنه لا يذكر بالتحديد المواضع التي سقطت عليها تلك النيازك . ويذكر في هذا الخصوص:
74 «... وفي وقت عتمة ليلة الثلاثاء لعشر بقين من رجب انقض كوكب عظيم أضاءت منه الأرض وكان له دوي كدوي الرعد وتقطع أربع قطع. وانقض في ليلة الخميس بعده كوكب آخر دونه وانقض في ليلة الأربعاء لليلتين بقيتا من الشهر كوكب ثالث أكبر من الأول وأكثر إضاءة وانتشار شعاع.» ويورد ابن الأثير نفس الخبر. وكما يبدو من قراءة الخبر، أنه ينقله من رواية ابن الجوزي؛ إذ يذكر في معرض تأريخه لأحداث نفس السنة:
75 «وفيها انقض كوكب عظيم في رجب، وأضاءت منه الأرض، وسمع له صوت عظيم كالرعد، وتقطع أربع قطع، وانقض بعده بليلتين كوكب آخر دونه، وانقض بعدهما كوكب أكبر منهما وأكثر ضوءا.» ويورد ابن كثير الخبر بصورة مقتضبة:
76 «وفي رجب من هذه السنة، انقضت كواكب كثيرة شديدة الصوت قوية الضوء.»
سنة 423ه
يذكر ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة، حدثين لسقوط النيازك:
77 «... وفي عشية يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الأولى عند تصويب الشمس للغروب انقض كوكب كبير الجرم كثير الضوء. وفي ليلة الاثنين ثاني شوال انقض كوكب أضاءت منه الأرض وارتاع له الناس وكان في شكل (؟) ولم يزل يتقلب حتى اضمحل.» ويورد الذهبي أيضا نفس الحدثين، لكنه يحدد شكل الحدث الثاني:
78 «وفي شوال انقض ليلة الاثنين كوكب أضاءت منه الأرض وارتاع له العالم، وكان في شكل الترس، ولم يزل يقل حتى اضمحل.»
سنة 425ه
يورد ابن الأثير في تاريخه الكامل، حدثين مختلفين لسقوط النيازك ضمن أحداث هذه السنة:
79 «... وفيها، في ذي القعدة، انقض كوكب هال منظره الناس، وبعده بليلتين انقض شهاب آخر أعظم منه كأنه البرق ملاصق الأرض، وغلب على ضوء المشاعل، ومكث طويلا حتى غاب أثره.» وقد ذكر الذهبي الحدثين:
80 «وفي ذي القعدة انقض شهاب كبير مهول، ثم بعد جمعة انقض شهاب ملأ ضوءه الأرض، وغلب على ضوء المشاعل، وروع من رآه، وتطاول مكثه على ما جرت به عادة أمثاله، حتى قيل انفرجت السماء لعظم ما شوهد منه.»
سنة 427ه
يروي ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة:
81 «... وفي ضحوة نهار يوم السبت لثمان بقين من رجب انقض كوكب غلب ضوءه على ضوء الشمس وشوهد في آخره مثل التنين أزرق يضرب إلى السواد وبقي نحو ساعة.» ويورد ابن الأثير نفس الخبر:
82 «... في هذه السنة، في رجب، انقض كوكب عظيم غلب نوره على نور الشمس وشوهد في أخرها مثل التنين يضرب إلى السواد، وبقي ساعة وذهب.»
سنة 443ه
يذكر النويري ضمن أحداث هذه السنة:
83 «... في يوم الأربعاء سابع صفر وقت العصر ظهر ببغداد كوكب غلب نوره على نور الشمس له ذؤابة نحو ذراعين، وسار سيرا بطيئا، ثم انقض والناس يشاهدونه.» وأورد ابن الأثير نفس الخبر:
84 «... ظهر ببغداد يوم الأربعاء سابع صفر وقت العصر، كوكب غلب نوره على نور الشمس، له ذؤابة نحو ذراعين، وسار سيرا بطيئا ثم انقض، والناس يشاهدونه.»
سنة 447ه
يروي ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة:
85 «... وفي آخر نهار الخميس لثمان بقين من ربيع الآخر انقض كوكب كبير الجرم فتقطع ثلاث قطع.»
سنة 452ه
يذكر ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة:
86 «وفي يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة انقض كوكب عظيم القدر عند طلوع الشمس من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق فطال لبثه.» وأورده ابن الأثير:
87 «... وفيها، ثالث جمادى الآخرة، انقض كوكب عظيم القدر عند طلوع الفجر من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق، فطال لبثه.»
سنة 455ه
يروي ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة:
88 «... وفي ليلة الاثنين لخمس بقين من ربيع الآخر انقض كوكب كبير كان له ضوء كبير.» ويبدو أن ابن الأثير يورد نفس الحدث ضمن أحداث ذات السنة:
89 «... وفيها في ربيع الآخر، انقض كوكب عظيم، وكان له ضوء كثير.»
سنة 456ه
يروي ابن الأثير ضمن أحداث هذه السنة:
90 «... وفيها انقض كوكب عظيم، وكثر نوره فصار أكثر نورا من نور القمر. وسمع له دوي عظيم، ثم غاب.» ويقتصر تسجيل هذا الحدث على ابن الأثير فقط؛ إذ لم يرد في تسجيلات المؤرخين الآخرين. ويبدو من خلال هذا الوصف أن النيزك الساقط كان نيزكا كبيرا جدا، لدرجة أن نوره وصف كنور القمر، وصاحبه دوي عظيم، وهذا لا يكون إلا في حالة سقوط النيازك الكبيرة.
سنة 457ه
يذكر ابن الجوزي في معرض تأريخه لأحداث هذه السنة:
91 «... وفي ليلة الثلاثاء ثالث رمضان انقض كوكب عظيم وانبسط نوره كالقمر ثم تقطع قطعا وأسمع دويا مفزعا.» ويورد ابن الأثير نفس الحدث:
92 «... وفيها انقض كوكب عظيم، وصار له شعاع كثير أكثر من شعاع القمر، وسمع له صوت مفزع.»
سنة 458ه
يصف ابن الجوزي، أثناء تأريخه لأحداث هذه السنة، حدث ظهور مذنب؛ إذ يذكر:
93 «وفي العشر الأول من جمادى الأولى ظهر في السماء كوكب كبير له في المشرق ذؤابة عرضها نحو ثلاثة أذرع، وطولها أذرع كثيرة، إلى حد المجرة من وسط السماء مادة نحو المغرب، ولبث إلى ليلة الأحد لست بقين من هذا الشهر، وغاب ثم ظهر في ليلة الثلاثاء عند غروب الشمس، قد استدار نوره عليه كالقمر، فارتاع الناس وانزعجوا، ولما اعتم الليل رمى ذؤابة نحو الجنوب وبقي عشرة أيام ثم اضمحل.» ويسجل في ذات السنة حادثة سقوط نيازك أو شهب؛ إذ يذكر:
94 «وفي ليلة الأحد لأربع بقين من شعبان انقض كوكبان كان لأحدهما ضوء كضوء القمر، وتبعهما في نحو ساعة بضعة عشر كوكبا صغارا إلى نحو المغرب.»
سنة 477ه
يروي ابن الأثير ضمن أحداث هذه السنة:
95 «... في هذه السنة، في صفر، انقض كوكب من المشرق إلى المغرب، كان حجمه كالقمر وضوءه كضوئه، وسار مدى بعيدا على مهل وتؤدة في نحوه، ولم يكن له شبيه من الكواكب.» ويورد النويري خبر نفس الحدث ضمن أحداث نفس السنة:
96 «وفي شهر صفر انقض كوكب من الشرق إلى الغرب كان حجمه وضوءه كالقمر، وسار مدى بعيدا على مهل في نحو ساعة.»
سنة 515ه
يروي ابن الأثير ضمن أحداث هذه السنة:
97 «... وفيها، في ربيع الآخر، انقض كوكب عشاء، وصار له نور عظيم، وتفرق منه أعمدة عند انقضاضه، وسمع عند ذلك صوت هدة عظيمة كالزلزلة.»
سنة 572ه
يروي ابن الأثير ضمن أحداث هذه السنة:
98 «... وفيها انقض كوكب أضاءت له الأرض إضاءة كثيرة، وسمع له صوت عظيم وبقي أثره في السماء مقدار ساعة وذهب.»
سنة 589ه
يروي ابن الأثير ضمن أحداث هذه السنة:
99 «... وفيها انقض كوكبان عظيمان، وسمع صوت هدة عظيمة وذلك بعد طلوع الفجر وغلب ضوءهما القمر وضوء النهار.»
سنة 593ه
يورد السيوطي في كتابه «تاريخ الخلفاء» خبر انقضاض كوكب كبير أثار الفزع والرعب في الناس، وهو يؤرخ لما وقع من حوادث أثناء خلافة الناصر لدين الله (575-622ه)؛ إذ يذكر:
100 «... وفي سنة ثلاث وتسعين (وخمسمائة ) انقض كوكب عظيم سمع لانقضاضه صوت هائل واهتزت الدور والأماكن فاستغاث الناس وأعلنوا بالدعاء وظنوا ذلك من أمارات القيامة.»
سنة 637ه
ينفرد النويري بتسجيل هذا الحدث؛ حيث يذكر أثناء تأريخه لحوادث تلك السنة:
101 «... ذكر عدة حوادث وقعت في سنة سبع وثلاثين وستمائة - خلاف ما قدمناه - في هذه السنة ... وفيها، في ليلة الثلاثاء خامس عشر ذي القعدة، سقط كوكب عظيم قبل طلوع الفجر بمنزلة، وكان مستديرا على هيئة ومقدار، فأضاءت منه الدنيا، وصارت الأرض أشد نورا من ليلة التمام. وشاهده من كان ببلبيس عابرا عليها آخذا من المشرق إلى نحو القبلة، وشاهده من كان بظاهر القاهرة، عابرا من جهة باب النصر إلى صوب قلعة الجبل. ثم قطع البحر إلى ناحية الجزيرة، وكانت له ذؤابة طويلة خضراء، مبتورة قدر رمحين. واعتقبه رعد شديد، وتقطع منه قطع. وأقام، من حين إدراك النظر له حين انطفائه، بقدر ما يقرأ الإنسان سورة الإخلاص ثلاثين مرة - هكذا قدره من شاهده - على ما نقل إلينا.» وقد تبلغ الفترة الزمنية التي استغرقها ظهور الحدث في الجو بحوالي دقيقة تقريبا، حيث تستغرق قراءة سورة الإخلاص مرة واحدة حوالي 5 ثوان.
سنة 679ه
يروي ابن كثير، في معرض تأريخه لأحداث سنة 679ه/1280م، حادثة وقوع صاعقة على الجبل الأحمر شرق القاهرة، فأصابت حجرا فأحرقته، وتكون نتيجة لذلك حديد، حيث يسجل بعضا من الأحداث التي سقطت فيها الصواعق على الأرض، والتي من بينها حدث نيزكي:
102 «... ووقعت صاعقة بالإسكندرية وأخرى في يومها تحت الجبل الأحمر على صخرة فأحرقتها، فأخذ ذلك الحديد فسبك فخرج منه أواقي بالرطل المصري.» ورغم الخلط بين الصواعق العادية والنيازك، إلا أن المرء يستنتج بسهولة ويسر أن الحدث الأخير يشير إلى ظاهرة سقوط نيزك من النيازك الحديدية. وقد ورد نفس الحدث في العديد من كتب المؤرخين العرب، مثل السيوطي في كتابه «حسن المحاضرة»، وابن حبيب في كتابه «تذكرة النبيه في أيام المنصور وبنيه»، الذي سبق ذكره. ويورد اليونيني (قطب الدين أبو الفتح موسى بن محمد اليونيني، المتوفى سنة 726ه) في كتابه «ذيل مرآة الزمان»، هذا الحدث؛ إذ يذكر:
103 «وفي يوم عرفة منه وقع بالديار المصرية برد من كبار الحجم فأهلك من الغلال والزراعات ما لا يحصى، وكان معظم ذلك بالوجه البحري، ووقع بظاهر القاهرة تحت الجبل الأحمر صاعقة على حجر فأحرقته فأخذ من ذلك الحجر قطعة وسبكت فاستخرج منها قطعة حديد بلغت زنتها أربع أواقي من المصري، ووقع في ذلك اليوم بعينه صاعقة بثغر الإسكندرية.» ويبدو جليا من هذا الوصف أن الصاعقة، التي ورد ذكرها في هذا الخبر، تشير إلى سقوط نيزك حديدي.
نيزك برجي (733ه/1332م)
يذكر الرحالة العربي المعروف «ابن بطوطة» (أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم (703ه/1304م-779ه/1377م))، في كتابه «رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار»، وصفا لنيزك كان قد شاهده في مدينة «بركي» (برجي) من أعمال البلاد التركية؛ حيث يذكر - ضمن أحداث رحلته في آسيا الصغرى، ولقائه بسلطان مدينة بركي (برجي) التركية، السلطان «محمد بن آبدين» - وصفا لنيزك كان قد سقط على المدينة، من فترة وجيزة على وصوله:
104 «... وسألني السلطان في هذا المجلس، فقال لي: «هل رأيت حجرا أنزل من السماء؟» فقلت: «ما رأيت ذلك، ولا سمعت به.» فقال لي: «إنه قد نزل بخارج بلدنا هذا حجر من السماء.» ثم دعا رجالا وأمرهم أن يأتوا بالحجر، فأتوا بحجر أسود أصم شديد الصلابة له بريق، قدرت أن زنته تبلغ قنطارا [حوالي 44,928كجم، أو أكثر] وأمر السلطان بإحضار القطاعين فحضر أربعة منهم، فأمرهم أن يضربوه، فضربوا عليه ضربة رجل واحد أربع مرات بمطارق الحديد، فلم يؤثروا فيه شيئا، فعجبت من أمره. وأمر برده إلى حيث كان.» ويمثل هذا الحدث، من خلال الوصف المقدم، حادثة سقوط نيزك حديدي كبير. وقد حقق باحثون في العصر الحديث الحدث، من خلال دراسة رواية ابن بطوطة، وخلصوا إلى أن النيزك الذي سقط في تلك الفترة كان نيزكا حديدا، وكان يبلغ وزنه حوالي 60كجم.
105
وقد أشارت بعض الدراسات الحديثة إلى أن عددا من السيوف شكلت من قطع حديدية كانت قد اقتطعت من جسم الحديد النيزكي، لكن للأسف لا يوجد تسجيل معتمد للمسار التاريخي لتلك السيوف، يذكر إلى أين ذهبت، وماذا كان مصيرها؟
سنة 792ه
يورد الخزرجي في كتابه «العقود اللولئية في تاريخ الدولة الرسولية» خبر انقضاض كوكب كبير في شوال من هذه السنة:
106 «... وفي ليلة الاثنين التاسع من شوال انقض كوكب عظيم من ناحية الجنوب إلى ناحية الشمال وقت صلاة العشاء، فكان له ضوء عظيم زائد على ضوء القمر زيادة كثيرة، وبعد مغيبه بقليل وقعت هدة عظيمة حتى سمعت أن بعض العقلاء قام من موضعه فزعا مرعوبا يظن أن منزله قد انهدم أو انهدم بعضه من شدة ما سمع.» وهذا الوصف ينطبق على سقوط النيازك الضخمة، التي تحدث الفوهات النيزكية في مواضع ارتطامها بالأرض.
سنة 802ه
يذكر الخزرجي في كتابه «العقود اللؤلئية في تاريخ الدولة الرسولية»، ضمن ما أورده من أحداث وقعت في هذه السنة:
107 «... وفي يوم السبت الخامس والعشرين من جمادى الأخرى وقعت رجفة عظيمة نصف النهار، وانقض كوكب يحكي من رآه أنه كان على هيئة القمر فانهدمت حينئذ مواضع كثيرة في الجبال.» وهذا تسجيل قيم من الوجهة العلمية، خاصة وأن المؤلف عاصر الحدث بنفسه، ولم ينقله عن كتاب سابقين، كما هو الحال في أغلب تسجيلات أحداث النيازك. وفي قوله في هذا الحدث: «وانقض كوكب يحكي من رآه أنه كان على هيئة القمر فانهدمت حينئذ مواضع كثيرة في الجبال.» - فيه إشارة واضحة إلى أنه يصف حادثة سقوط نيزك كبير، على الأراضي اليمنية، أثر على الأرض في منطقة السقوط، وتسبب في تصدع وهدم أجزاء من المنطقة الجبلية التي سقط عليها. ويتوافق تأثير الجسم على الأراضي التي سقط عليها، مع وصف حجم الجسم الساقط الذي بدا - في نظر من رأوه - على أنه كان على هيئة القمر. كما يضيف المؤلف حدثا آخر وقع في شهر شعبان من نفس السنة، ربما تكون له دلالات مهمة على تأثير ارتطام النيازك بالأرض؛ إذ يورد:
108
وفي يوم الاثنين العاشر (من شهر شعبان سنة 802ه) وقعت رجفة شديدة. وأخبرني الفقيه تقي الدين عمر بن أحمد بن عبد الواحد قال: بينما أنا وجماعة من الرعية في رأس الوادي زبيد وقت الضحى الأول إذ حصلت رجفة شديدة وكان أحد عمالة النخل حينئذ على نخلة عندنا هناك فكادت النخلة تسقط بالعامل. وكان قد انقض نجم قبل ذلك بساعة من ناحية المغرب إلى المشرق فوقع بين جبلين هناك فاشتعلت النار حينئذ موضعه ثم حصلت الرجفة بعده بقليل.» فهذا الوصف يربط بين سقوط النيازك الضخمة وما يترتب على ذلك من انزلاقات أرضية، لا تقتصر فقط على لحظة الارتطام، بل قد تظهر بعد حدوث الارتطام بوقت قصير أو طويل. ويبقى الأمل معقودا على المساحة الجيولوجية اليمنية في تحري هذا الحدث، الذي حدد المؤلف موقعه وتاريخه، فربما يتم الكشف عن ظاهرة نيزكية فريدة من نوعها.
سنة 910ه
يورد العيدروس (عبد القادر بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس)، في كتابه «النور السافر عن أخبار القرن العاشر»، ضمن أحداث هذه السنة:
109 «... وفيها انقض كوكب عظيم وقت العشاء من اليمن في الشام عرض مدينة زبيد وتشظى منه شظايا عظيمة. ثم حصلت بعده هزة عظيمة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.» ويورد ابن العماد نفس الحدث ضمن أحداث ذات السنة:
110 «... وفيها انقض كوكب عظيم وقت العشاء من اليمن في الشام وتشظى منه شظايا عظيمة ثم حصل بعده هدة عظيمة.»
سنة 916ه
يذكر ابن إياس في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور» حادثة عرض جسم نيزكي على السلطان، حيث يذكر:
111 «... ومن الوقائع أن الأمير أركماس الذي كان نائب الشام، طلع إلى السلطان بقطعة فولاذ هيئة الكرة، وزعم أنها صاعقة نزلت ببعض الجبال، وأن أعرابيا أهداها إليه، ففرح السلطان بذلك، وجمع السباكين فقالوا إنها صاعقة لا محالة، فنظر إليها بعض الزردكاشية فأنكر ذلك، وقال: هذه حجر مرقشيتة، وهو حجر صلب، فلما سمع السلطان ذلك شق عليه ونزل إلى الميدان، وجمع السباكين وحضر الأمير أركماس، ووضعوا ذلك الحجر الذي على هيئة الفولاذ في النار، فمجرد ما وضعوه في النار صار مثل الحرنقش وتفتت، فخجل الأمير أركماس من ذلك، وانتصف عليه ذلك الزردكاش، وهو الجمالي يوسف أخو مؤلفة، وعد ذلك من النوادر.» وربما يكون الحجر المقصود في هذه الرواية نيزكا حجريا، لكنهم في ذلك الوقت كانوا لا يعتدون إلا بالنيازك الحديدية. فبالنسبة لهم هي النوعية الوحيدة التي ترتبط بالصاعقة (النيازك)، وما عداها فلا يعتد به، كما يتضح من خلال التجهيزات التي تمت بمجرد العلم بأمر وجود حجر صاعقة مع أحد من الناس.
ويورد العيدروس، في كتابه «النور السافر عن أخبار القرن العاشر»، ضمن أحداث هذه السنة:
112 «وفي ليلة الاثنين الخامس من شهر جمادى الأولى ... وفيها: انقض كوكب عظيم من نصف الليل آخذا في الشام وأضاءت الدنيا كذلك إضاءة عظيمة حتى لو أن الإنسان حاول رؤية الذر بذلك لم يمتنع عليه، ثم غاب في الجهة الشامية وبقي أثره في السماء ساعة طويلة.» وأورده كذلك ابن العماد نقلا عن العيدروس، ضمن أحداث نفس السنة:
113 «... فيها كما قال في النور انقض كوكب عظيم من نصف الليل آخذا في الشام وأضاءت الدنيا لذلك إضاءة عظيمة حتى لو أن الإنسان حاول رؤية الذر لم يمتنع عليه ثم غاب في الجهة الشامية، وبقي أثره في السماء ساعة طويلة.» ويورد العيدروس حدثا آخر أيضا، ضمن أحداث ذات السنة، وهو ذاته الذي وصفه ابن العماد:
114 «... وفيها زلزلت مدينة زبيد زلزالا شديدا ثم زلزلت مرة أخرى ثم ثالثة وانقض في عصر ذلك اليوم كوكب عظيم من جهة المشرق آخذا في جهة الشام ورئي نهارا وحصل عقبه رجفة عظيمة كالرعد الشديد.»
ومن خلال هذا العرض الموجز لبعض تسجيلات كتاب العرب القدامى لحوادث سقوط النيازك، يجد المرء نفسه أمام عدد من الأحداث التي تصف سقوط نيازك حقيقية، في أوقات مختلفة وعلى مناطق مختلفة. ويستطيع المرء، من خلال الظواهر التي وصفت مصاحبة لتلك الأحداث، أن يقف على بعض الجوانب الفنية في ظواهر السقوط تلك، كحجم النيزك الساقط، وذلك من خلال الأصوات التي ترافق سقوطه، واتجاهه من خلال إشاراتهم إلى الجوانب التي ظهر فيها، ووقت سقوطه، وتشظي الجسم أثناء سقوطه، أو سقوطه على هيئة كتلة واحدة. ثم يجد المرء دقة متناهية في التأكيد على أن الحدث كان نيزكا؛ إذ يجد بعض التسجيلات تحرص على التأكيد على أن السماء كانت صافية (لا غيم فيها)، أي أن الأصوات لا علاقة لها بظواهر الرعد والبرق (الصواعق). ثم ما يدل على سقوط نيازك من خلال تلك الأحداث، الرجفة العنيفة التي ترافقها، والتي حرصوا على ذكرها مع بعض الأحداث، وإن لم تذكر فمعناها أن النيازك الساقطة، كانت صغيرة، فلم يترتب على سقوطها رجة محسوسة، أو كانت كبيرة بالفعل لكنها سقطت في أماكن بعيدة عن الناس، فلم يشعروا بالرجة التي يمكن أن تحدثها. ثم ما يدهش المرء حقيقة ذكر تأثيرات سقوط النيازك على الأرض، فتجد في حادث سنة 802ه، والذي أورده «الخزرجي» في كتابه، أن الحدث أدى إلى تهدم قطع من الجبال. وهذا يتوافق مع نيازك الفوهات الكبيرة، التي يحدث ارتطامها بالأرض دمارا كبيرا ناتجا عن طاقة الصدمة. ثم وصف الأضواء الشديدة التي صاحبت أغلب هذه الأحداث، وأشهرها على الإطلاق، وصف العيدروس، للأضواء المصاحبة لحادثة نيزك سنة 916ه: «... وأضاءت الدنيا لذلك إضاءة عظيمة حتى لو أن الإنسان حاول رؤية الذر لم يمتنع عليه.» وهذا يتشابه تشابها تاما مع التسجيلات الحديثة للظواهر المصاحبة لسقوط النيازك. ثم وصفه ووصف غيره من المؤرخين العرب للفترة الزمنية التي يستغرقها الحدث، فمنهم من يذكر أن الحدث استمر أثره في السماء وقتا طويلا نسبيا: «... ثم غاب في الجهة الشامية وبقي أثره في السماء ساعة طويلة.» بما يتوافق تماما مع الأتربة وأعمدة الدخان التي تتخلف عن سقوط النيازك، وتظل عالقة في الأجواء زمنا محسوسا.
ويلاحظ أن تسجيلات النيازك - ضمن بعض المراجع التي سنحت الفرصة بالاطلاع عليها - بلغ ذروته خلال القرن الخامس الهجري من 400-500ه. ثم أخذ يتناقص تناقصا ملحوظا. وهذه مقارنة نسبية، وليست مطلقة ما لم تطالع بقية المؤلفات العربية. وبعض الأحداث، التي تم نقلها عن مصدر واحد، لا يعني أنها غير مسجلة في مصادر أخرى، لكن لم يتم الاطلاع عليها، أو تم الاكتفاء بذلك خشية الإطالة.
الفصل الخامس
لماذا ندرس النيازك؟
«النيازك: مسبار الرجل الفقير الفضائي.» (إدوارد ج. أولسين) ***
من الطبيعي أن تنال النيازك اهتمام الباحثين؛ ففي ذاتها - كمادة طبيعية - يجب أن تدرس بعناية لفهم خصائصها الدقيقة، لكن للنيازك وضعا خاصا يجعلها محل اهتمام الباحثين، باعتبارها مادة من خارج الأرض؛ فالنيازك من أولى المواد الخارجية، التي حصل عليها الباحثون ودرسوها، وتبينوا من دراستها طبيعة الأجسام التي توجد خارج نطاق الأرض، والعلاقة بينها وبين مكونات الأرض، قبل أن يحصل الإنسان على عينات من سطح القمر، من خلال الرحلات التي نظمها، بداية من عام 1969م، حيث وطئت أول قدم إنسان سطح القمر. وتنبه الباحثون لأهمية النيازك العلمية خلال تلك الفترة، التي بدأت فيها إرهاصات إرسال المركبات الفضائية؛ لسبر أغوار الفضاء، فصار يطلق على النيازك في ذلك الوقت «مسابير الفقراء الفضائية». ففي سلسلة المحاضرات التي كان ينظمها متحف التاريخ الطبيعي بلندن للجمهور، في عام 1968م، اختار الباحث «إدوارد ج. أولسين»
Edward J. Olsen ، رئيس قسم المعادن بالمتحف، عنوان محاضرته عن النيازك: «النيازك: مسبار الرجل الفقير الفضائي»
Meteorites: A Poor Man’s Space Probe ؛ فلا تكاليف ولا نفقات خيالية ترصد لإرسال مركبة فضائية تجلب عينات من القمر بغية الدراسة. فها هي النيازك تأتي من مصادر مختلفة من الفضاء، ويحصل عليها الباحثون مجانا، ويدرسونها ليقفوا على طبيعة الأجسام الفضائية التي تأتي منها. وأشار إليها بعض الباحثين من قبل على أنها بمثابة «حجر رشيد» الفضاء. فكما مكن حجر رشيد الباحثين من فك رموز اللغة الهيروغليفية القديمة، تمكن النيازك الباحثين من فهم طبيعة الكون. وستظل القيمة العلمية العالية للنيازك كما هي، على الرغم من حصول الإنسان على عينات من القمر، وعلى الرغم من إمكانية حصوله في المستقبل القريب على عينات من صخور المريخ، عن طريق البعثات الفضائية. ذلك أن بعض النيازك يأتي من مصادر لا يستطيع الإنسان أن يحصل منها على عينات صخرية، ولو لعدة سنوات قادمة على أحسن تقدير.
وتقدم دراسة النيازك معلومات قيمة، تسهم بشكل مباشر في تطور المفاهيم العلمية عن طبيعة الأجسام الفضائية، وأعمارها، وطريقة تكونها، وتأثيرات الأشعة الكونية عليها، وتأثيرات التصادمات التي تتم بينها، ومدى العلاقة والتشابه بين مصادر النيازك وبين الأرض. وتسهم النيازك في اختبار الفروض القائلة بوجود الحياة في أماكن أخرى غير الأرض، وهل قامت في وقت ما حياة، كالحياة الأرضية، على أجرام أخرى غير الأرض؟ أي أن دراسة النيازك تقود إلى فهم أكبر، وأعمق للكون الذي نعيش فيه؛ ومن ثم اعتبرها الباحثون بأنها بمثابة «مسابير كونية» طبيعية، تسجل الأحداث التي تتم بين الأجسام السماوية، ثم تفضي بها للباحثين عند دراستها.
1
وسبق الإشارة إلى أن حادثة سقوط نيزك «إيجوسبوتامي»، الذي يعود تاريخها إلى ما بين 469-467ق.م. أثرت في فكر اثنين من فلاسفة الإغريق آنذاك، فوضعا تصورا جديدا عن الكون، والكواكب؛
2
ومن ثم فإن الاهتمام بالنيازك وتأملها قاد إلى تطور الفكر العلمي عبر العصور، كما أن الأخطار التي يمكن أن تنشأ عن ارتطام النيازك العملاقة بالأرض تجعل دراستها من الأمور الحتمية؛ إذ يراقب الباحثون تحركاتها، من خلال المناظير الضخمة التي أنشئت خصيصى لهذا الغرض، بغية اكتشاف وسيلة لدفعها بعيدا عن المدارات الخطرة، التي تهدد الأرض، أو تدميرها قبل سقوطها على الأرض، أو محاولة تقليل أخطارها الكبيرة. (1) النيازك وفهم أعمق للأرض
أسهمت دراسة النيازك إسهاما كبيرا في تطور الفكر العلمي عبر العصور. وأسهمت دراسة النيازك في العصر الحديث إسهاما لا يمكن إغفاله في مجال فهم طبيعة الأرض، خاصة تلك المفاهيم الخاصة بمكونات الأرض الداخلية. وقاد فهم بنية النيازك الداخلية، بعد تطور عمليات دراستها بداية من النصف الثاني في القرن التاسع عشر، إلى فهم طبيعة وبنية التركيب الداخلي للأرض، الذي لا يمكن دراسته بطريقة مباشرة. وقبل دراسة النيازك، كان ينظر للأرض على أنها كرة هائلة من الجرانيت، تمتد من القشرة الأرضية (سطح الأرض) إلى القلب أو المركز، الذي يوجد على عمق 6370كم. ففي عام 1866م وضع الباحث «دوبري»
Daubrée
نظريته عن مكونات الأرض الداخلية، التي توقع فيها أن الأرض لا بد وأنها تتكون من نطاقات مختلفة التركيب، من بينها وجود لب أو قلب مكون من سبيكة من الحديد والنيكل (مثل النيازك الحديدية)، ووشاح مكون من معادن سيلكات أثقل في مكوناتها من مكونات القشرة الأرضية، بناء على النتائج التي حصل عليها الباحثون، من خلال الدراسات المعدنية والكيميائية التي أجريت على النيازك،
3
والتي بينت أنها عبارة عن ثلاثة أقسام رئيسية؛ حديدية، وحجرية، وحديدية-حجرية. وبما أن النيازك كانت على حسب الفروض السائدة آنذاك (وما زالت قائمة مع فروض أخرى الآن)، تمثل شظايا كوكب كان يدور حول الشمس بين المريخ والمشتري، وانفجر وتشظى إلى قطع متفاوتة الأحجام (حزام الكويكبات) فإن الأرض لا بد وأن تكون ذات بنية نطاقية، شأنها شأن الكوكب الذي تشظى وصار مصدرا لهذه القطع، التي تسقط على الأرض على هيئة نيازك. وقد أثبتت الدراسات الجيولوجية، والجيوفيزيقية، التي أجريت بعد ذلك على مكونات الأرض الداخلية؛ أثبتت بالفعل دقة ما خلص إليه «دوبر»، وأيدت رأيه عن البنية النطاقية للأرض، التي تتكون من ثلاثة نطاقات رئيسية متباينة في المكونات الكيميائية والخصائص الطبيعية، هي: القشرة الأرضية وتمتد من سطح الأرض حتى عمق 40كم، والوشاح الذي يبدأ من 40كم حتى عمق 2900كم، ويقسم إلى وشاح علوي (من 40 إلى 410كم)، ووشاح انتقالي أو ووسط (من 410 إلى 1000كم)، ووشاح سفلي (من 1000 إلى 2900كم)، والقلب
Core
الذي يبدأ من عمق 2900كم إلى 6370كم، ويقسم قلب علوي (من 2900كم إلى 4980كم)، ونطاق انتقالي (من 498 إلى 5120كم)، وقلب سفلي (من 5120 إلى 6370كم). (2) النيازك والحياة خارج الأرض
وفيما يخص قضية احتمال وجود حياة خارج الأرض، يتطلع الباحثون للنيازك علها أن تسهم في إلقاء الضوء على هذا الموضوع الذي شغل بال الناس منذ قديم الزمن. فبعدما لم تعد الأرض - في نظر العلماء - مركزا للكون؛ وبالتالي فإنهم ينفون عنها أية خصوصية. فلماذا إذن تختص الأرض بالحياة، دون غيرها من الكواكب الأخرى التي يعج بها الكون؟! وتأتي الكشوف الحديثة عن اتساع الكون لتعطي زخما لهذا الاتجاه؛ فالأرض كوكب من كواكب الشمس، والشمس نجم من بين بلايين النجوم في مجرة درب اللبانة أو التبانة، والمجرة واحدة من بلايين المجرات في الكون، لكن ربما يكون الأمر على عكس ما يتصور البعض؛ فالأرض رغم أنها ليست مركزا للكون، إلا أنها ذات خصوصية فريدة؛ من حيث موقعها من الشمس الذي يجعلها تستقبل حرارة مناسبة، وحجمها وكتلتها وكثافتها وجاذبيتها، تجعلها ذات وضعية فريدة بين كواكب المجموعة الشمسية. وكل هذه الخصائص تجعلها مناسبة للحياة التي نعرفها، ولكن من الممكن أن يوجد ضمن بلايين المجرات في الكون كواكب شبيهة بالأرض، يمكنها أن تحتضن الحياة.
وينبغي أن تسهم النيازك بدور مهم في الإجابة عن ذلك السؤال؛ فالنيازك تأتي من مواقع أخرى غير الأرض، ولو كانت هناك حياة، فإن آثارها لا بد وأن تكون موجودة داخل النيازك. إذن من الممكن أن تجيب النيازك بالنفي أو الإيجاب عن وجود حياة على المصادر التي تأتي منها. وبالطبع لا يتوقع أحد أن توجد حياة على حزام الكويكبات أو المذنبات التي تأتي منها أغلب النيازك. رغم أن بعض الباحثين يزعمون أن الحياة جاءت الأرض من الفضاء الخارجي عبر المذنبات. ويبقى القمر والمريخ من بين المصادر التي يمكن أن تختبر النيازك في الإجابة عن السؤال: هل قامت عليهما حياة في الماضي البعيد؟! من المعروف أن القمر حاليا لا يمثل بيئة صالحة لقيام الحياة أو استمرارها، لكن لا يمنع ذلك من احتمال قيامها في الماضي البعيد واندثارها. أما المريخ، فربما توجد عليه حياة بدائية الآن، أو ربما قامت عليه حياة في الماضي البعيد ثم اندثرت. لا شك أن الموضوع برمته موضع إثارة؛ فمن حين لآخر تظهر تقارير عن اكتشاف آثار حياة داخل أحد النيازك، ويأخذ الموضوع حيزا من الدعاية، ثم يخبوا كما لو لم يكن؛ ففي سبعينيات القرن العشرين، ظهر اهتمام كبير بموضوع وجود مركبات عضوية في النيازك الكربونية، فسرت على أنها تمثل ارتباطا بأشكال معينة من الحياة، لكن ظهرت دراسات مضادة، تعزى وجود مثل هذه المركبات إلى عمليات كيميائية، وليس إلى عمليات حيوية.
ومن أهم الدراسات وأكثرها إثارة، بهذا الخصوص، ما أعلنه فريق من الباحثين من وكالة الفضاء والطيران الأمريكية «ناسا»، في 6 أغسطس عام 1996م، من اكتشاف ما اعتبروه شكلا من أشكال الحياة البدائية المتحفرة، في نيزك من النيازك المريخية.
4
وأخذ الموضوع حظا وفيرا من الدعاية الإعلامية، حتى إن «بيل كلينتون» - الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت - هنأ الباحثين على هذا الكشف، الذي اعتبره حدثا علميا كبيرا، لكن وجهت انتقادات عنيفة للبحث الذي نشر في مجلة «الساينس» - أهم المجلات العلمية - باعتبار أن ما شوهد من أشكال في هذا النيزك يمثل تراكيب معدنية عادية، لا ترتبط بأي حال من الأحوال مع الحياة.
5
تراكيب دقيقة في نيزك مريخي، تشبه أشكال حفريات الحياة الأرضية. (3) النيازك والحياة على الأرض
يطرح الباحثون من حين لآخر السؤال: هل للنيازك علاقة بالحياة على الأرض؟ قد يفهم بداية أن السؤال يختص بما يمكن أن يكون للنيازك من علاقة سلبية بالحياة على الأرض، من خلال ما يمكن أن تحدثه من دمار وكوارث قد تقود الحياة إلى الاندثار، لكن السؤال هنا يختص بالجانب الإيجابي للنيازك ودورها في وجود الحياة على الأرض. ذلك أن هناك فريقا من الباحثين - وإن كانوا قلة إلا أن حججهم قوية - يرى أن البذور الأولى للحياة الأرضية جاءت أول الأمر من مصادر خارجية، حملتها النيازك أو المذنبات ونثرتها على الأرض. وتعود جذور هذا القول إلى أزمنة موغلة في القدم، ربما مع بداية تطلع الإنسان إلى معرفة أصل الحياة على الأرض؛ فالقول بهبوط الحياة من الخارج راسخ في ثقافات مختلف الشعوب، وإن اختلفت الصورة التي يتصورها كل شعب لهذه الكيفية. وعموما ما يتوافر الآن من بيانات موثقة يوضح أن أول من أسهم بشكل مباشر في تجسيد فكرة البذور الكونية للحياة، هو الكيميائي السويدي «أ. س. أرهينيوس»
A. S. Arhinuos ، [الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء] عندما اقترح في عام 1809م أن الإشعاع الصادر عن النجوم يمكنه حمل الميكروبات الكونية إلى الأرض، والتي كانت بدورها بمثابة البذور الأولى للحياة الأرضية. ومع الاعتراضات الكثيرة التي تواجهها مثل هذه الآراء، والانتقادات العديدة التي توجه إلى هذا التوجه، يخرج من حين لآخر باحثون يعيدون إليها زخمها وبريقها، بما يسلطون الضوء على هذه الآراء، وبما يقدمون من أدلة جديدة، على ورود البذور الأولى للحياة عبر المواد الكونية المتساقطة على الأرض. وتمر هذه الآراء بمنعطفات كثيرة ما بين القبول والرفض، لكنها على أي حال لا تحقق ذيوعا كبيرا، رغم عجز نظريات الأصل الأرضي للحياة في تقديم دلائل قوية على ما تراه من أن الحياة نشأت وتطورت على الأرض.
ومنذ بداية ستينيات القرن الماضي، بدأ الاهتمام بالموضوع يعود ثانية إلى مسرح الحياة العلمية، وظهرت أبحاث مميزة تؤيد هذه الأفكار، وتقدم من الأدلة والشواهد ما يدعمها. ومن المؤلفات المهمة التي تتبنى قضية الأصول الكونية للحياة الأرضية؛ مؤلف العالم الشهير «فريد هويل» «البذور الكونية»، الذي نشر في عام 1981م، ونقله للعربية العالم الراحل الدكتور أحمد مستجير.
6
ويناقش فيه المؤلف قضية الأصل الكوني للحياة، مفندا الآراء التي ترى أن الحياة نشأت أول الأمر على الأرض، ويرى أنها أتت من الفضاء. ومن بين الدراسات الحديثة عن الموضوع دراسة مهمة نشرتها مجلة «ساينتفك أمريكان»، في عدد يوليو عام 1999م، ونقلتها مجلة العلوم (الترجمة العربية لمجلة «ساينتفك أمريكان»)، عدد يناير عام 2000، تحت عنوان: «مواد الحياة الأولية المقذوفة من بعيد».
7
فهذه الدراسة ترى أن الحياة الأرضية، نشأت من الجزيئات الغنية بالكربون، التي تسبح في فضاء ما بين النجوم، وسقطت مع النيازك والمذنبات على الأرض الوليدة، حيث تشكلت منها الأحماض الأمينية والبروتينات، التي قامت عليها الحياة أول الأمر.
ومع صعوبة قبول القول، بأن النيازك قدمت الحياة للأرض، في ضوء المعطيات الحالية، يرى بعض الباحثين أن النيازك أسهمت بشكل مباشر، في تطور واستمرار الحياة على الأرض، من خلال ما قدمته من عناصر ضرورية للحياة؛ فبعض الباحثين يرى أن النيازك والمواد الكونية المتساقطة على الأرض، قدمت الماء الذي يميز الأرض ككوكب من بين كواكب المجموعة الشمسية. ويختلف هؤلاء الباحثون، مع الباحثين الذين يرون أن الماء نشأ من دفقات المياه التي تخرج من أعماق الأرض، خلال ثورات البراكين، والأنشطة الأرضية الأخرى. وفي هذا الخصوص، ترى دراسة أعدها باحثان
8
من جامعة «أريزونا» بالولايات المتحدة الأمريكية؛ أن النيازك الحديدية قدمت عنصر الفسفور للحياة الأرضية. فالفسفور هو خامس العناصر أهمية وشيوعا في المواد الحيوية، بعد الأكسجين، والهيدروجين، والكربون والنيتروجين. وتستعرض الدراسة شيوع الفسفور بالنسبة لهذه العناصر في الكون والمحيطات والبكتريا، حيث تسجل النسب التالية:
الفسفور بالنسبة إلى الأكسجين.
الفسفور
الأكسجين
في الكون
1
1400
في المحيطات
1
25 مليونا
في البكتريا
1
27
الفسفور بالنسبة إلى الإيدروجين.
الفسفور
الإيدروجين
في الكون
1
2,8 مليون
في المحيطات
1
49 مليونا
في البكتريا
1
203
الفسفور بالنسبة إلى الكربون.
الفسفور
الكربون
في الكون
1
680
في المحيطات
1
974
في البكتريا
1
116
الفسفور بالنسبة إلى النيتروجين.
الفسفور
النيتروجين
في الكون
1
230
في المحيطات
1
633
في البكتريا
1
15
فما السبب وراء زيادة تركيز الفسفور في المواد الحيوية، مقارنة بنسبته في المواد الطبيعية؟ ترى الدراسة أن النيازك الحديدية، على وجه الخصوص، قدمت الفسفور للحياة الأولى؛ فمعدن ال «شيربيرزيت» (Fe,Ni)3P ، الذي تقدمه النيازك الساقطة على الأرض، يتحلل في الماء العادي عند درجة حرارة الغرفة، ويتحرر عن تحلله عدد من مركبات الفسفور، منها المركب المهم للعمليات الحيوية، الذي يتكون من ذرتي فوسفور وسبع ذرات من الأكسجين «فو2أ7». (4) النيازك وانقراض الديناصورات
تلمس دراسة النيازك موضوع انقراض الديناصورات الذي يشغل الناس؛ فالديناصورات نوع من الزواحف، امتازت بكبر أحجامها، وتنوع أشكالها. وقد ظهرت هذه المخلوقات في نهاية العصر الديفوني من حقب الحياة القديمة، وتطورت على مدى زمني كبير، امتد حتى نهاية عصر الطباشيري، من حقب الحياة المتوسطة، حيث انتشرت وسادت في كل البيئات تقريبا (أرضية - مائية - هوائية)، كما تدل على ذلك بقاياها، التي يعثر عليها متحفرة (متحجرة) في صخور تلك الفترة الزمنية من تاريخ الأرض. وحدث انقراض فجائي لهذه المخلوقات، ومعها العديد من أنواع الأحياء في نهاية عصر الطباشيري (حوالي 65 مليون سنة)، من حقب الحياة المتوسطة، أي أنها لم تنتقل إلى حقب الثلاثي الذي بدأ منذ حوالي 65 مليون سنة خلت من عمر الأرض. وقد ثار السؤال: ما السبب وراء عمليات الانقراض الكبيرة التي تحدث للحياة في تاريخ الأرض، وانقراض الديناصورات على وجه الخصوص؟! من بين الاحتمالات القوية، لأسباب انقراض الديناصورات، وقوع عدد من الصدمات النيزكية الكبيرة بالأرض خلال تلك الفترة، أدت إلى نثر التراب والغبار في جو الأرض، مما أدى إلى حجب ضوء الشمس، فقلل من نمو النباتات التي تتغذى عليها الحيوانات. ولما كانت الديناصورات الضخمة تحتاج إلى كميات كبيرة من الغذاء، فلم تعد تقاوم؛ ومن ثم حدثت عملية انقراضها.
أحد الأشكال التخيلية للديناصورات.
طبقة الطين الغنية بالعناصر النيزكية.
ومن بين السيناريوهات المفترضة، لكيفية انقراض الديناصورات بالصدمات النيزكية، سيناريو اقترحه «لويز ووالتر ألفاريز» من خلال دراسة تركيزات عنصر «الإيريديم»، وعناصر مجموعة البلاتين الأخرى التي عثر عليها في رسوبيات طين «جوبيو»، وغيرها من المواقع الأخرى، في عام 1980م، أن نيزكا (كويكبا) قطره 10كم هو المسئول عن تلك العملية. ويتصوران ضمن هذا السيناريو أن النيزك انشطر قبل ضربه الأرض إلى جزءين أو قطعتين غير متساويتين، سقطت القطعة الصغيرة منهما على منطقة «إيوه» فأحدثت حفرة «مانسون»، التي يبلغ قطرها 32كم، بينما سقطت القطعة الكبيرة الأخرى، إلى الشمال من منطقة «ياكاتان»، وما جاورها من منطقة خليج المكسيك، وأحدثت فوهة «شيكسولوب»
Chicxulub ، التي يبلغ قطرها 200كم. وتبخرت القطعتان المتصادمتان، مع الصخور التي ارتطمتا بها في الموقعين، واختلطت مكونات النيزك (الكويكب) بمكونات الصخور الأرضية. ونشأ عن هذا الحدث سحب كثيفة من الغبار والغازات (من بينها ثاني أكسيد الكربون من الحجر الجيري الذي حدثت عليه الصدمة التي أحدثها الجزء الكبير من النيزك)، وبخار الماء، حجبت ضوء الشمس فعمت الظلمة الأرض فترة زمنية طويلة أو قصيرة، على حسب الظروف التي أدت في النهاية إلى تكاثف بخار الماء، حول حبيبات التراب العالقة في الجو؛ ومن ثم بداية هطول الأمطار التي أحدثت ما يمكن تسميته عاصفة طينية، رسبت الرسوبيات الطينية الغنية بعنصر الأيريديم في منطقة «جوينو» ومناطق أخرى عديدة من العالم. مما لا شك فيه، أن الأمطار كانت أيضا حمضية وحارة، فأهلكت النباتات والحيوانات. ومن عاش من الحيوانات عانى من نقص الغذاء، الذي ترتب على الظلمة التي أحدثتها السحب الكثيفة التي حجبت ضوء الشمس.
ولعل من أهم الأدلة على ذلك وجود طبقة من الرواسب الطينية، غنية بالعناصر التي تميز النيازك؛
9
كالأيريديم، والأوزميوم، والنيكل، والكوبلت، تمتد مئات الكيلومترات، عند الحد الفاصل بين حقب الحياة المتوسطة وحقب الحياة الحديثة (فترة انقراض الديناصورات)، توجد مكاشفها في عدد كبير من البلدان.
10
وهذا يعضد الرأي القائل بأن انقراض الديناصورات كان وراءه حدوث الصدمات النيزكية، حيث تتسبب هذه العملية في نثر تراب البقعة الصخرية التي يقع عليها الحدث، مختلطا بمادة النيازك الصادمة، التي تحتوي على هذه العناصر، في الجو ثم ترسبها ثانية. وقد دعم اكتشاف فوهة «شيكسولوب»
Chicxulub ، في شبه جزيرة «ياكاتان»
Yucatan
، بالمكسيك، التي يبلغ قطرها حوالي 200كم، والتي يتزامن تكونها بصدمة نيزكية ضخمة، مع فترة انقراض الديناصورات؛ دعم هذه الفرضية بشكل كبير. هذا ويتوقع العثور على عدد كبير من الفوهات النيزكية، تكونت في تلك الفترة في أماكن مختلفة من العالم. (5) النيازك والبيئة
يسبب سقوط النيازك الضخمة على الأرض كوارث بيئية كبيرة؛ فالحرارة العالية التي تنشأ من احتكاك الجسم بالغلاف الجوي للأرض، تلعب دورا مباشرا في اتحاد النيتروجين والأكسجين؛ ومن ثم تكون أكاسيد النيتروجين، التي تؤدي في النهاية إلى تكون حمض النيترك، الذي يسقط على الأرض، فيما يعرف بالأمطار الحمضية. وكما هو معروف، فإن الأمطار الحمضية تسبب أضرارا بليغة على البيئة بصفة عامة. كما أن الطاقة العالية المتولدة عن عمليات ارتطام النيازك العملاقة بسطح الأرض تتسبب في إحداث سحب من الغبار تنتشر في الجو، وتسبب مشاكل بيئية خطيرة. ولا يزال العلماء يعتقدون أن صدمات نيزكية ضخمة، حدثت في أماكن متفرقة من العالم، كانت وراء الكارثة التي حلت بالحياة، خاصة الديناصورات، التي سادت الأرض، منذ حوالي 65 مليون سنة، وانقرضت فجأة،
11
بما أحدثت من تلوث عام للبيئة الأرضية، تأثرت به الكائنات الحية من نبات وحيوان.
لكن على الجانب الآخر، يكون للنيازك فوائد بيئية؛ فالغبار النيزكي، الذي ينتثر في الجو عقب احتراق وتذرية مكونات الأسطح الخارجية للنيازك الساقطة في جو الأرض، يسهم في تكاثف بخار الماء العالق في الجو، على هيئة نقط ماء ثم سحب. ذلك أن الغبار النيزكي يقوم بدور نوى التكاثف، أو المراكز التي يتجمع عليها بخار الماء. وقد لوحظ أن السنين التي تمر فيها الأرض، أثناء دورانها حول الشمس، بمدارات يتركز بها الغبار النيزكي، يعقبها هطول مطر غزير على الأرض.
12
وقياسا على الدراسات العديدة التي أشارت إلى أن الرماد البركاني، الذي يتشكل من حبيبات دقيقة في نفس أحجام حبيبات الغبار النيزكي والذي تطلقه وتنثره في الجو ثورات البراكين الأرضية، يسهم بشكل كبير في تخصيب الأراضي الزراعية التي يترسب عليها؛ قياسا على ذلك يمكن توقع أن الغبار النيزكي - الذي يترسب بكميات كبيرة يوميا، تتراوح بين 100 إلى 1000 طن تترسب يوميا في البيئات الأرضية، على حسب أكثر الدراسات تحفظا بهذا الخصوص - يسهم في زيادة خصوبة الأراضي الزراعية، شأنه في ذلك شأن الرماد البركاني، بما يقدم من مركبات تحتوي على عناصر مفيدة تحتاجها التربة، التي من أهمها الحديد، والفسفور، والكبريت، والتي توجد بنسب محسوسة في النيازك. (6) الأهمية التقنية للشهب
قد يعجب المرء من كون الشهب لها أهمية تقنية، لكن بعض الباحثين فكروا بالفعل في هذا الموضوع، واستفادوا تقنيا من ظاهرة الشهب في تطوير الاتصالات اللاسلكية؛ فالشهب تحترق في طبقات الجو العليا، وتحديدا في طبقة «الإينوسفير»، التي توجد على ارتفاع كبير من سطح الأرض. وتعتمد هذه الفكرة على حقيقة أن الشهب المحترقة يتخلف عنها إلكترونات وذرات مؤينة، تشكل سحبا كثيفة في هذا الموضع؛ ومن ثم فقد فكروا في الاستفادة من هذه الظاهرة في تطوير الإشارات اللاسلكية.
13 (7) النيازك وأول عينة من خارج النظام الشمسي
أثناء زيارة بعثة متحف التاريخ الطبيعي بميلانو إيطاليا لمنطقة الزجاج الليبي خلال شهري نوفمبر/ديسمير عام 1996م، عثر المؤلف على عينة سوداء براقة على الحدود الجنوبية الغربية للمنطقة. ولم يتبين طبيعة هذه العينة في حينها، لكن بالدراسة التي قام بها المؤلف ثبت أن العينة تحتوي على أول دليل مادي على اكتشاف معدن الألماس في الأراضي المصرية. ونظرا لعدم وجود نشاط بركاني بالمنطقة أو المناطق المجاورة فقد اعتبر المؤلف أن العثور على هذه العينة في هذه المنطقة يرتبط بسقوط جرم سماوي هائل في الماضي.
14
وتوالت دراسات المؤلف على المكونات المعدنية للمادة المكتشفة. وما خلص إليه كالآتي:
15 ،
16 (1)
الألماس والجرافيت تكونا من الضغط والحرارة الناشئين عن الصدمة على الكربون الموجود في صخور الحجر الرملي للمنطقة. (2)
تكونا من ثأثير الضغط والحرارة الناشئين عن الصدمة على الكربون الموجود في الجسم السماوي ذاته. (3)
كانا موجودين في الجسم السماوي ذاته.
صخر هيباتيا.
بورتيريه الفيلسوفة «هيباتيا».
وقد خضعت العينة لدراسات لاحقة نشرت نتائجها تباعا في عدد من الدوريات العلمية ثبت فيها وجود معادن لم يعثر عليها في أي مادة معروفة من قبل لا من الأرض أو النيازك. وخلصت بعض الدراسات لرأي يرى أنها جزء من نواة مذنب تحتوي معادن تكونت قبل تكون النظام الشمسي. وقد أطلق الباحثون على هذا الكشف: «صخر هيباتيا»، في شرف الفيلسوفة اللاتينية التي عاشت في الإسكندرية التي تعرف ب «هيباتيا السكندرية» (350 أو 370-415م) والتي لمع اسمها كعالمة رياضيات، إلى جانب كونها كانت تقوم بتدريس الفلسفة وعلم الفلك. ويعد موتها حدا فاصلا بين حياة فكرية عقلية مزدهرة في الإسكندرية وبين تسلط أصحاب الفكرة الواحدة.
الفصل السادس
أخطار النيازك بين الحقيقة والخيال
في 30 نوفمبر 1954م، سقط نيزك حجري، يزن حوالي 3,8كجم على مدينة «سيلاكاوجا»، بولاية «ألاباما»، الولايات المتحدة. واخترق سقف المنزل، وسقف الحجرة، وسقط على ساق السيدة «هيوليت هوجيس»، التي كانت تجلس على أريكتها في حالة استرخاء، بعد تناول وجبة الغداء، فأحدث لها جرحا بسيطا. ***
تسقط النيازك على سطح الأرض - كل الأرض - بطاقة عالية. ولو صادف أن ضرب نيزك جسم إنسان، فسوف يحدث به إصابات خطيرة قد تودي به، لكن احتمال أن يصيب النيزك الساقط إنسانا في طريقه احتمال ضعيف جدا، ولم يتكرر حدوثه رغم سقوط النيازك المتكرر على سطح الأرض. وبعملية إحصائية بسيطة يتبين أن أجسام الناس (العرضة للخطر)، تشغل حيزا ضئيلا من مساحة سطح الأرض . فعلى سبيل المثال، من خلال دراسة عدد النيازك الساقطة على الأرض، والمساحة التي يشغلها السكان في الولايات المتحدة؛ تبين أن احتمال أن يصاب أحد من سكان الولايات المتحدة بنيزك ساقط احتمال ضئيل جدا، وقد يحدث مرة واحدة كل 100 سنة.
نيزك «بيكسل» الذي سقط على إحدى السيارات في عام 1992م.
ورغم وجود عدد من الروايات التي تتحدث عن قتل وإصابة بعض الأفراد من جراء سقوط النيازك، إلا أن هذه الروايات لم تلق القبول من قبل المحققين بصفة عامة. ولم يثبت بصفة قاطعة أن النيازك قتلت أحدا من الناس، لكن هذا لا يعني أن احتمال سقوط نيزك على أحد الأفراد فيقتله احتمال غير قائم. فهناك روايات موثقة، عن إصابة بعض الناس من سقوط النيازك. ففي 30 نوفمبر 1954م، سقط نيزك حجري يزن حوالي 3,8كجم على مدينة «سيلاكاوجا»، بولاية «ألاباما»، الولايات المتحدة. واخترق سقف المنزل، وسقف الحجرة، وسقط على ساق السيدة «هيوليت هوجيس»، التي كانت تجلس على أريكتها في حالة استرخاء بعد تناول وجبة الغداء، فأحدث لها جرحا بسيطا. وفي عام 1992م، سقط نيزك يزن حوالي 100كجم على هيئة عدد من الأحجار (حوالي 50)، قصفت مساحة تبلغ بضعة كيلومترات مربعة من الأرض، في مدينة «مبال» الأوغندية، ولم يثبت أنها قتلت أحدا من الناس، وإن كان أحدها قد أصاب طفلا صغيرا، ولكن الإصابة لم تكن بالغة إلى حد الأذى، ولكنها أحدثت تلفيات بسيطة في بعض المباني. وفي 26 أبريل عام 1962م، سقط نيزك صغير (يزن 738 جراما) على منزل بمدينة «كيل» الألمانية، وثقب صاج السقف، واستقر على سطح الغرفة أسفل السقف العلوي. وفي عام 1992م، سقط نيزك على منطقة «بيكسل»، بولاية «نيويورك»، وحطم إحدى السيارات. وفي مارس من عام 2003م، سقط نيزك يبلغ قطره 4 بوصات، على منزل المواطن «كولبي نافرو»، بمنطقة «بارك فورست، إليونس» واخترق السقف محدثا فجوة قطرها نفس قطر النيزك، وارتطم بطابعة موجودة على المكتب، وارتد إلى الحائط المجاور، بينما كان صاحب المنزل يعمل على جهاز الكمبيوتر. وصاحب سقوطه سقوط عدد من الأحجار الأخرى، على مواقع متفرقة من المنطقة، أصاب بعضها السيارات والبيوت.
نيزك «بارك فورست» الذي اخترق السقف وأصاب طابعة كمبيوتر في مارس 2003.
بيد أن الخطورة الكبيرة تتمثل في سقوط الكويكبات أو المذنبات على الأرض؛ ففي 30 أكتوبر عام 1937م، اقترب الكويكب «هيرمس» الذي يبلغ اتساعه أو عرضه حوالي 1,6كم، بسرعة 35000كم في الساعة، على مسافة تقدر بحوالي800000كم، وهي مسافة صغيرة بحسب المقاييس الفلكية؛ ومن ثم فقد شكل هذا الحدث خطورة حقيقية على الأرض. فلو ضرب هذا الكويكب الأرض، لتولد عن ارتطامه بها طاقة هائلة، تعادل 100000 الطاقة التي يولدها انفجار قنبلة هيدروجينية، قوتها 1 ميجا طن. ومثل هذه الطاقة تفوق طاقة انفجار مخزون العالم من القنابل النووية. وفي يوم 22 مارس 1989م، اقترب كويكب يسمى «1989 إف سي»
1989 FC ، حتى مسافة 688000كم من الأرض، وهي مسافة صغيرة بالمقاييس الفلكية، ويعبر عن ذلك بأنه «اقتراب خطر». فهذا الكويكب الذي يبلغ عرضه حوالي 800 متر تقريبا، كان من المحتمل أن يهوي على الأرض، مشكلا خطورة حقيقية على كل أشكال الحياة؛ إذ من خلال الدراسات الخاصة بنتائج ارتطام النيازك بالأرض، يتبين أن مثل هذا الارتطام يحدث فجوة يتراوح قطرها من حوالي 8 إلى 16كم، بما يعني أنه قد يمحو مدينة كبيرة من الوجود. والتأثيرات البيئية لمثل هذا الحدث كارثية بكل المقاييس، ويمكن مقارنتها بثورة بركان جزيرة «كاركوتا» في إندونيسيا الذي انفجر في عام 1883م، وأزال الجزيرة من على الخريطة، مخلفا مكانها فجوة عميقة. وتسبب هذا الحدث في إحداث موجات مد بحرية بارتفاع 100 قدم، اندفعت نحو الشواطئ القريبة، لتكتسح في طريقها أكثر من 36000 نسمة، وتقودهم إلى الحتف.
1
إن مثل هذه الأجسام كثيرة جدا في الفضاء، وتقترب على مسافات خطرة من مدار الأرض، مما يعني إمكانية دخولها جو الأرض؛ ومن ثم انفجارها في الجو أو ارتطامها بالأرض، فيتسبب عنها تأثيرات كارثية على كل أشكال الحياة. وفي يناير عام 1993م، أعلنت وكالة الفضاء والطيران الأمريكية «ناسا»
NASA ، أن عدد الأجسام التي تجتاز مداراتها مدار الأرض، يتراوح من 1000 إلى 4000، يبلغ حجم الواحد منها 800 متر تقريبا. وأن اصطدام واحد منها بالأرض كفيل بأن يعود بالحضارة الإنسانية آلاف السنين إلى الوراء. والجهل بموضوع النيازك الضخمة كفيل أيضا بإشعال حرب نووية بين الدول. وتخيل أن جسما بهذه المواصفات - على حين غرة - طاف بالمجال الجوي لدولة نووية، فظنت أن دولة نووية معادية شرعت في قصفها، فردت على الفور بنفس الأسلوب!
لقد أدت دراسات النيازك إلى فهم الخطر الداهم الذي تمثله النيازك العملاقة على الأرض؛ ومن ثم شرعت حكومات الدول المتقدمة في تدشين شبكة من المراصد العملاقة في مواقع مختلفة من العالم، أطلق عليها حارس الفضاء
Sky Keeper ، لرصد وتسجيل حركات الأجسام التي تقترب مدارات دورانها من مدار الأرض. وفي نفس الوقت يفكر الباحثون في وسائل إبعادها عن مدار الأرض، بما في ذلك قصفها في مداراتها، وتفتيتها لتسقط على هيئة أجسام صغيرة قليلة الخطورة. ويفكر البعض في القيام بعملية القصف باستخدام قنابل يتم تطويرها خصيصى لهذا الغرض، لكن يجابه مجرد التفكير في عملية القصف بالقنابل معارضة شديدة من قبل الباحثين؛ لما يشكله هذا العمل من خطورة على البيئة الفضائية من تلوث. ويطرح البعض أفكارا متباينة عن وسائل إبعاد الأجسام الخطرة عن مدار الأرض. ومن بين الأفكار المتداولة في هذا المجال، قيام صاروخ بإلقاء شراع شمسي على الجسم المطلوب إبعاده، يكون من مهمته تصيد الجسيمات التي تحمل الشحنات المنبعثة من الشمس، وتسليطها عليه لدفعه بعيدا. وفي الواقع إن كل ما طرح في هذا السياق مجرد أفكار على الورق؛ فالعالم لا يملك قنبلة قوتها قادرة على تحطيم جسم عملاق من هذه الأجسام بعيدا كل هذه المسافة عن الأرض، ولا الشراع الشمسي، الذي يمكن أن يقوم بهذه المهمة، أمكن تصميمه ليؤدي الغرض المطلوب، لكن ما حققته وكالة الفضاء والطيران الأمريكية «ناسا»، في يوليو من عام 2005، من تسديد قذيفة (عبارة عن كبسولة) أطلقتها مركبة الفضاء «ديب إمباكت» أصابت المذنب «تمبل-1» (على بعد حوالي 133 مليون كم من الأرض)، وأحدثت فجوة فيه؛ يعد خطوة على هذا الطريق. ورغم أن الهدف المعلن هو الكشف عن تركيب المذنب الداخلي، وليس تدميره، لكن تمكن المركبة من إصابة المذنب، الذي كان يبعد عنها بحوالي 500كم، يشكل نجاحا كبيرا في عملية الرصد الدقيق لهذه الأجسام، والتعامل معها من هذه المسافات البعيدة.
ومع ذلك لا يخلو الحديث عن أخطار النيازك من مبالغات كبيرة.
الفصل السابع
من أين تأتي النيازك؟
«وقد تتكون أنواع من الحجارة من النار إذا أطفئت، وكثيرا ما يحدث في الصواعق أجسام حديدية وحجرية بسبب ما يعرض للنارية أن تطفأ، فتصير باردة يابسة.» (ابن سينا) ***
لا شك أن هذا السؤال راود الإنسان قديما جدا في التاريخ، ومنذ أن شاهد أول مرة هذه الأجسام الصلبة الغريبة التي تسقط على الأرض من أعلى. ولا شك أيضا أن آراء الناس تباينت تباينا كبيرا حول مصادر هذه الأجسام الصلبة، التي تسقط عليهم من السماء. وفي الفصل الأول من هذا الكتاب تمت مناقشة الخلافات حول ظاهرة الأحجار من السماء، ما بين التصديق والإنكار. وعندما يثار السؤال: من أين تأتي النيازك؟ فإنما يقصد به: من أين تأتي النيازك من الأجرام السماوية؟ إذ بعد حسم الخلاف لصالح الاعتراف بوجود الأجسام الصلبة التي تسقط من السماء، بدأت «الأوساط العلمية» المهتمة بالظواهر الطبيعية، مع بداية القرن التاسع عشر، تناقش بقوة في محافلها مسألة أصل النيازك، وظهرت بهذا الخصوص، بين أوساط المتعلمين والمثقفين والفلاسفة، آراء متباينة غاية التباين. وممن تشيعوا لأصل النيازك السماوي، الفلكي الفرنسي الشهير «لابلاس»
Laplace ، حيث قدم فرضية أن الأجسام الصلبة، التي تشاهد ساقطة على الأرض بين الحين والآخر، تأتي من القمر؛ حيث تدفعها ثورات البراكين القمرية بقوة تمكنها من الإفلات من جاذبية القمر. ويمثل هذا الرأي جذور الفرضية السائدة الآن، التي ترى أن بعض النيازك تأتي من صخور سطح القمر. وقد دعم هذا الفرض آنذاك اثنان من أبرز علماء ذلك العصر هما «بيت» و«بوسين»؛ حيث قدما براهين رياضية تثبت فرضية إمكانية اندفاع الصخور من سطح القمر، وسقوطها على الأرض. وقد ساد أيضا رأي يرى أنها تنشأ من الشمس؛ حيث يظن أنصار هذا الرأي أن النيازك تمثل أجزاء من باطن قلب صلب موجود في مركز الشمس، تندفع بقوة كبيرة كافية لأن تجعلها تترك هذا الجسم الملتهب. وواجه هذا الرأي معارضة قوية من قبل الباحثين، الذين يرون عدم وجود قلب صلب للشمس، وحتى في حالة وجوده، فإن أي جسم صلب يندفع منه سوف يتبخر كلية، في نطاقات الشمس العليا حيث الحرارة العالية؛ وبالتالي فإن أي جسم صلب سوف يتبخر قبل أن يكمل هروبه من الشمس، ولكن للالتفاف على هذا الاعتراض، ادعى أصحاب فرضية الأصل الشمسي للنيازك، أنها تترك الشمس على هيئة مواد غازية تتكاثف في الفضاء بطريقة ما، مكونة هذه الأجسام الصلبة التي تسقط على الأرض فيما يعرف بالنيازك. ومن هذه النقطة تحديدا، نعود إلى الوراء مئات السنين؛ حيث كان ابن سينا يرى أن النيازك تتكون نتيجة لبرودة النار، حيث يذكر في كتابه «الشفاء»، وفي معرض حديثه عن طرق تكون الأحجار: وقد تتكون أنواع من الحجارة من النار إذا أطفئت، وكثيرا ما يحدث في الصواعق أجسام حديدية وحجرية بسبب ما يعرض للنارية أن تطفأ، فتصير باردة يابسة.
1
وعموما فإن الآراء السائدة الآن بخصوص مصادر النيازك، التي اكتسبت قبولا علميا من خلال تطور الدراسات وتراكم البيانات عن النيازك، تحدد مصادر النيازك في حزام الكويكبات الموجود بين المريخ والمشتري، وفي المذنبات، التي توجد في مكان قصي من المجموعة الشمسية، خلف مدار كوكب بلوتو، وفيما يعرف بغيمة «أورت». وقد ظهرت حديثا نسبيا دراسات تشير إلى أن المريخ والقمر يدخلان ضمن المصادر المحدودة للنيازك. (1) الكويكبات
يطلق تعبير «كويكبات» على الأجسام الصغيرة نسبيا، التي توجد في المجموعة الشمسية، بين كوكبي المريخ والمشتري. ويطلق على النطاق الذي تجري فيه هذه الكويكبات تعبير «حزام الكويكبات». ويرى البعض أن الفضل في اكتشاف حزام الكويكبات يرجع إلى باحث فلكي ألماني يدعى «بود»
Bode ، في نهاية القرن الثامن عشر؛ حيث قام بعمل قاعدة رياضية يمكن من خلالها استنتاج المسافات الفاصلة بين الشمس وكواكبها. وقد سميت هذه القاعدة بقانون «بود»
Bode’s Law . ويبدأ قانون «بود» بالصفر ثم العدد ثلاثة، ثم ضعفها، ثم ضعف الضعف. إلخ. [0، 3، 6، 12، 24، 48، 96، 192، 384]. وبإضافة العدد 4 إلى هذه الأعداد ينتج [4، 7، 10، 16، 28، 52، 100، 196، 388].
2
وبقسمة هذه الأعداد على 10، ينتج عن ذلك بعد الكواكب من الشمس، مقدرة بالوحدة الفلكية (93 مليون ميل أو حوالي 150 مليون كم). وتقارب الأبعاد المقدرة من خلال هذه القاعدة، المسافات الحقيقية للكواكب من الشمس، لدرجة كبيرة، فيما عدا كوكب نبتون، الذي يقع في منتصف المسافة بين أورانوس وبلوتو، ولكن نشأ عن هذه القاعدة في الاعتبار، تركيز اهتمام الباحثين على الفجوة الكبيرة في المسافات، الموجودة بين كوكبي المريخ والمشتري، أي عند البعد الذي يمثله الرقم 8,2 وحدة فلكية؛ إذ لا يوجد كوكب معروف عند هذه المسافة من الشمس. وهذا ما لفت انتباه «يوهانس كيبلر»
Johannes Kepler (1571-1630م) من قبل، فافترض وجود كوكب مجهول بين المريخ والمشتري.
ويعتبر قانون «بود» بمثابة تجديد العزم على إعادة بحث هذه الظاهرة من جديد؛ فقد نشط العلماء بالفعل في البحث عن هذا الكوكب المجهول. ولم يمض وقت طويل في الحقيقة، حتى اكتشف الإيطالي «جيسي بيازي» في يناير 1801م وجود جسم صغير غريب يتحرك في السماء. واعتبر «بيازي» أن هذا الجسم، عبارة عن مذنب. ولم يعر أحد هذا الكشف أهمية، على اعتبار أن هذا شيء عادي، لكن في وقت لاحق قرر الرياضي الصغير «كارل فردريك جاوس» حساب مدار الجسم الذي سجله «بيازي». ولاحظ «جاوس» أن هذا الجسم يدور في مدار دائري تقريبا، ويبعد عن الشمس بمسافة قدرها 77,2 وحدة فلكية، أي في الفجوة التي وضع فيها «كيبلر» كوكبه الافتراضي، وفي نفس المكان الذي توقع قانون «بود» وجود كوكب. وقد أطلق على هذا الجسم الصغير، الذي يبلغ قطره حوالي 450 ميلا، اسم كويكب «سيرس»
Ceres . ثم توالت عمليات الكشف عن هذه الأجسام. ففي عام 1802م، اكتشف كويكب آخر أصغر من «سيرس»، يبلغ قطره حوالي 300 ميلا، وأطلق عليه اسم «بالاس»، وفي عام 1804م اكتشف كويكب ثالث، يبلغ قطره حوالي 200 ميلا، وسمي «بونو»
، وفي عام 1807م، اكتشف رابع هذه الكويكبات، ويبلغ قطره حوالي 350 ميلا وسمي «فيستا». وانقضت فترة زمنية طويلة نسبيا، حتى اكتشف خامس هذه الكويكبات، وبعد سنتين من اكتشاف الخامس، تم اكتشاف السادس. وفي حوالي عشرين سنة تقريبا (بين 1850-1870م)، بلغ عدد الكويكبات المكتشفة حوالي 100. ثم تضاعف الرقم خلال عشرين سنة، فبلغ 300 كويكب في عام 1890م . وأطلقت عليها مسميات غريبة من كثرتها، حتى سئم العاملون في هذا الحقل من كثرة ما يكتشفون. ويبلغ عدد ما تم تسجيله منها إلى وقت قريب بحوالي 5000 كويكب، تتضمن أجساما صغيرة نسبيا تبلغ أقطارها حوالي 2كم، مثل كويكب «إيكاروس»، الذي اكتشف في عام 1949م، ويبلغ قطره حوالي 2كم فقط. ويحتوي حزام الكويكبات ذاته على آلاف الأجسام الصغيرة، التي لا تزيد أقطارها عن حجم حبات الحصى والرمال.
ومع التسليم بأن «بود» كان له الفضل في وضع موضوع حزام الكويكبات تحت الضوء، إلا أن معرفة حزام الكويكبات ربما تعود إلى المرزوقي (أحمد بن محمد بن الحسن أبو علي المرزوقي، عالم بالأدب من أهل أصبهان (المتوفى في سنة 421ه/1030م))، في كتابه «الأزمنة والأمكنة»، كما سبق الإشارة لذلك في الفصل الرابع.
فالكويكبات - إذن - قطع صغيرة من المادة الكوكبية، متباينة الأحجام، أكبرها «سيرس»، وأصغرها أجسام في أحجام حبات الرمال. وما يزيد قطره منها عن المائة ميل لا يتعدى بضع مئات، بينما الأكثرية منها بين الخمسين والمائة ميل. وهكذا تبدو دقة وصغر هذه الأجسام، مقارنة بالكواكب، خاصة وأننا ننظر إليها بعين من يبحث عن كوكب مفترض، في هذا الموضع الذي تحتله، لكن بمقارنة هذه الأجسام بأخرى، كأقمار بعض الكواكب تبدو أكثر أهمية. فمثلا «سيرس» أكبر في حجمه من «ديوس» و«فوبوس»، قمري كوكب المريخ، وأكثر لمعانا منهما. والأجسام الكبيرة من هذه الكويكبات يبدو أنها كروية الشكل، في حين أن الأجسام الصغيرة يتوقع أنها ذات أشكال غير منتظمة بالمرة، فمنها ما يمكن أن يكون مثلث أو مربع أو مستطيل الشكل. كما أن بعضها يمكن أن تكون له زوائد مدببة وحادة.
وهذه الكويكبات المختلفة الأحجام موزعة فيما يمكن أن يطلق عليه تسهيلا تعبير حزام كبير حول الشمس. وتبدأ منطقة هذا الحزام، بعد مدار كوكب المريخ، وتمتد حتى ما بعد مدار المشتري.
3
وليس لهذا الحزام مدار خاص يدور فيه حول الشمس؛ فكل واحد من هذه الكويكبات له مداره الخاص، الذي يدور فيه حول الشمس. وفي واقع الأمر لا يوجد حزام واحد، وإنما عدد كبير من الأحزمة، يفصلها عن بعضها البعض مناطق تخلو تماما منها. كما أن كثافة هذه الكويكبات في الحزام الواحد ليست بالكبيرة، إلى الحد الذي يعوق المروق من بينها بسهولة ودون خطورة التصادم بها.
وعلى الرغم من أن أغلب هذه الكويكبات يدور في مدارات منتظمة (كل فرد له مدار خاص به منتظم)، دون انحراف أو تغيير، بحيث يمكن حساب وتحديد مواقعها في المجموعة الشمسية بدقة كبيرة، إلا أن مداراتها تختلف عن بعضها البعض. كما أن بعض هذه الأجسام، قد يدور في مدارات يقترب من خلالها من مدار الأرض والكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية. وهو ما يشكل خطورة كبيرة على الحياة على الأرض. وقد أكدت الحسابات الفلكية، التي أجريت على مدارات هذه الكويكبات، أن أغلبها يقع داخل مدار المريخ وليس خارجه. ولعل هذا الأمر يكون مفيدا، في توقع حدوث عدد كبير من التصادمات، بين هذه الأجسام وبين المريخ. فهل هذا ما يحدث بالفعل؟ وهل إن كان ذلك صحيحا، يمكن أن يستفاد منه في تفسير التغيرات الفجائية، التي توجد على هذا الكوكب؟
إن اقتراب كويكب من كواكب المجموعة الشمسية الداخلية، ومروره على مسافة صغيرة منه، قد يؤدي إلى التصادم. ولتوضيح الأمر أكثر، لو مر كويكب قريب من مدار الأرض، ودخل في نطاق غلافها الجوي، فسوف تتقلص سرعته بدرجة كبيرة من جراء عملية الاحتكاك التي تتم بينه وبين مكونات غازات الغلاف الجوي للأرض، ليأخذ مدارا جديدا قد يقوده إلى التصادم بالأرض، بدلا من العودة ثانية إلى موضعه المعتاد ضمن ما يسمى حزام الكويكبات.
أصل الكويكبات
شغل السؤال: ما هو مصدر وأصل الأجسام التي تدور في حزام الكويكبات، بين المريخ والمشتري؟ شغل أذهان الباحثين فترة طويلة من الزمن. وفي إيجاز، ودون الخوض في كثير من التفاصيل، يمكن إجمال الفروض والآراء، التي سيقت بشأن مصدر وأصل الأجسام التي تشكل حزام الكويكبات، في فرضيتين أساسيتين؛ الفرضية الأولى يطلق عليها فرضية «الكوكب المنفجر»، ترى أن هذه الأجسام تمثل بقايا كوكب كان يجري في مدار حول الشمس، بين كوكبي المريخ والمشتري، شأنه في ذلك شأن كواكب المجموعة الشمسية الأخرى، لكن لأسباب متباينة، من بينها جاذبية المشتري القوية، التي تسبب اضطرابات معروفة، فقد تفلق ذلك الكوكب وتمزق، وانفجر تماما، وتطايرت مكوناته، لتشغل نفس المكان الذي كان يشغله الكوكب الأم الذي انفجر. إن أهم ما يعضد هذه الفرضية وجود النيازك الحديدية بين النيازك المتساقطة على سطح الأرض؛ فالنيازك الحديدية تتكون من سبيكة من الحديد-نيكل. وهذه المادة يتوقع أنها تشكل قلب الأرض. وقياسا على ذلك، فإن الكوكب كان شبيها بالأرض، ولما انفجر تحرر قلبه الحديدي، على شاكلة هذه الأجسام التي تدور في نفس مداره، ويسقط بعضها على الأرض في صورة نيازك حديدية. كما أن وجود أنواع من النيازك تعرف بالنيازك الحجرية، والنيازك الحديدية-الحجرية، اعتبر من قبل بعض الباحثين دليلا آخر على تمثيل صخور من القشرة ومن الوشاح لهذا الكوكب. ومن أهم الاعتراضات على هذا الرأي عدم معرفة الظروف التي تؤدي إلى تكون كوكب في هذا المكان، وكذلك عدم فهم الظروف التي تقود إلى تفجره. ومن بين الاعتراضات أيضا أن جاذبية المشتري، لا تسمح بوجود كوكب في هذا المدار. كما أن الوضع الحالي لحجم الكويكبات يفيد أنها أقل كثيرا من أصغر الكواكب. فلو جمعت شظايا الكويكبات في جسم واحد، لكان صغيرا جدا مقارنة بالكواكب الأخرى. ويغيب عن موجهي هذا الانتقاد أن الوضع الحالي للكويكبات لا يعبر حقيقة عن وضعها الأصلي؛ إذ من الطبيعي أن الكويكبات كانت في الماضي أكثر عددا من عددها الحالي؛ فالكثير منها سقط في براثن الكواكب الأخرى، وصار نيازك. كما أن بعضها ربما يكون توابع للكواكب الأخرى، كأقمار المريخ، والمشتري، وحتى الكوكب زحل، فإنه يمتلك جاذبية كبيرة تمكنه من أسر بعض الكويكبات كتوابع أو أقمار، ولكن قد يكون الجسم الذي تشظى في هذا المكان كان مجرد تابع (قمر) للمشتري، أو تابع للمريخ، أفلت من أي منهما، فكان جزاؤه التشظي والتفتت على هذه الشاكلة.
والفرضية الأخرى، التي تعرف بفرضية الكوكب غير المكتمل، يرى أصحابها أن أجسام الكويكبات تمثل بقايا سحابة غازية تجمعت في هذا المكان، لكن لم تكن الظروف مواتية لها لتتكاثف على صورة كوكب كبير مكتمل، مثل بقية كواكب المجموعة الشمسية الأساسية المعروفة؛ ومن ثم تكاثفت على هيئة جسيمات وأجسام متفاوتة الأحجام، هي تلك الموجودة الآن، في هذا الموضع على صورة ما يعرف بالكويكبات. ربما يكون موضع الكويكبات، بين المريخ والمشتري، أي عند الحد الفاصل بين الكواكب الأرضية (التي لها قشرة صلبة؛ عطارد - الزهرة - الأرض - المريخ)، والكواكب الغازية (المشتري - زحل - أورانوس - نيبتون) ربما يعني أنها بالفعل تمثل جزءا من السحابة الغازية الذي لم يتمكن من التكاثف على هيئة كوكب كبير، لكن وضعية الموضع، لا تعني شيئا، فبلوتو الكوكب الأبعد عن الشمس، كوكب صلب.
فرضية جديدة
لا تفسر الفرضيتان السابقتان الاختلافات الكبيرة بين الأجسام التي تدور الآن في حزام الكويكبات، من حيث تنوع التركيب الكيميائي، والمعدني، والتراكيب الداخلية، واختلاف الأعمار؛ فبعض هذه الأجسام من المذنبات، كما يرى بعض الباحثين، جاءت من خلف بلوتو، حيث غيمة «أورت»، واستقرت في هذا الموضع؛ ومن ثم يرى المؤلف أن الأجسام، التي تشكل حزام الكويكبات والتي يتساقط بعضها على الأرض على صورة نيازك، يمكن أن تكون نتاج تجمع الشظايا والكسرات، التي تتطاير من مختلف أنواع الأجسام، التي تشكل المجموعة الشمسية. أي أن الكويكبات تشكلت من تجمعات كسرات من أعضاء المجموعة الشمسية، تأتي من مصادرها وتتمركز في هذا المكان لظروف خاصة، منها أن هذا المكان بمثابة هوة في المجموعة الشمسية، تهوي إليه الأجسام الشاردة من كواكبها وأقمارها ومذنباتها. وربما يعني هذا أيضا أن النيازك التي يرى الباحثون أنها نيازك قمرية أو مريخية، والتي اكتشفت ضمن النيازك التي عثر عليها على الأرض، سقطت أولا في حزام الكويكبات، وظلت فترات زمنية تدور في هذا المدار الذي تشغله الكويكبات، ثم سقطت على الأرض، بحكم أن حزام الكويكبات هو الموضع الوحيد الذي تسقط منه الأجسام السماوية على الأرض. أي أنه لا يسقط شيء من المريخ على الأرض مباشرة، وإنما تسقط الأجسام التي تنفصل بطريقة أو أخرى من سطح المريخ، داخل حزام الكويكبات، ثم تسقط على الأرض شأنها شأن بقية الأجسام الموجودة في حزام الكويكبات.
4
وسوف يتم في المستقبل القريب مناقشة هذه الفرضية الجديدة، وتبيان أوجه القوة والضعف فيها في مقابل الفرضيتين الأخريين.
الكويكبات والنيازك
يولي الباحثون في مجال النيازك اهتماما خاصا للكويكبات. وقد أسفر هذا الاهتمام عن رصد عدد كبير منها وتحديد مداراتها، حيث بلغ عدد الكويكبات، التي حددت مداراتها، حوالي 3500 كويكب. ولعل هذا الاهتمام بالكويكبات مصدره أنها مصدر رئيسي للنيازك؛ فقد تقترب الكويكبات الكبيرة بذاتها من الأرض، أو الكواكب الأخرى وتتصادم معها؛ وبالتالي فإنها تعتبر نيازك. وهناك عدد غير قليل من الكويكبات يدور في مدارات خطرة، أي قريبة من الأرض، مما يزيد من احتمال ارتطامها بالأرض، وهو ما دعا الباحثون لإقامة شبكة من المراصد موزعة في أماكن مختلفة من العالم، لرصد هذه الأجسام، تمهيدا لاتخاذ التدابير اللازمة لتقليل مخاطر ارتطامها بالأرض. أو قد تحدث اضطرابات في مدارات الكويكبات ذاتها، من تأثير جاذبية كوكب المشتري، فيشذ بعضها عن مساراته الآمنة، ويأخذ طريقه نحو الأرض. أو قد تؤدي التصادمات التي تقع بين الكويكبات إلى تعديل مساراتها الآمنة، فتلقى في مدار يقودها نحو الأرض.
وتعتبر الأجسام الصغيرة من الكويكبات - التي تنشأ أساسا من عمليات تشظي الكويكبات الكبيرة، وتفتيتها - تعتبر المصادر المباشرة للأجسام الساقطة على سطح الأرض. والأجسام الصغيرة من الكويكبات قد تكون موجودة بالفعل منذ تكون الكويكبات ذاتها (بأي صورة أو بأي عملية من العمليات المفترضة لتكون الكويكبات)، أو تنشأ من عملية التصادمات التي تحدث بين الكويكبات الكبيرة، وتؤدي إلى تشظيها وتفتيتها إلى أجسام صغيرة الحجم، وتدفعها أيضا إلى الدوران في مدارات مختلفة ومغايرة لمداراتها الأصلية؛ ومن ثم فقد تقودها إلى الاقتراب من مدارات الكواكب الأخرى، التي من بينها مدار الأرض، مما يجعلها تسقط على هيئة الأجسام الصغيرة نسبيا، التي تشكل الغالبية العظمى من النيازك الساقطة على سطح الأرض.
وقد ثبت بالفعل أن بعض النيازك تأتي من حزام الكويكبات؛ ففي الخمسينيات من القرن الماضي، تمكن الباحثون من تحديد مدارات بعض النيازك الساقطة على الأرض بدقة، من خلال عمليات تسجيل ومراقبة الكرات النارية المصاحبة لسقوط ثلاثة نيازك مختلفة؛ هي: «بيربرام»، الذي سقط على أراضي جمهورية التشيك، و«لوست سيتي»، الذي سقط بالولايات المتحدة، و«إننسفير»، الذي سقط على كندا، بواسطة آلات تصوير. وقد ثبت أن مدارات هذه النيازك - التي تنتمي إلى نوع النيازك الحجرية الكوندريتية - تقع ضمن منطقة حزام الكويكبات، التي تتركز بين كوكبي المريخ والمشتري. وبعد ذلك بفترة حلل الباحثون البيانات التي أدلى بها راصدون مستقلون لنيزكين آخرين من نيازك الكوندريت أيضا، هما «فارومينجتون»، الولايات المتحدة، و«داجالا»، الهند، أن مداراتهما تقع في حزام الكويكبات.
5
وتتوافق ظاهرة وجود مصادر نيازك الكوندريت ضمن حزام الكويكبات، مع فرضية أن حزام الكويكبات يمثل بقايا السحابة الغازية، التي تخلقت منها بقية الكواكب الأخرى. فهذه البقايا لم تتمكن من أن تتطور على هيئة جرم كبير، من تأثير جاذبية المشتري القوية؛ ومن ثم تجمعت في أجسام صغيرة ظلت على حالها منذ أن تجمعت (4,7-5 بليون سنة تقريبا). أي أنها تمثل المادة الأولية، التي تطورت منها الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية. وهذا يتوافق مع طبيعة وعمر غالبية نيازك الكوندريت.
وتطورت منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي عمليات دراسة الكويكبات، من خلال تطور عمليات تحليل أطياف الضوء المنعكس من على أسطحها. ومكن هذا النوع من الدراسة، الباحثين من معرفة مكونات الكويكبات الكيميائية؛ ومن ثم تصنيفها إلى عدد من الأنواع التي تختلف في محتواها الكيميائي، عادة ما يشار إليها في المراجع العلمية برموز مختصرة، مثل: نوع «إم»، ونوع «إس»، ونوع «سي». فقد دلت دراسات تحليل أطياف الضوء المنعكسة من أسطح النوع «إم» من الكويكبات، أنه يتكون من سبيكة فلزية من الحديد-نيكل، تماما كالنيازك الحديدية؛ ومن ثم اقترح أنه المصدر الأساسي لهذه النوعية من النيازك، وكويكبات النوع «سي»، تبدو غامقة اللون، لا ينعكس شيء من الضوء الساقط على أسطحها؛ ومن ثم فقد فسرت على أنها تتكون من مواد كربونية، يمكن أن تكون مصدرا لنوع مميز من النيازك يطلق عليه نيازك كربونية. وتبدو كويكبات النوع «إس» على أنها مكونة من مواد مختلفة ومتنوعة، مما حدا بالباحثين إلى اعتبارها مصدرا لبعض أنواع النيازك الكوندريتية والأكوندريتية، على حد سواء. ووجد أن كويكبا من كويكبات النوع المسمى «إس»، أطلق عليه تسمية خاصة، هي: «هيب-6»
Hebe-6 ، [التسمية مشتقة من اسم «الإلهة» اليونانية «هيب» ربة الحيوية والشباب الدائم] يتشابه في خواصه العامة مع مجموعة من نيازك الكوندريت التي يطلق عليها مسمى: مجموعة النيازك الكوندريتية الشائعة.
والأهم في هذا المجال الكويكب المسمى «فيستا»
Vesta ، الذي يبلغ قطره حوالي 350 ميلا (560كم)، ويعد أكبر كويكب في النظام الشمسي؛ فقد وجد أن هذا الكويكب يتشابه في الخصائص العامة مع الكواكب الأرضية (الزهرة، المريخ، الأرض)، من حيث كونه نطاقي التركيب، أي أنه يتكون من قشرة صخرية علوية خفيفة المكونات، ووشاح من مكونات ثقيلة، وقلب من مكونات أثقل (يبدو أنه يتكون من سبيكة من الحديد-نيكل). فقد أثبتت الدراسات أن أغلب أنواع نيازك الأكوندريت (غير الأنواع المريخية والقمرية) مشتقة من الكويكب «فيستا». ويبدو أن هذا الكويكب تعرض، في الأزمنة الغابرة وعند منطقة قطبه الجنوبي، لعملية صدمة من جرم سماوي آخر هائل، أحدثت فيه فجوة ضخمة يبلغ قطرها 460كم، وعمقها 30كم، كما كشفت عنها دراسات الاستشعار عن بعد، التي تركزت عليه. ومع أن مثل هذه الدراسات لا يمكن أن تكون صحيحة بنسب عالية، إلا أنها تعد - في الوقت الراهن على الأقل - بمثابة تفسير للظواهر التي تميز سطح هذا الكويكب. وترى هذه الدراسات أن الصدمة التي حدثت أدت إلى تناثر شظايا - من صخور قشرة الكويكب، مختلطة مع الصخور البازلتية التي تكون وشاحه العلوي - في الفضاء مكونة ما يمكن أن يطلق عليه أحزمة من الشظايا الصخرية، تجري الآن على هيئة حزام من الشظايا المختلفة الأحجام، يطلق عليها بعض الباحثين «فستويد»، نسبة إلى الكويكب الأم «فيستا». وبعض شظايا هذه الحزم «الفستويدية» يدور في مدارات قريبة من مدار الأرض، وبعضها يتساقط على الأرض بالفعل، في صورة نيازك، تنتمي للنيازك الحجرية الأكوندريتية، غير تلك التي ترى الدراسات أنها مشتقة من كوكب المريخ أو من القمر؛ فقد وجد أن مجموعة من نيازك الأكوندريت يطلق عليها اختصارا تسمية مجموعة نيازك ال
HED ، التي تعني «هورديت» و«يوكريت» و«ديجونيت» لها خواص طيفية مميزة، تتشابه لدرجة كبيرة من خصائص طيف الضوء، المنعكس من على سطح الكويكب «فيستا»؛ ومن ثم فقد اعتبر أنه مصدر لها.
تعدين الكويكبات
إلى جانب مكوناتها المعدنية الفريدة، وما تحوي بعض هذه الأجسام من ثروات طبيعية، قابلة للاستخدام المباشر (خاصة تلك التي تتكون من سبيكة طبيعية من الحديد-نيكل)، تمتاز الكويكبات بوضعية فريدة في المنظومة الشمسية؛ فهي أجسام سائبة تسبح في الفضاء. وهذا يجعل من تعدينها أمرا سهلا بالنسبة للإنسان. فلو أراد الإنسان تعدين سطح القمر أو المريخ، لكان لزاما عليه أن يحفر لأعماق بعيدة أسفل القشرة الصخرية، ثم يحتاج إلى طاقة كبيرة، ليدفع ما حصل عليه من معادن، بعيدا عن جاذبيتها ليعود بها إلى الأرض. أما تعدين الكويكبات، فلن يتطلب كل هذه الاحتياطيات. فكل ما هو مطلوب أن يصل الملاحون إلى هذه الكويكبات، ويسبحوا معها، ويحددوا مكوناتها، وما الأجزاء الثمينة منها بالنسبة لحاجة الإنسان، ويفتتوها إلى أجزاء أصغر، ثم يدفعوها إلى الأرض.
ولكن هل يحتاج الإنسان كل هذه المعاناة ليحصل على المعادن من هذه الأجسام؟ إن تاريخ الصراع حول الحصول على المعادن يؤيد إمكانية تطلع الإنسان لهذه الأجسام، وتكبده المعاناة من أجل الحصول عليها؛ فالحصول على المواد الخام عبر التاريخ كان ولا يزال وراء أكثر الصراعات الدولية دموية. ويضرب «ألان نورس»
6
مثالا على قيمة المعادن في حياة الإنسان، ومدى استعداده للتضحية من أجلها. فيذكر أنه، لو زار باحث مكانا محددا؛ هو مدينة «دوسون»
Dawson ، في إقليم «يوكون»
Yukon ، فسوف يعرف إلى أي مدى يمكن أن يتحمل الإنسان الصعوبات، من أجل بريق المعادن؛ ففي هذا المكان الذي يبعد آلاف الأميال عن المناطق المعمورة، في منطقة شديدة البرودة في الشتاء، توجد أطلال قرية مدفونة، كانت في يوم من الأيام، ومن سنوات مضت، تعج بالرجال والنساء والأطفال، جاءوا لهذا المكان الصعب، الشديد البرودة ، الشديد وعورة الوصول إليه؛ متعرضين للجوع والمرض والموت، لا يشدهم شيء سوى بريق الذهب، الذي يوجد في تلك الوديان المقفرة. ولو حذا الإنسان حذوهم، لتطلع إلى حزام الكويكبات للحصول على الذهب والبلاتين والحديد والنحاس والكوبلت، لكن الأهم من ذلك كله بالنسبة للوقت الحاضر اليورانيوم. فمع نضوب المصادر التقليدية للطاقة، تزداد قيمة اليورانيوم المادية؛ نظرا لاستخدام الطاقة الذرية بديلا عن المصادر التقليدية؛ ومن ثم فلن يكون مستبعدا، في السنوات القليلة المقبلة، أن يصبح حزام الكويكبات هدفا لبعثات استكشاف تعدينية، تعقبها بعثات استخراج واستغلال الثروات المعدنية، التي تشكل أجسام مكونات هذا الحزام. (2) المذنبات
المذنبات أجسام سماوية عرفها الإنسان منذ أقدم العصور، وبثت في نفسه الرعب والفزع، حيث ظل ظهورها المفاجئ في السماء يخرق فكرة الكون الثابت، التي تخيلها الناس قديما. وفي ضوء المعطيات العلمية الحديثة، تعرف المذنبات على أنها عبارة عن أجسام مختلفة الأحجام، تتركز في تجمع هائل، يعرف بغيمة أورت (نسبة إلى مكتشفها عالم الفلك الهولندي «يان كيندريك أورت»
Jan Kendrick Oort ، الذي توفي في شهر أكتوبر من عام 1992م). وغيمة أورت هذه عبارة عن عاصفة هائلة من الأجسام الكروية، توجد على أطراف النظام الشمسي، بعد مدار كوكب بلوتو.
7
وتتألف هذه الغيمة من حوالي تريليون نواة مذنب. والمذنبات - في الأساس - أجسام كروية، يبلغ متوسط قطر الواحد منها حوالي 1كم. وتمثل مكونات المذنبات - بحسب الفرض السائد الآن - مواد أولية تجمعت على هذا النحو من بقايا السحابة التي تكونت منها المجموعة الشمسية.
ومن خلال عمليات التحليل الطيفي أمكن التعرف على الكثير من خصائص المذنبات وتراكيبها الداخلية، ومكوناتها الكيميائية، من ذرات العناصر وجزيئات المركبات. والمذنب - كجسم - يتكون من رأس أو ذؤابة، وذيل أو ذنب طويل. ويبدو الرأس كالإكليل أو الهالة
Corona . ويتكون رأس المذنب من سحابة كبيرة من الغازات - التي تتوهج عند سقوط ضوء الشمس عليها، فترى على هذه الشاكلة - تحيط بجسم صلب يعرف بالنواة. وفي بعض الأحيان ترى النواة على هيئة نقطة مضيئة منغمسة في الهالة أو الإكليل. وتشكل نواة المذنب، رغم صغرها، الكتلة الأساسية لجسم المذنب . وقد يصل قطر الرأس في بعض المذنبات أكثر من مليون كم. أما الذيل أو الذنب، فهو عبارة عن الجزء الذي يمتد خلف الذؤابة. ويبلغ طول الذيل ملايين الكيلومترات، وفي حالات معينة يكون طوله أكبر من المسافة الفاصلة بين الشمس والمريخ.
وتختلف المكونات الكيميائية للمذنب من الذؤابة إلى الذيل. وعادة ما يتكون المذنب من كثير من المركبات والعناصر الكيميائية، منها الماء والأمونيا، والميثان وثاني أكسيد الكربون. ويتكون الذنب من غازات أو من غبار أو من كليهما. ويمكن تمييز طبيعة مكونات الذنب، من خلال شكله العام أثناء ظهوره للعيان؛ فالذنب الذي يتكون من الغازات، عادة ما يبدو مستقيما خلف الذؤابة، أما الذنب الذي يتكون من الغبار، فيبدو مقوسا أو منحنيا بوضوح خلف الذؤابة.
ويتسبب اضطراب الجاذبية في هذه الغيمة - والذي قد يسببه نجم مار بالقرب من المجموعة الشمسية - يتسبب في دفع بعض المذنبات نحو الشمس، لتدور في مدارات إهليجية، وفترة دوران كبيرة جدا. وبعد أن تطرأ على مساراتها بعض التغييرات، بسبب اقترابها من المشتري أو زحل، تجد نفسها مرة كل قرن تقريبا، متجهة نحو النظام الشمسي الداخلي. وفي مكان ما (بين المريخ والمشتري غالبا)، تبدأ حرارتها في الارتفاع، وتبدأ الغازات والمياه في التبخر، وتتأثر المكونات الصخرية للنواة الصلبة، فتتفكك أو تتشظى، وتتطاير منها أجزاء دقيقة الأحجام. وتدفع الرياح الشمسية ذلك التدفق المستمر من البروتونات والأيونات وغيرها من المواد - التي تندفع بسرعات عالية تقدر بحوالي 1000كم في الثانية الواحدة - تدفع كميات كبيرة من الغبار والجليد خلف المذنب، صانعة ما يعرف بالذيل أو الذنب، بسبب ما تحدثه من تأين لجزيئات الغازات، ودفعها بعيدا عن الشمس. ويمتد الذنب خلف المذنب لمسافات كبيرة جدا، وربما تفوق المسافة بين الكواكب ذاتها. وقد تتخلف بعض مكونات الذنب في المدار الذي سلكه المذنب من قبل؛ ومن ثم فإن تقاطع مدار الأرض، مع ذلك المدار - الذي ترك فيه المذنب حطام ذنبه - يسبب ما يعرف بظواهر الشهب المعروفة، نتيجة لاحتراق الجسيمات الدقيقة في جو الأرض، التي تظهر خلال فترات ثابتة من العام. ففي يوم 30 يونيو من عام 1908م، كان يوم وابل نيازك «بيتا توريد»، المرتبط بمدار مذنب «إنكه». ويذهب بعض الباحثين للاعتقاد بأن حادث «تونجسكا» الشهير، الذي وقع في عام 1908م، وسبب حرق وتدمير مساحات شاسعة من الأشجار في سيبريا، كان سببه قطعة من مذنب «إنكه»، كانت أكبر نسبيا من القطع الأخرى التي تسبب الزخات النيزكية المعتادة.
8
وربما يتوقع البعض دمارا شاملا يحيق بالأرض من المذنبات.
فترة حياة المذنب
من المعروف أن المذنبات تهوي إلى النظام الشمسي، من الحدود الخارجية، وتدور في مدارات بيضاوية. وتستغرق فترات طويلة نسبيا لتتم دورة كاملة، قد تبلغ مائة عام أو أكثر، وربما أقل. والسبب في طول الفترة الزمنية هو مداراتها البعيدة جدا. ويتم قياس الفترة الزمنية للعودة، ببساطة إذا تم قياس مدار المذنب أثناء زيارة واحدة. وعلى العموم، فإن المذنب يدفع ثمنا غاليا، في كل دورة من دوراته داخل النظام الشمسي، تتمثل في فقدانه جزءا كبيرا من مكوناته، فيتقلص حجمه إلى درجة كبيرة. وهكذا مع مرور الزمن، يتمزق المذنب، وتتلاشى مادته تدريجيا. وقد تبتلع الشمس الكثير من المذنبات. كذلك قد تتصادم مع أي من الكواكب الأخرى. ولعل ما حدث في عام 1994م، من تصادم المذنب المعروف بمذنب «شوميخر-ليفي»
Shoemaker-Levy
مع كوكب المشتري، خير شاهد على ذلك. ومذنب «بيلا» الذي شوهد عام 1845م، ومن قبلها عدة مرات، والذي قدر «بيلا» فترة عودته إلى الأرض بحوالي ست سنوات ونصف السنة؛ كانت آخر عودة له في عام 1852م؛ حيث لم يتم العثور عليه بعد ذلك مطلقا. وفي مواعيد عودته المحددة في السنوات: 1872م، 1885م، 1892م، 1899م، ترى بقاياه فقط على هيئة شهب، تعرف بهطول مذنب «بيلا».
ويذهب البعض إلى الاعتقاد بأن أغلب المذنبات تفنى بعد إتمام ما يقدر بحوالي مائة دورة تقريبا حول الشمس. وتضاف المواد التي تكون المذنبات، بعد تفككها، إلى النظام الشمسي، فيتلقى كل كوكب من كواكب المجموعة الشمسية نصيبه من هذه المواد. ويقدر العلماء مقدار ما تطرحه المذنبات من الغبار بحوالي 1000 مليون طن سنويا، تضاف إلى المجموعة الشمسية. ويذهب البعض إلى الاعتقاد بأن المذنبات أسهمت بشكل مباشر في زيادة كميات المياه على أسطح بعض الكواكب؛ فكمية الماء في كل مذنب تبلغ حوالي 100 طن تقريبا. وتترسب هذه الكمية من الماء مع كل تفكك للمذنب، على أسطح الكواكب. ويرى البعض أن الماء الموجود في جو المريخ (على هيئة رطوبة طفيفة، لا تزيد نسبته عن 0,03٪)، مصدره مذنب اصطدم به حديثا. ويرى البعض أيضا أن المياه الأرضية، قدمتها المذنبات والنيازك الساقطة على الأرض في مراحل نشأتها الأولى.
وبعض المذنبات تتطور إلى كويكبات، وتدخل ضمن نطاق حزام الكويكبات، بعدما تكون قد فقدت جزءا كبيرا من الغازات والجليد الذي يحيط بأنويتها، فيتخلف عنها الجزء الصلب الذي يشكل النواة؛ وبالتالي فإنها تشبه الكويكبات. وقد تتطور المذنبات إلى كويكبات. ويتم ذلك بتكون قشرة كثيفة نسبيا من المادة الصلبة، على المذنب من الخارج، تحول دون تأثره بارتفاع درجات الحرارة؛ ومن ثم يشبه المذنب في مثل هذه الحالة الكويكب.
9
أساطير المذنبات
يخرق الظهور المفاجئ والعرضي للمذنبات في السماء فكرة الكون الثابت التي كانت تسيطر على فكر الإنسان على مدى قرون طويلة من الزمان. أما الشكل الغريب الذي تظهر عليه المذنبات من توهج رءوسها، وجرها خلفها ذيولا تمتد مسافات كبيرة، فكان مدعاة لبعث الرعب والهلع في نفوس البشر، الذين نظروا إليها باعتبارها ظاهرة تهدد ثبات الكون، لها تأثيرها المباشر على الحياة الأرضية. لقد تصور الناس قديما المذنبات على أنها لحى طائرة، أو سيوف ملتهبة، أو صلبان معلقة في السماء، أو حزم أشعة وأبواق وجرار؛ ومن ثم فقد أثرت المذنبات في الفكر الإنساني على مدى التاريخ، وأصبحت تعني في كثير من الثقافات سقوط الممالك، وموت الأمراء (وبهذا الخصوص يقول شكسبير: «عند موت متسول لا ترى مذنبا في السماء، بينما تبارك السماء موت الأمراء بظهور المذنبات.») واشتعال الحروب، وتأتي بالطقس الحار، والأحوال المضطربة. وقد أرجع أحد المؤرخين الأعمال القاسية التي كان يأتي بها «نيرون»، إلى تأثير مذنب ظهر في زمانه! وكان الناس يظنون أن المذنبات تمثل في جوهرها أرواح الرجال العظام التي تظهر في السماء بعد موتهم؛ فظن الرومان أن مذنب سنة 44 قبل الميلاد كان يمثل روح «يوليوس قيصر». والبعض تخيلها تمثل أرواح الأشرار التي تنذر البشرية بالخطر. ومن أغرب تفسيرات ظاهرة المذنبات، وأكثرها إثارة للدهشة، تعريف قدمه أسقف «ماجدنبرج» «أندرياس سيليثيوس»، ونشره في كتاب ظهر سنة 1578م بعنوان «تذكير لاهوتي بالمذنب الجديد»، قدم فيه تعريفا للمذنب، اعتبره بمثابة الدخان الثخين للخطايا البشرية المتصاعدة كل يوم وكل ساعة، الذي يصبح أكثر ثخانة فيشكل مذنبا له ضفائر مجعدة مجدولة.
10
مذنب هالي
يعد مذنب هالي واحدا من أشهر المذنبات وأكثرها عناية من قبل الباحثين. وتعود تسمية هذا المذنب باسم مذنب هالي، نسبة إلى اسم الفلكي الإنجليزي «إدموند هالي»، الذي عاصر وصادق العالم الشهير السير «إسحاق نيوتن»، صاحب «قانون الجاذبية» المعروف، حيث كان أول من عكف على دراسة هذا المذنب، أثناء ظهوره في عام 1682م، وخلص في عام 1707م، إلى أن مذنبات عام 1531م، 1607م، 1682م، كانت تكرارا لمذنب واحد، بفترة فاصلة قدرها 76 عاما تقريبا.
11
وتوقع أن يعود المذنب نفسه للظهور في عام 1758م. ويعد ما ذهب إليه «هالي» من أن المذنب سوف يعود ثانية للظهور خلال فترة زمنية محددة؛ يعد نصرا فلكيا منقطع النظير؛ فقد كان «نيوتن» [الذي استفاد هالي نفسه من قانونه] يفضل احتمال أن المذنبات تدور في مدارات مفتوحة حول الشمس، تتضمن رحلة واحدة فقط؛ ومن ثم فقد راهن «هالي» على سمعته العلمية، بزعمه أن المذنب سوف يعود ثانية، وهو ما حدث بالفعل بعد وفاته؛ ومن ثم فقد سمي المذنب باسمه تكريما له، بصفته أول من أثبت أن المذنبات يمكن أن تدور في مدارات مغلقة (على شكل قطع ناقص). وقد تكرر ظهور المذنب بعد ذلك، في عام 1835م، 1910م، 1986م. وسوف يعود ثانية إلى الظهور - إن شاء الله - في عام 2061م.
ومذنب هالي ضيف قديم جدا بالنسبة لسكان الأرض؛ إذ تمت مشاهدته - على ما يبدو - خلال الألف الثانية قبل الميلاد. فأقدم تسجيل لظهور مذنب هالي، ربما يعود إلى عام 240 قبل الميلاد. ويبدو أن هذا المذنب هو الذي ظهر في عام 1057 قبل الميلاد، كما في كتاب الأمير الصيني «هوي نان». ولقد لعب مذنب هالي دورا مهما في تاريخ البشرية؛ فاقترابه من الأرض في عام 66م ربما يكون مرتبطا بقصة السيف الذي ظل معلقا فوق القدس لمدة عام، «لجوزيفوس». وفي عام 1066م شاهد «النورمانديون» عودة أخرى لمذنب هالي. وبما أن المذنب كان على - حد تفكير الناس آنذاك - نذيرا بسقوط مملكة ما، فإنه شجع وسرع بشكل ما غزو «وليم» الفاتح لإنجلترا. وقد ورد ذكر المذنب، بوصفه حدثا مشهودا، في إحدى صحف ذلك الزمان المعروفة باسم: «ذي باييه تابستري». وفي عام 1301م، شاهد «جيوتو»، أحد مؤسسي الرسم الواقعي الحديث، ظهورا آخر لمذنب هالي، وقد أدخله في الصورة التي رسمها لميلاد السيد المسيح. وفي عام 1466م، أثار ظهور المذنب الرعب في أوروبا، لأن المسيحيين خشوا أن يكون نذيرا بانتصار الأتراك، الذين كانوا قد استولوا توا على القسطنطينية. وحتى في العصر الحديث، لم يتوقف الناس عن التخوف والرهبة من ظهور المذنب؛ إذ أثار موعد ظهوره في 1910م الرعب في نفوس الناس، وتوقع البعض نهاية البشرية، لما قد يحدثه من تسمم في جو الأرض. والذي أزكى هذا الشعور لدى الناس، ما كان قد أعلنه الفلكي «وليام هوجنر»، في عام 1868م، من وجود مادة «اليانوجين»، المؤلفة من الكربون والنيتروجين (ك ن). ومن المعروف أن هذه المادة تصنع منها مادة السيانيدات السامة. وهذا الأمر جعل الناس يعتقدون أن تسمما وشيكا سوف يلحق بالأرض، من جراء مرور المذنب بجو الأرض. وعكف الناس على شراء الحبوب المضادة للمذنب.
المذنبات في التراث العربي
رصد العرب ظاهرة المذنبات في مؤلفاتهم الموسوعية (العلمية الأدبية التاريخية)، باعتبارها نجوما أو كواكب تظهر عرضا في السماء ثم تختفي، بوصفها ضربا من الأجسام السماوية، وبوصفها أحداثا جديرة بالاهتمام. ومن اللافت للانتباه أن بعض المؤرخين العرب، صدروا أحداث السنين بظهور المذنبات، فوردت في أهم الأحداث التي حدثت في التواريخ التي يتناولونها بالتدوين، مما يعني اهتمامهم بهذه الظاهرة الطبيعية. ومن تسجيلات المؤرخين العرب لظاهرة ظهور المذنبات، تسجيل حدث ظهور مذنب هالي في أكثر حالات اقترابه من الأرض. وهذا حدث لم تسجله دوريات وحوليات ووثائق الأمم الأخرى. ومن الطريف أن تبدو دورية المذنبات باعتبارها تتحرك وتختفي ثم تعود فتظهر ثانية . ومن بين أهم التعريفات العلمية لظاهرة المذنبات، ما أوردة المرزوقي (أحمد بن محمد بن الحسن أبو علي المرزوقي، عالم بالأدب من أهل أصبهان [المتوفى في سنة 421ه/1030م])، في كتابه الرائع «الأزمنة والأمكنة»، الذي فرغ من تأليفه في 13 جمادى الآخرة سنة 453ه. ففي الباب الثالث والستين، وفي معرض حديثه عن الكواكب، ومواضعها، يعرض تعريفا عمليا دقيقا للمذنبات:
12 «فإن قيل: كيف تميز للعلماء مواضع هذه الكواكب ومقاديرها في سيرها على خفائها وعجز الحس عن إدراكها؟ قلت: أدركوا ذلك في الأزمنة المتعاقبة والدهور المترادفة، فكان أحدهم يقف في عمره مع تفقده البليغ لها على بعض أحوالها، ثم يرسم ما يقف عليه لمن يخلف بعده، وقد شاركه فيما مضى ثم قاس الأخلاف بعدهم قرنا بعد قرن، فوجدوها وقد تقدمت عن تلك الأماكن الأول، وكذلك فعل الأخلاف للأخلاف، وقد ضبطوا تواريخ تلك الأزمنة معتبرين فوجدها تتحرك بأسرها معا حركة واحدة، فتقطع في كل مائة عام درجة واحدة، حينئذ حكموا بما قالوا، فهذه حال هذه الكواكب المسماة ثوابت، إلا كوكبا واحدا، فإنه سيار خلاف سيرها، وخلاف سير السيارات كلها وهو الكوكب الذي سماه المنجمون ذا الضفيرة وذا الذؤابة وهو الذي تسميه العامة كوكب الذنب، وإنما يظهر في الزمان بعد الزمان ولأصحاب الملاحم فيه روايات. فعلى هذا عرف العلماء مواضع هذه الكواكب من الفلك وحكموا بما حكموا في كتبهم من شأنها.»
وفي رواية نقلها بدر الدين العيني (محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد أبو محمد بدر الدين العيني الحنفي [762-855ه/1360-1451م])، في كتابه الموسوعي «عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان» دلائل على ما يمكن اعتباره توصل العرب لفكرة دورية المذنبات، قبل هالي بزمن كبير نسبيا. ففي معرض ذكره لحوادث السنة الرابعة والثمانين بعد الستمائة ، يذكر المؤلف واقعة طريفة تشير إلى بعض المعتقدات التي كانت سائدة لدى الناس حيال المذنبات، وتشير أيضا إلى مفهوم دورية المذنبات، وإن لم تصغ صياغة علمية، فيذكر:
13 «وحدث الشيخ شعبان الهوي قال: حدثني الشيخ شرف الدين السنجاري التاجر السفار قال: كنت بالموصل سنة أربع وثمانين (يشير إلى سنة 684ه) ليلة النصف من المحرم، فظهر كوكب عظيم له ثلاث ذوائب طوال إلى جهة المغرب، فتعجب الناس من ذلك، وكان في الجماعة عماد الدين بن الدهان رئيس المنجمين، فسألوه عنه فقال: هذا الكوكب ظهر في سنة عشرين وأربعمائة، وله ذؤابتان في طول الذي ترونه وأخرى قصيرة جدا، فولد في ذلك التاريخ المستنصر خليفة مصر، فعاش سبعا وستين سنة، وأقام خليفة ستين سنة، ثم ظهر هذا الكوكب في سنة تسعين وأربعمائة، فولد في هذا التاريخ عبد المؤمن صاحب الغرب، فعاش سبعين سنة، وملك خمسين سنة، ثم ظهر هذا الكوكب في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، فولد في هذا التاريخ الناصر لدين الله، خليفة بغداد فعاش تسعا وستين سنة، وأقام خليفة سبعا وأربعين سنة، وها هو قد ظهر في هذا الوقت وذوائبه الثلاث كاملة متساوية، يدل على أنه يولد في هذه الليلة مولود سعيد يملك مصر والشام والعراق، ويعيش ثلاثين وثلاثين وثلاثين، فنظروا فلم يولد في تلك الليلة إلا الملك الناصر محمد بن قلاوون المذكور. قلت: صادف كلامه ذلك ولكنه أخطأ في المدة على ما لا يخفى.» وفي كتاب «شذرات الذهب في أخبار من ذهب»، يسجل المؤرخ الفقيه الأديب أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089ه، بعض الممارسات التي كانت سائدة حيال ظهور المذنبات. ففي معرض تأريخه لأحداث سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، يذكر حادثة ظهور مذنب في سنة 330ه، أشار إليه بكوكب عظيم له ذنب منتشر، وارتبط بظهوره انتشار الغلاء وانتشار الأمراض:
14 «فيها (يشير لسنة 331ه)، كما قال في الشذور وافى جراد زائد عن الحد حتى بيع كل خمسين رطلا بدرهم واستعان به الفقراء على الغلاء. وفي التي قبلها (330ه) ظهر كوكب عظيم ذو ذنب منتشر فبقي ثلاثة عشر يوما ثم اضمحل واشتد الغلاء والمرض.» ويذكر نفس المعتقدات تقريبا في معرض تأريخه لأحداث سنة 458ه:
15 «وفيها كما قال في الشذور ظهر كوكب عظيم كبير له ذؤابة عرضها نحو ثلاثة أذرع وطوله أذرع كثيرة ولبث ليالي كثيرة ثم غاب ثم ظهر وقد اشتد نوره كالقمر وبقي عشرة أيام حتى اضمحل، ووردت كتب التجار بأنه في الليلة الأخيرة من طلوع هذا الكوكب غرقت ستة وعشرون مركبا وهلك فيها نحو من ثمانية عشر ألف إنسان وكان من جملة المتاع الذي فيها عشرة آلاف طبلة كافور، وكانت الزلزلة بخراسان ولبثت أياما فتصدعت منها الجبال وخسف بعدة قرى.» وفي معرض تأريخه لأحداث سنة خمس وثمانين وتسعمائة هجرية، يذكر حادثة ظهور مذنب، وينقل إشارات السيوطي عن ما شاع لدى الناس عند رؤيتهم لهذه المذنبات:
16 «فيها - كما قال في النور - طلع نجم ذو ذؤابة كهيئة الذنب طويل جدا له شعاع ومكث كذلك يطلع نحو شهرين. انتهى. قلت: قال السيوطي، في كتابه حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة ما لفظه: ذكر كوكب الذنب، قال صاحب المرآة: إن أهل النجوم يذكرون أن كوكب الذنب طلع في وقت قتل قابيل هابيل وفي وقت الطوفان وفي وقت نار إبراهيم الخليل، وعند هلاك قوم عاد وقوم ثمود وقوم صالح وعند ظهور قوم موسى وهلاك فرعون، وفي غزوة بدر، وعند قتل عثمان وعلي، وعند قتل جماعة من الخلفاء منهم الراضي والمعتز والمهتدي والمقتدر، وأدنى الأحداث عند ظهور هذه الكواكب الزلازل والأهوال، قلت: يدل لذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه من طريق ابن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس فقال: ما نمت البارحة، قلت: لم؟ قال: طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدخان قد طرق. انتهى ما أورده السيوطي بحروفه.» وفي بعض الحالات يكون ظهور المذنب بشير خير. ومن الأمثلة على ذلك ما أورده ابن كثير (إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي المتوفى سنة 774ه)، في كتابه «البداية والنهاية»؛ إذ يؤرخ حادثة ظهور مذنب ضمن أحداث سنة 448ه، فيذكر:
17 «قال ابن الجوزي: وفي العشر الثاني من جمادى الآخرة ظهر وقت السحر كوكب له ذؤابة طولها في رأي العين نحو من عشرة أذرع وفي عرض نحو الذراع ولبث كذلك إلى النصف من رجب ثم اضمحل، وذكروا أنه طلع مثله بمصر فملكت وخطب بها للمصريين وكذلك بغداد لما طلع فيها ملكت.»
أصل المذنبات
شغل أصل المذنبات ومصدرها الناس منذ القدم. وتعد أهم إشارات علمية، مسجلة عن أصل المذنبات، هي تلك التي تعود للفيلسوف الألماني «إمانويل كانت» [1724-1804م]، والتي يورد فيها: أن المذنبات تتكون بعيدا جدا، وتتألف من جسيمات خفيفة. وقد افترض «كانت» وجود سحابة من المذنبات، تدور حول الشمس، ولكن على بعد كبير منها.
18
ومن الطريف أن يرى الفلكي الهولندي «يان كيندريك أورت»، في خمسينيات القرن العشرين، نفس الرؤية تقريبا التي قدمها «كانت»، منذ القرن الثامن عشر؛ إذ يرى «أورت» أن المذنبات، التي توجد على أطراف المجموعة الشمسية في تجمع هائل يطلق عليه غيمة، تكونت من مادة بقيت أو تخلفت بعد تكون أفراد المجموعة الشمسية الرئيسية.
المذنبات والنيازك
من خلال ما مضى من عرض موجز عن المذنبات، يتبين أنها مصدر من مصادر النيازك، في صور عديدة ومختلفة؛ فقد تهوي المذنبات على الأرض، وتتصادم معها، محدثة ما يعرف بالفوهات النيزكية الضخمة. وهذا الفرض يستند إلى المشاهدات الفعلية للمذنبات، والدليل الواضح على ذلك ما حدث من تصادم شهده الباحثون وسجلوه، للمذنب المعروف بمذنب «شوميخر-ليفي» بكوكب المشتري؛ فقد تحطم المذنب إلى عدد من القطع المتفاوتة الأحجام، ارتطمت بالكوكب تباعا خلال الفترة من 9 إلى 16 يوليو من عام 1994م. وقد خلف ارتطام هذه القطع ندبات واضحة بالكوكب، بلغ عددها حوالي 15 ندبة.
19
ومن الطريف أن بعض المذنبات تنضم إلى حزام الكويكبات، وتصبح أنويتها الصلبة أجساما تسبح في مدارات تقع ضمن مدارات الكويكبات،
20
بعدما تفقد - بالطبع - الغلاف الغازي والجليد الذي يحيط بها؛ نتيجة لارتفاع درجة حرارتها، أثناء اقترابها من الشمس. وهكذا تختلط المذنبات بالكويكبات، لتصبح مصدرا للنيازك شأنها شأن الكويكبات. أو قد تتفكك المكونات الصخرية للمذنبات (الأنوية)، أثناء دورانها في مداراتها خلال النظام الشمسي، وتسقط على الأرض على هيئة أحجار مختلفة الأحجام. ويرى بعض الباحثين أن النيازك الكربونية - على وجه الخصوص - تمثل أجزاء من أنوية المذنبات. كما أن المذنبات تعد مصدرا أساسيا من مصادر الغبار النيزكي، الذي يترسب على الأرض بكميات كبيرة. (3) المريخ
المريخ كوكب من كواكب المجموعة الشمسية، التي يطلق عليها الكواكب الأرضية أو الداخلية، وهي الكواكب التي تشبه كوكب الأرض، من حيث كونها لها قشرة صخرية صلبة، وليست غازية، كما هو الحال في بعض كواكب المجموعة الشمسية الأخرى، والتي يطلق عليها الكواكب الغازية أو غير الأرضية. ويعتبر كوكب المريخ من أقرب الكواكب الأرضية شبها بالأرض، هو وكوكب الزهرة. وهو الكوكب الرابع من حيث البعد عن الشمس (عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ). ويبعد عن الشمس بحوالي 1,52 وحدة فلكية (227940000كم). ويبلغ متوسط قطره حوالي 6794كم. ويدور الكوكب في مدار إهليجي، ويؤثر ذلك على مناخه. وتتفاوت درجات الحرارة على سطح الكوكب من 133 درجة مئوية تحت الصفر في الشتاء، إلى 27 درجة مئوية في أيام الصيف. وللكوكب قمران صغيران هما «ديموس» و«فيبوس»، وله غلاف غازي رقيق، يتألف من غاز ثاني أكسيد الكربون بنسبة تقدر بحوالي 95,3٪، والنيتروجين 2,7٪، والأرجون 1,6٪، بالإضافة إلى آثار من الأكسجين 0,15٪، والماء 0,03٪. ويبدو أن الماء موجود في حالة متجمدة في منطقتي قطبي الكوكب مع ثاني أكسيد الكربون.
21
الظواهر السطحية للمريخ
باستثناء الأرض، فإن كوكب المريخ، يمتاز من بين الكواكب الأخرى، بتنوع واختلاف ظواهره السطحية، من وجود مناطق شاهقة الارتفاع كالجبال، ومناطق منخفضة تشبه الوديان الضيقة الأرضية، ومناطق سهلية منبسطة كبيرة الاتساع. ومن أهم المعالم السطحية للمريخ، جبل «أوليمبوس مونز»، الذي يعد أعلى جبل معروف في كواكب المجموعة الشمسية جميعها؛ حيث يبلغ ارتفاع قمته عن مستوى سطح المريخ حوالي 24كم، ويبلغ متوسط اتساع قاعدته حوالي 500كم مربع. وعلى سطح المريخ منطقة «فاليس مارينيرز»، وبها نظام معقد جدا من التراكيب العميقة الضيقة، يطلق عليها تسهبلا خوانق (إذ تشبه المجاري المائية الجافة القصيرة والضيقة والعميقة)، تشغل مساحة تقدر بحوالي 400كم مربع. وهي تشبه خوانق «كولورادو» وخوانق هضبة الخلف الكبير الجافة، في جنوب غرب مصر. ويوجد على سطحه فجوة كبيرة جدا تسمى «هيلس بلانيتيا»، يبلغ متوسط قطرها حوالي 2000كم، وعمقها حوالي 6كم. ويعتقد أنها تمثل فجوة نيزكية، لكن يجب التحفظ عند قبول مثل هذا التفسير حول أصلها.
وبصفة عامة، فإن الجزء الجنوبي من سطح المريخ، يمتاز بطبيعة مورفولوجية (ظواهر سطحية ) معقدة نسبيا، وعمر زمني قديم. ويتشابه هذا الجانب من جوانب المريخ، إلى حد بعيد، مع طبيعة سطح القمر المورفولوجية. في حين أن غالبية مساحة الجزء الشمالي من سطح الكوكب، تمثله منطقة سهلية منبسطة نسبيا، بسيطة الظواهر المورفولوجية، حديثة العمر نسبيا. ومن هذه الوجهة تحديدا، تتشابه الظواهر المورفولوجية لسطح المريخ كثيرا مع سطح الأرض. فسطح الأرض - كما هو معروف - يمتاز بظهور مكاشف الصخور النارية بطبيعتها المعقدة، في بعض المناطق، وكذا انتشار الصخور الرسوبية، بطبيعتها البسيطة المميزة، على مناطق أخرى. ومن الظواهر المثيرة للانتباه، والجديرة بالتأمل على سطح المريخ، ما أظهرته بعض الصور الفضائية، من أشكال وظواهر يمكن اعتبارها مؤشرا على وجود عمليات التحات (نحر الصخور بالعوامل الطبيعية)، في الصخور التي تغطي جزءا كبيرا من سطح الكوكب. وهذه الظواهر أقرب ما تكون إلى مثيلاتها على سطح الأرض، والتي تنشأ بفعل الرياح والمياه الجارية (الوديان الجافة). وقد جعلت هذه الصور بعض الباحثين يعتقدون أن الكوكب شهد تدفقات مائية على سطحه، في فترة من الفترات، ولكن يرى فريق آخر من الباحثين، أن هذه الظواهر تمثل ثنيات وتشققات في سطح الكوكب، نتيجة عمليات ناشئة من باطنه.
هل توجد حياة على سطح المريخ؟
يتطلع الناس من قديم الأزل إلى المريخ، بوصفه كوكبا يحمل الحياة. وقد سجلوا ظنونهم أو معتقداتهم تلك في الأساطير وقصص الخيال التي كانوا يرددونها. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر (1888م)، أعلن الفلكي الإيطالي «سكياباريلي» نتائج أبحاثه عن شبكة الخطوط والعلامات، التي ترى على سطح المريخ. وقد كانت إشاراته إلى تلك الخطوط مبهمة بطريقة جعلت البعض يفسرونها على أنها قنوات مائية. وهكذا تلقف «برسيفال لويل» تلك الإشارات واعتبرها دليلا ماديا على وجود حياة عاقلة على سطح كوكب المريخ. ومنذ ذلك الوقت شغف الناس بأبحاث المريخ، خاصة تلك التي تتعلق بالحياة. ويبدو أن هناك من يستثمر ذلك الشعور استثمارا جيدا. فمن يكشف عن وجود حياة على المريخ، يمكن أن يتصل بها، في حال كونها حياة عاقلة، ويمكن أن يسخرها في حال كونها مجرد حياة بدائية. وهذا يفسر سر الاهتمام المحموم بدراسة احتمال وجود حياة على سطح المريخ. وسر الهالة الإعلامية التي تحيط بمن يتطرقون لهذا الموضوع، خاصة ولو أشار إشارات - حتى وإن كانت مبهمة - تفيد توقع وجود مثل تلك الحياة. وفي عام 1996م، صاحب إعلان فريق من الباحثين، من وكالة الفضاء والطيران الأمريكية «ناسا»، عن وجود آثار أشكال بدائية للحياة، في ما اعتبروه نيزكا مريخيا، هالة إعلامية كبيرة، انضم إليها الرئيس الأمريكي آنذاك «بيل كلينتون». ولا يمكن الوثوق في غالبية هذه الدراسات؛ فالصخرة التي اعتبرت مريخية، لا يمكن التأكد من كونها كذلك بصورة مطلقة، والأشكال التي بدت على أنها تشبه آثار الحياة البدائية الأرضية (على شكل الكائنات الأرضية وحيدة الخلية)، لا يمكن اعتبارها كذلك بصورة أيضا مطلقة. فهناك من يشكك أصلا في احتمال وجود نيازك مريخية على الأرض، من ضمن النيازك المعروفة. وهناك من يشكك في كون الصخرة، التي درست (مكتشفة في القارة القطبية الجنوبية)، من الصخور المريخية الساقطة على الأرض. كما أبدى العديد من الباحثين تحفظهم، حول دقة ما ذهب إليه الفريق من نتائج، واعتبروها متسرعة، باعتبار أن ما ظنه الفريق بمثابة آثار حياة بدائية، لا يعدو كونه أكثر من تراكيب معدنية عادية.
وفي حقيقة الأمر، يصعب من خلال البيانات المتاحة عن الظروف المناخية السائدة على الكوكب، وطبيعة مكونات غلافه الجوي، تصور إمكانية وجود حياة عليه. وهناك عامل آخر في منتهى الأهمية في هذا الخصوص، وهو التقلبات المناخية المفاجئة التي تجتاح الكوكب؛ فعدم وجود قمر كبير كتابع للمريخ، مثل ما هو الحال بالنسبة للأرض، لا يساعد على ثبات دوران الكوكب حول محوره. وهذا يلعب دورا بارزا في إحداث تغيرات وتقلبات فجائية في مناخ الكوكب، ويجعل ثباتها لفترات زمنية طويلة نسبيا (كما هو الحال بالنسبة للأرض) أمرا نادرا. وهذا من شانه أن يقلل من احتمال ظهور الحياة، أو استمرارها على سطحه. ومع ذلك يعتبر المريخ - في نظر البعض - أكثر كواكب المجموعة الشمسية الأخرى، التي يحتمل قيام حياة عليها.
ويورد عالم الفلك الراحل «كارل ساجان»، بخصوص احتمال وجود حياة من عدمه على كوكب المريخ، قولا بليغا معبرا، في كتابه «الكون»، فيذكر:
22 «وعموما فإن بعض الناس يريدون فعلا أن توجد حياة في المريخ، بينما يريد بعضهم الآخر العكس تماما. وحدثت مواقف متطرفة من كل جانب.» وهذا القول يعبر عن الخلاف الحاد بين الباحثين بخصوص احتمال العثور على حياة على كوكب المريخ، وهو الخلاف الذي يتطور إلى صراع في بعض الأحيان. وعلى العموم، سوف يظل أمر احتمال وجود حياة على المريخ رهن الحصول على عينات صخرية فعلية من سطح الكوكب، بواسطة سفن فضائية تهبط على سطحه، ودراستها دراسات متأنية ودقيقة.
النيازك المريخية
هناك طائفة من النيازك الأكوندريتية التي يرى الباحثون أنها مشتقة من صخور سطح المريخ، وهذه النيازك يطلق عليها «إس. إن. سي»
SNC ، اختصارا لأسماء ثلاث طوائف من النيازك الأكوندريتية هي: «الشبرجوتيت»، و«النخليت»، و«الكاسيجنيت». هذا وقد أضيفت، في الفترة الأخيرة، إلى النيازك المريخية مجموعة أخرى يطلق عليها طائفة «الأورثوبيروكسينيت»، يمثلها نيزك واحد فقط، هو نيزك تلال آلان 100 /84، الذي ثبت أنه مشتق من قشرة المريخ، ولا ينتمي لأي من نيازك المجموعات الثلاث المعروفة.
ومع صعوبة التسليم والقبول بسهولة إمكانية أن يفلت جسم ما، من جاذبية المريخ القوية نسبيا، التي تتطلب أن يندفع الجسم بسرعة تعادل 5كم/ثانية، لا توجد تفسيرات مقنعة، عن كيفية اندفاع هذه الأجسام، ولا عن العمليات الطبيعية، التي يمكن أن تدفع صخورا من قشرة المريخ بهذه السرعة. فهل الانفجارات البركانية التي يمكن أن تحدث على سطح الكوكب قادرة على ذلك؟! لا أحد يعرف الإجابة عن هذا السؤال، وكل ما يثار بهذا الخصوص لا يعدو كونه تكهنات أقرب إلى الخيال. ومن بين الطروحات الغريبة بهذا الخصوص، رأي يرى أن الغازات المتجمدة، هي من بين العوامل التي تدفع قطعا من صخور المريخ، لتطير عاليا ثم تندفع خارج نطاق الجاذبية؛ ومن ثم تترك مدار الكوكب إلى مدار الأرض؛ فالغازات المتجمدة تتخلل السطح وتصل لأعماق كبيرة نسبيا. ثم مع ارتفاع درجة الحرارة، تبدأ هذه الغازات في التبخر، محدثة ما يمكن أن يطلق عليه انفجارات عنيفة، تقذف بالغطاء الصخري عاليا في الجو. ورأي يرى أن الانفجارات البركانية، على سطح المريخ، هي العامل المحرك وراء اندفاع صخوره، لتنطلق خارج حدود جاذبيته؛ ومن ثم تترك الكوكب لتقع في مدارات كواكب أخرى، منها الأرض، فتسقط عليها على هيئة ما يعرف بالنيازك المريخية.
لكن ما هو مطروح بقوة الآن فرضية الصدمات النيزكية على سطح الكوكب، والتي يتولد عنها قوة هائلة، يمكن أن تسبب عملية اندفاع قوية لقطع من الصخور، ولكن في مقابل ذلك يجب أن تسبب صهر الصخور، كما هو الحال في حالات الصدمات النيزكية الأرضية. وهذا ما لم يثبت حتى الآن في النيازك المريخية. لا شك أن في وجود دلائل على تعرض بعض المعادن المكونة للصخور المريخية (النيازك المريخية) لصدمات قوية؛ فمعدن البلاجيزكليز الذي يعد مكونا أساسيا في مجموعة من هذه النيازك، هي مجموعة الشيرجوتيت تعرض لدرجة عالية من موجات الصدمة، حولته إلى طور زجاجي، يعرف بالماسكيلنيت، لكن بقية مكوناته في حالة عادية، لا تشير إلى وجود هذه الصدمات القوية. فلو كانت الصدمة التي تعرض لها لهذا المعدن، وقعت للصخر مكتملا، لكانت آثارها أو تأثيراتها، قد تندت على كل المكونات. ومن هنا يمكن القول إن هناك تأثيرات صدمات نيزكية على صخور سطح المريخ، لكن ليس بالضرورة أنها وراء اندفاع صخوره، كي تخرج عن نطاق جاذبيته.
لكن عدم معرفة العوامل وراء دفع صخور من سطح المريخ لتسقط على الأرض، لا يقف حائلا دون القول بوجود صخور مريخية ضمن النيازك التي تسقط على الأرض. ذلك أن بعض النيازك تمتاز بعدد من الخصائص تجعل الباحثين يضعونها ضمن النيازك المريخية. وعلى الجانب الآخر، هناك ظواهر محددة مستنبطة من دراسة النيازك، هي التي تدفع الباحثين للاعتقاد بأن بعضا من نيازك الأكوندريت المعروفة مشتق من صخور المريخ. (4) القمر
شغل القمر أذهان الناس، منذ قديم الزمن، وسيطر على جانب كبير من تفكيرهم. ومن بين أقدم الأمم التي شغفت بالفلك، وتركت تراثا ملموسا فيه، «الكلدانيون»، الذين حققوا نجاحا كبيرا، في مجال اكتشاف علاقة القمر بظاهرة المد والجزر، ولو أنهم لم يتمكنوا - في الغالب - من الوصول إلى التفسير العلمي لهذه العلاقة. كما أنهم حسبوا، بشيء من الدقة، مواقيت خسوف القمر، وتنبئوا بها مقدما. وقد أدت تلك الممارسات، إلى تطور علم التنجيم، أو قراءة الطالع، في المجتمعات القديمة، نظرا للرغبة الحثيثة في معرفة الغيب، والاعتقاد بارتباط الحياة الأرضية بالأجرام السماوية. وقد انتقلت هذه المعتقدات، من تلك المجتمعات إلى غيرها من الحضارات القديمة النامية آنذاك، خاصة الإغريقية في مقدونيا والإسكندرية؛ ومن ثم انتقلت إلى مدعي العلم في القرون الوسطى.
23
واحتل القمر مكانة خاصة في معتقدات الناس في الكواكب منذ أقدم العصور؛ نظرا لقربه من الأرض، ووضوح رؤيته، وجماله وبهائه، ورونقه، وتأثيره المؤكد على البحار في ظاهرة المد والجزر. وعرف الإغريق الكثير عن القمر؛ إذ عرف «أناكسوجراس»، الذي عاش بين عام 500 إلى عام 428 قبل الميلاد، أسباب كسوف الشمس والقمر. كما أدرك أرسطو (384-322ق.م.) أن الأرض لا بد وأن تكون مستديرة، بسبب استدارة كسوفات الشمس. ثم كانت الخطوة الكبيرة في فهم طبيعة سطح القمر عندما اخترع «جاليلو» منظاره وصوبه نحو القمر، ليرى حفرا وجبالا، كانت بمثابة البداية الحقيقية للتعرف على تضاريس القمر. وقد ذهب الفلكيون القدماء إلى الظن بأن المناطق الداكنة على سطح القمر ما هي إلا بحار؛ لذا فقد أطلق عليها ماريا
Maria [من الكلمة اللاتينية «ماري»
Mare
التي تعني بحرا]. ومع بداية القرن العشرين، كانت كل الظواهر الطبيعية الخاصة بالقمر قد عرفت تقريبا، حيث تم تحديد وزنه، وحجمه، وكثافته. كذلك أمكن رصد حركات القمر بالضبط، وتحديد موقعه لعدة ملايين قادمة من السنين.
24
والقمر جسم كروي، يدور حول الأرض في مدار دائري تقريبا، يبعد عن الأرض بحوالي 382000كم عن الأرض. ويبلغ قطره حوالي 3500كم، ومساحة سطحه حوالي 38 مليون كم
2 . ولو أن طول قطر القمر (3500كم)، يبلغ حوالي 1 /4 طول قطر الأرض {متوسط طول قطر الأرض 12735 [نصف قطر الأرض القطبي 6356,8 - الاستوائي 6378,2]}، إلا أن القمر لا يزن إلا 1 /80 من وزن الأرض. والجاذبية على سطح القمر تعادل 1 /6 الجاذبية على سطح الأرض. وكثافة القمر تعادل حوالي 3,35جم/سم
3 ، في حين أن كثافة الأرض تعادل 5,52جم/سم
3 . وفرق الكثافة بين الأرض والقمر من الأمور المحيرة؛ إذ إنهما متقاربان إلى درجة كبيرة، من حيث المسافة التي تفصل بينهما (382000كم). ومن بين الاختلافات المهمة بين الأرض والقمر، وجود قلب من سبيكة الحديد-نيكل في باطن الأرض، وعدم وجود مثل هذه السبيكة في قلب القمر. وليس للقمر غلاف جوي مثل الأرض. وذلك يرجع إلى سبب بسيط؛ وهو أن جاذبية القمر الضعيفة لا يمكنها أن تحتفظ بغازات على سطحه، لو فرض وجود مثل هذه الغازات في زمن ما.
كيف نشأ القمر؟ لا توجد إجابة محددة لهذا السؤال حتى الآن؛ فقد تباينت الآراء تباينا كبيرا حول نشأة القمر. وما زال هذا التباين قائما بين الفروض التي يسوقها المهتمون بهذا الأمر من حين لآخر. وهناك فروض عديدة عن نشأة القمر يمكن إجمالها في أربعة فروض رئيسية، تختلف درجة قبولها من وقت لآخر. فما إن تظهر دلائل تؤيد فرضا منها، حتى تستجد دلائل أخرى تؤيد أو تقوي فرضا آخر. وهكذا يستمر الأمر سجالا بين الفروض الأساسية الأربعة، التي سيقت حول نشأة القمر. وأهم تباين بين الفروض الخاصة بنشأة القمر يكمن في علاقة نشأته الأولى بالأرض؛ ومن ثم يمكن تصنيف الفروض التي تناقش نشأة القمر، إلى قسمين:
الأصل الأرضي للقمر
ترى فروض هذه النظرية أن القمر ينتمي أساسا إلى الأرض، وأنه اشتق منها بطريقة ما، من خلال عمليات متباينة، يمكن إيجازها في عمليتين رئيسيتين، هما:
عملية الانشطار من تأثير المد
ترجع جذور هذه الفرضية إلى الباحث «ج. ه. داروين» (1845-1912م)، ابن «تشارلز داروين» صاحب نظرية التطور المعروفة في عام 1880م.
25
ويزعم مؤيدو هذه النظرية أو الفرضية، أن الأرض تعرضت إلى تأثير سلسلة متقاربة الدورات من المد والجزر الشديدين، تحت تأثير جاذبية شمسية قوية، نظرا لصغر المسافة آنذاك بين الأرض والشمس، لدرجة أن طول اليوم كان يقارب من أربع ساعات فقط في فترة بعينها. وقد حدث توافق كبير جدا، بين هذه المدة والفترة التي تفصل بين مدين متتاليين. وكان من جراء هذا التوافق ازدياد مدى المد والجزر لدرجة أدت إلى انفصال جزء كبير من الأرض، من تأثير موجة المد العنيفة تلك. ودار الجزء المنشطر في فلك الأرض، واستمر حتى اليوم. وكثيرا ما تلقى هذه الفرضية - على غرابتها - القبول من الباحثين.
عملية الصدمة
تعود البذور الأولى لهذه الفرضية إلى عالم الجيولوجيا المعروف «أ. ر. دالي»، من جامعة «هارفارد» الأمريكية،
26
الذي أشار في بحث نشر له في عام 1946م إلى أن القمر تكون من الأرض؛ نتيجة اصطدام عرضي بجسم ذي حجم كوكبي. ولم تحظ هذه الفرضية بالاهتمام اللائق، لكن حدث بعث جديد لهذه الفرضية، على يد عالمين بارزين هما: «هارتمان» وزميله «ديفيس» في عام 1975م، عندما بحثا مسائل تكون الكواكب من تراكمات أجسام صغيرة، وذكرا أن الأرض اصطدمت بواحد من الأجسام السماوية الكبيرة في بداية تكونها، وأن هذا التصادم نجم عنه إطلاق بعض المواد من كل من الأرض والجسم الذي تصادم معها، وأن تراكم هذه المواد شكل اللبنة الأولى للمادة القمرية. ولا يوجد تأكيد أو قبول مطلق لأي من هذه الفرضيات، وإن كانت نظرية الصدمة تلاقي في الوقت الحاضر قبولا كبيرا نسبيا؛ نظرا لأنها تفسر بشكل جيد - في رأي بعض الباحثين - بعض الظواهر الخاصة بالاختلاف بين الأرض والقمر، من حيث التركيب الكيميائي، وعدم وجود قلب من الحديد-نيكل في جوف القمر؛ فالاختلاف بين نسبة أكسيد الحديد إلى أكسيد المغنسيوم، بين الأرض والقمر، يرجع في الأساس إلى إسهام الجسم الصادم الأساسي في مكونات القمر؛ فالجسم الصادم، الذي يغلب على مكوناته أكسيد المغنسيوم، قدم الجزء الأكبر من المادة التي تشكل منها القمر، في حين قدمت مكونات القشرة الأرضية، التي يغلب عليها أكسيد السيلكون، جزءا يسيرا من المادة التي تشكل منها القمر. كما أن عدم وجود قلب حديدي للقمر، يرجع - في نظر مؤيدي هذه الفرضية - إلى أن القمر تكون من القشرة السطحية للأرض.
الأصل المستقل
يرى مؤيدو النشأة المستقلة للقمر أن القمر لا علاقة له بالأرض من حيث النشأة؛ إذ إنه تكون من السحابة الغازية، التي تكونت منها بقية كواكب المجموعة الشمسية؛ وبالتالي فإن القمر تكون بصورة مستقلة، شأنه شأن الكواكب الأخرى. أما كونه تابعا للأرض، فإن ذلك يعود في الأساس لأسباب مختلفة يمكن إيجازها في فرضيتين أساسيتين؛ الأولى: فرضية الكوكب المزدوج أو الأصل المشترك، التي يرى أنصارها أن كلا من الأرض والقمر تكون بصورة مستقلة عن الآخر؛ فالقمر - شأنه شأن الأرض - تكون بالتكاثف من السحابة الغازية، التي تكاثفت منها بقية كواكب المجموعة الشمسية. وبذلك فإن القمر تكون كجسم مستقل بذاته، لا علاقة له بالأرض، سوى قربه الشديد منها. والفرضية الثانية، التي يطلق عليها فرضية الاستيلاء، يرى أنصارها أن القمر تكون في مكان ما، بصورة مستقلة عن الأرض، وربما بنفس طريقة تكون الأرض، أي من التكاثف من السحابة الغازية التي تكونت منها سائر الكواكب - بعيدا عن الأرض. ثم حدث في تاريخ لاحق لتكونه - في موضعه - أن أسرته الأرض، وذلك عندما مر بالقرب من مدارها. وبذلك يعتبر القمر قد نشأ نشأة مستقلة، كأي كوكب آخر من كواكب المجموعة الشمسية، أسرته الأرض من الفضاء، في وقت لاحق من تاريخها الطويل، ولا علاقة له بالأرض من حيث النشأة.
النيازك القمرية
على حد زعم بعض الدراسات الحديثة، يوجد بين النيازك المعروفة عدد صغير من النيازك، التي ثبت وجود علاقة وثيقة بينها وبين الصخور القمرية، التي أتت بها سفن الفضاء التي حطت على سطح القمر. وفرضية الأصل القمري للنيازك، من الفرضيات القديمة كما سبق الإشارة. وقد مرت بفترات لاقت خلالها القبول، وأخرى واجهت خلالها الرفض . وأقرب رفض لها ظهر قويا في الخمسينيات من القرن الماضي، وظل حتى قرب نهايته. والشواهد التي بنى عليها الباحثون رفضهم للأصل القمري للنيازك، هي تلك التي لخصها «ه. ه. نينجر»، في كتابه المعنون «خارج السماء» الصادر في عام 1959م، والتي منها أن السرعة التي تدخل بها النيازك جو الأرض (26 ميلا في الثانية)، أكبر بكثير من سرعة الأجسام التي يمكن أن تأتي من القمر. كذلك فإن الأجسام القمرية التي يمكن أن تسقط على الأرض ينبغي أن تتوزع على مناطق تتوافق مع دائرة البروج القمرية، مما يعني أن غالبيتها يجب أن تسقط على المناطق الاستوائية من الأرض. وهذا بالطبع يخالف حقيقة توزيعات النيازك التي تتساقط على سطح الأرض، والتي تسقط على كل الأرض، ولم يثبت أنها تسقط على منطقة محددة من الأرض، دون الأخرى. ومن بين الاعتراضات أيضا أن البراكين القمرية، التي يدعي البعض أنها العامل المحرك لاندفاع الصخور القمرية وخروجها من نطاق جاذبية القمر، بحيث يمكن أن تسقط على الأرض في صورة نيازك قمرية؛ هذه البراكين خاملة منذ ملايين السنين. كما أن عدد النيازك التي تسقط على الأرض كبير جدا بحيث يصعب توقع أنه يأتي من جسم صغير مثل القمر. وثمة اعتراض جوهري على فرضية الأصل القمري للنيازك يكمن في الاختلاف بين كثافة النيازك الحديدية، عن الكثافة المقدرة للصخور التي يتكون منها القمر، مما يعني أن القمر لا يمكن أن يكون مصدرا على الأقل للنيازك الحديدية.
ومع هذه الانتقادات التي وجهت لفرضية الأصل القمري للنيازك، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، خمد الظن بأن أيا من النيازك المعروفة مشتق من صخور القمر. وكاد هذا الظن يندثر تماما، على إثر دراسة الصخور، التي جاءت بها سفن الفضاء من سطح القمر، في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين؛ حيث لم تكشف الدراسات، التي تمت - في حينها - على هذه العينات الصخرية، وجود تشابه بينها وبين النيازك المعروفة في ذلك الوقت، لكن في نهاية السبعينيات، وبداية الثمانينيات، وهي الفترة التي شهدت طفرة في عدد النيازك المكتشفة مع توجيه بعثات علمية لجمع النيازك من القارة القطبية الجنوبية؛ عاد الظن بأن بعضا من النيازك التي تسقط على سطح الأرض، مشتقة من سطح القمر. ففي عام 1983م، أثبت أحد الباحثين أن نيزكا صغيرا، ضمن نيازك القارة القطبية الجنوبية، من أصل قمري. وقد كان هذا النيزك هو الذي عثر عليه «جون سكوت»، من فريق الباحثين الأمريكيين، في 18 يناير عام 1981م، وأطلق عليه تسمية «تلال آلن 81 /005». وتعبر التسمية عن اسم المكان، وسنة البعثة 1981م، ورقم العثور على النيزك من بين النيازك الأخرى التي عثر عليها فريق البعثة في نفس العام. ولفت النيزك نظر الباحثة «روبيرتا سكور» (ورد اسمها عند الحديث على النيزك المريخي الذي قيل إنه يحتوي على حفريات كائنات مريخية دقيقة)، أثناء عملها على نيازك القارة القطبية الجنوبية، بوكالة «ناسا»، حيث وصفت هذا النيزك - أول الأمر - على أنه عينة غريبة، تحتوي على العديد من كسرات مسننة، بيضاء إلى رمادية، تتراوح أحجامها من 1 إلى 8مم، في أرضية سوداء. وهذا النيزك يزن حوالي 31,4جم وتصل أبعاده 3 × 2,5 × 3سم. وقد بدأ الشك في الأصل القمري للنيزك، عندما درس «برين ماسون» قطاعا رقيقا منه، وذكر أن الكسرات البيضاء في النيزك تشبه إلى حد كبير كسرات «الأنورثوزيت»، التي توجد في الصخور القمرية، التي جاءت بها سفن الفضاء. ثم جاءت دراستا «أورسلا ب. مارفين» في عامي 1983، 1984م،
27 ،
28
التي أكدت فيهما الأصل القمري لهذا النيزك، الذي يتكون من كسرات «الأنورثوزيت»، مع نسب بسيطة من معادن أخرى، في أرضية من مواد معدنية وزجاجية، ملتحمة مع بعضها البعض. وبالطبع لم تكن مثل هذه الخصائص البتروجرافية معروفة في النيازك التي درست من قبل.
ثم توالت بعد ذلك اكتشافات النيازك القمرية، من بين النيازك التي يتم جمعها من القارة القطبية الجنوبية، ومن الصحراء الكبرى، ومن بعض المناطق الأخرى من العالم. ويبقى السؤال: كيف يمكن لقطع من صخور سطح القمر أن تندفع وتخرج عن نطاق جاذبيته، لتسقط بعد ذلك على الأرض؟! وفي الواقع لا توجد إجابات شافية ومحددة لهذا السؤال ، لكن يتوقع أغلب الباحثين أن الصدمات النيزكية القوية بسطح القمر، هي السبب وراء اندفاع بعض شظايا الصخور من سطحه، بسرعات أكبر من 2,4كم/ثانية (السرعة التي لو تحرك بها جسم ما يمكنه الإفلات من جاذبية القمر)، مما يجعلها تتغلب على جاذبية القمر، وتترك نطاق جاذبيته تماما، في طريقها إلى مدارات بعيدة عنه، يمكنها أن تتلاقى وجاذبية الأرض، فتسقط على سطحها.
وللنيازك القمرية أهمية علمية كبيرة؛ حيث إنها قد تأتي من مناطق قمرية، لم تتمكن سفن الفضاء من الهبوط عليها، أو جمع عينات منها. وبذلك تكمل دراسة النيازك القمرية المعلومات المتاحة عن القمر وطبيعته. وهذا الظن صحيح إلى درجة كبيرة؛ إذ إن أغلب النيازك القمرية المعروفة حتى الآن (يبلغ عددها 60 نيزكا مختلفا) أغلبها مشتق من مرتفعات القمر، التي تغطي الجانب البعيد للقمر، في حين أن قلة منها جاءت من المناطق المستوية والمنخفضة نسبيا من سطح القمر، التي يطلق عليها بحار القمر، وهي التي كانت المواقع المفضلة والمختارة لهبوط سفن الفضاء عليها من قبل. وهذه الظاهرة (كثرة نيازك مرتفعات القمر مقارنة بنيازك البحار القمرية)، تنسجم مع حقيقة أن مرتفعات القمر مكونة في الأساس من صخور، تتكون أساسا من معدن البلاجيوكليز، وغنية بالألومنيوم، وهي الصخور التي يطلق عليها «الأنورثوزايت». فهذه الصخور عادة ما تكون أقل كثافة من صخور المناطق المنخفضة التي يغلب على مكوناتها معدن البيروكسين، ومعدن الأوليفين (جابرو وبازلت)، والتي تكون غنية بعنصر الحديد؛ ومن ثم فإن صخور المرتفعات تكون سهلة التطاير والاندفاع إلى أعلى، عندما تتعرض لعمليات التصادمات النيزكية، لتفلت من جاذبية القمر. كما أن وجودها في الأماكن المرتفعة، يسهم بدور ملحوظ في هذه العملية أيضا. وتعتبر النيازك القمرية قسما أو مجموعة من النيازك الحجرية المعروفة باسم «الأكوندريت». ويطلق على النيازك القمرية اسم: «لونيت».
الفصل الثامن
الصدمات النيزكية
«إنه في مكان ما بالربع الخالي، بالموقع الذي توجد فيه فوهات «وابر»، توجد أطلال مدينة خربة قديمة، يطلق عليها «وابر»، حلت بها في الأزمنة الغابرة كارثة طبيعية فدمرتها. وكانت الكارثة عبارة عن ريح عاتية ومدمرة، مرت على المدينة، فسوت بها الأرض.» (فليبي نقلا عن جابر بن فراج الأعرابي الذي قاده لفوهات وابر ...) ***
تتعرض الأرض من حين لآخر للقصف بالنيازك العملاقة.
1
وينشأ عن ارتطام النيازك الكبيرة بالأرض، حفر وفجوات دائرية أو بيضاوية الأشكال تشبه الطاس، يطلق عليها الفوهات النيزكية. وتتباين أقطار الفوهات النيزكية تباينا كبيرا، من بضعة أمتار إلى عشرات الكيلومترات، وأعماقها من بضعة أمتار إلى عشرات الأمتار. وغالبا ما تكون العلاقة بين القطر والعمق ثابتة، خاصة في حالة تشابه الصخور الأرضية. وعندما تكون الفوهات النيزكية كبيرة نسبيا؛ بحيث يسهل اكتشافها أو التعرف عليها من خلال عمليات التصوير الجوي، فإنها تعتبر حينئذ من الظواهر الطبوغرافية المهمة على سطح الأرض،
2
وتزداد أهميتها العلمية نظرا لأنها تمثل في هذه الحالة أحداثا فريدة شهدتها الأرض، وأسهمت بطريقة أو بأخرى في تطور الكوكب، ولعبت دورا مهما في تاريخه. كما أن الصدمات النيزكية تسهم في تكون العديد من الرواسب المعدنية، وتجمعات البترول والغاز الطبيعي، التي يعثر عليها في المواقع التي شهدت سقوط النيازك الضخمة.
وترتطم النيازك بسطح الأرض بأحجام وسرعات مختلفة. وينشأ عن عملية الارتطام طاقة تستهلك في إحداث حفر وفجوات في نقطة الارتطام. ويتوقف حجم الحفر الناتجة عن عملية الارتطام على عدد من العوامل؛ منها حجم النيزك، وسرعته، ونوعه، وطبيعة الأرض في موقع الارتطام؛ فالنيازك الصغيرة والمتوسطة الحجم تحدث ندبة أو حفرة صغيرة عند ارتطامها بالأرض الطرية أو المفككة، يتناسب حجمها مع حجم النيزك ذاته. أما عمق الحفرة فيتوقف أساسا على طبيعة التربة مكان الارتطام؛ فنيزك يزن حوالي 8كجم سقط على حقل أرز (تربة طينية)، في 10 ديسمبر 1871م، أحدث حفرة عمقها 1 متر في منطقة باندونج، جاوا. في حين أن نيزكا يزن حوالي 10كجم سقط في 12 يوليو 1910م على ركام من الأحجار بمنطقة «سان ميشيل»، فلندا، اخترق لعمق 0,5 متر. ونيزك «نورت كوينتي»، كنساس الولايات المتحدة، الذي سقط في 18 فبراير 1948م، اخترق الأرض لعمق 3 أمتار. ويذكر أن عددا من أحجار نيزك «هاسل»، السويد، الذي سقط في الأول من يناير 1869م ، سقطت على بحيرة متجمدة، ولكنها لم تحدث تأثيرا محسوسا على طبقة سطح الجليد الذي سقطت عليه.
وعندما يسقط نيزك على أرض صلدة، فإن التربة والنيزك يتكسران معا. وقد بينت الدراسات التي أجريت على تأثير النيازك على سطح الأرض؛ أن النيازك التي ترتطم بسرعة تتراوح بين 100-200 متر/ثانية تحدث حفرا إذا ما سقطت على أرض غير صلدة. وفي حالة النيازك التي تضرب الأرض بسرعة تقدر بحوالي 4كم/ثانية، فإنها هي ذاتها تتكسر، وتحطم الصخور الأرضية في نقطة الصدمة، وتتبعثر شظاياهما في كل اتجاه حول مركز الحدث، وتحدث فجوة أو حفرة حجمها يزيد كثيرا عن حجم النيزك ذاته. وهكذا يزيد حجم الحفر عن حجم النيزك، كلما ازدادت السرعة.
ومن أكثر الحالات دراسة وفهما من قبل الباحثين نيزك «سيكوتالين»، الذي سقط على المنحدرات الغربية لسلسلة جبال «سيكوتالين» بإقليم «ماريتيم»، في 12 فبراير 1947م، الساعة العاشرة والدقيقة 38 بالتوقيت المحلي، والذي صاحب سقوطه أضواء وهاجة، وأصوات انفجارات رهيبة. وقد انفجر النيزك إلى آلاف الشظايا في الجو قبل أن يصطدم بالأرض، وانهمرت شظاياه على مساحة كبيرة من الأرض،
3
قدرت بحوالي 2,1كم مربع، وأحدث ارتطامها بالأرض هزة عنيفة، جعلت أرض المنطقة تهتز والمباني تترنح. ونتج عن هذا الحدث، حوالي 122 فجوة أو حفرة، يتراوح قطر 17 منها من 10 إلى 26 مترا، بينما لم يزد قطر غالبيتها (78 حفرة) عن 50سم. وبلغ وزن ما تم جمعه من شظايا الحديد، في هذا الحدث حوالي 23 طنا. وقد اختلطت شظايا النيزك بكسرات الصخور، على منحدرات الفجوات ذاتها ومن حولها. وبينت التقديرات المبدئية أن إجمالي وزن شظايا النيزك تقارب 70 طنا. هذا في حين يرى الباحثون أن سحب الغبار التي صاحبت سقوط النيزك تقدر بحوالي 200 طن. وهذا يعكس في الواقع تأثير الغلاف الجوي على النيازك، حيث ينقص من أوزانها، بما يذري من مادة النيازك، وينثرها على هيئة غبار في الجو، كما سبق الإشارة إلى ذلك.
وعندما تزيد سرعة النيزك عن 4كم/ثانية، وهذا لا يكون إلا في حالة النيازك التي يزيد وزنها عن 10 أطنان، فإن تأثير الصدمة يختلف كثيرا، حيث يتحول جسم النيزك إلى مادة متفجرة، شديدة الانفجار من نقطة التصادم إلى الخارج، محدثة ما يعرف بفوهات الانفجار. ويتوقف حجم الحفرة ذاتها على الطاقة المتولدة عن الحدث، وطبيعة الأرض في نقطة الاصطدام.
4
ويمكن تقدير الطاقة التي يولدها مثل هذا الحدث، بناء على المعادلة التالية:
الطاقة = 1 /2 الكتلة × مربع السرعة.
فلو فرضنا أن نيزكا يزن حوالي 100 طن، ضرب الأرض بسرعة 10كم/ثانية فقط فإن الطاقة الناتجة عن هذا الحدث تعادل:
1 /2 × 100 × (10)2 = 5 × 10
19
إرج.
ومثل هذه الطاقة أكبر من أي طاقة تنتج عن عمليات التفجير التقليدية المعروفة، وهي كفيلة بأن تحول النيزك ذاته، والصخور في موقع الحدث، إلى مواد متبخرة. حيث يستهلك جزء من هذه الطاقة في إحداث موجات الصدمة التي تنتشر في الصخور، وتحدث تدميرا لبنية المعادن المكونة لها، وجزء منها يتحول إلى حرارة تسخن النيزك والصخور، وتبخرهما معا.
5
ومن هنا يصعب العثور على جسم نيزكي (قطعة واحدة) يزيد وزنه عن 100 طن.
ومن المعروف أن أكبر نيزك يوجد على هيئة قطعة واحدة، هو نيزك «هوبا»، الذي عثر عليه في جنوب غرب أفريقيا، في عام 1920م، والذي يبلغ وزنه حوالي 60 طنا.
6
ويرى بعض الباحثين أن وزنه وقت سقوطه كان أكبر من ذلك بكثير، حيث تمت تجويته، وتكوين طبقة من أكاسيد الحديد تحيط بموقعه الآن. وأشارت إحدى الدراسات التي قام بها «جوردون» في عام 1931م إلى أن وزن النيزك وقت سقوطه يقدر بحوالي 100 طن.
7 (1) الاهتمام العلمي بالفوهات النيزكية
تعتبر الإشارة العلمية الأولى - في العصر الحديث - إلى موضوع الفوهات النيزكية؛ هي تلك التي وردت في عام 1828م، في صورة إشارة خيالية، وعابرة للفلكي الألماني «جروثثين»، اعتبر فيها أن الحفر أو الندبات الحلقية، التي ترى على سطح القمر (الفوهات القمرية) من خلال عمليات الرصد التي تتم بالمناظير الفلكية للقمر، هي فوهات أو فجوات تكونت من ارتطام الأجسام السماوية بسطح القمر (فوهات صدمة). وقد ظهر نفس الرأي، ولكن بصورة مقصودة، بعد نصف قرن تقريبا. ففي عام 1873م، ذكر الفلكي «ر. أ. بروكتور» أن المنخفضات الدائرية الغريبة، التي تشاهد بالمناظير الفلكية على سطح القمر، نشأت من سقوط أجرام سماوية أخرى على القمر. وقد عاد وأكد ثانية على وجهة نظره تلك في عام 1883م،
8
لكن لم يلتفت أحد من الباحثين لتلك الإشارات؛ ومن ثم لم تأخذ مأخذ الجد ولم تسلط عليها الأضواء؛ نظرا لأن المناخ العلمي السائد في ذلك الوقت لم يكن مهيأ لقبول فرضية أن الأجسام السماوية يمكن أن تسقط بأحجام ضخمة؛ بحيث تحدث مثل هذه الفجوات الكبيرة.
لكن يبدو أن الاهتمام بموضوع الفوهات النيزكية بدأ مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ففي عام 1891م، أشار خبير وتاجر المعادن المعروف آنذاك «أ. ي. فوت» إلى أن قطع وشظايا الحديد المتناثرة حول فجوة الأريزونا، بالولايات المتحدة، يمكن أن تكون من أصل سماوي، وليست من أصل أرضي؛ حيث أوضح «فوت» في معرض وصفه لمشاهداته عن هذه القطع الحديدية أن هذه القطع توجد على حافة منخفض دائري، وأن البحث لم يثمر عن اكتشاف أي شواهد يمكن أن تفضي إلى التعرف على وجود عمليات بركنة أرضية بالمنطقة، يمكن أن تنسب إليها هذه الشظايا الحديدية، أو ينسب إليها هذا المنخفض الدائري؛ ومن ثم فقد أشار إلى أنه من الصعب معرفة كيفية تكون هذه الظاهرة الجيولوجية. هذا ما سجله في تقريره المنشور عن شظايا الحديد التي عثر عليها حول الفوهة، والذي نشر عام 1891م بالمجلة الأمريكية للعلوم.
ويذكر بعض المهتمين بالموضوع أن «فوت» كان يعتقد - في قرارة نفسه - أن هذه القطع النيزكية هي المسئولة عن تكون هذه الفجوة الكبيرة، لكنه أحجم عن التصريح بذلك في تقريره المنشور تحسبا لانتقادات الباحثين؛ حيث ذكر أحد مرافقي «فوت» - بعد عودته من زيارة موقع الفجوة في ولاية أريزونا، إلى ولاية «فيلادليفيا» - أنه: حدثني عن الصخور التي تم رفعها، واتجاه سقوط الجسم الذي أحدث هذه الفجوة. وأشعل ذلك الحديث حماس الباحثين لتقصي الأمر. فكان اهتمام أحد الجيولوجيين الكبار «ج. ك. جلبرت» بموضوع الفوهة، في عام 1896م. ورغم أن «جلبرت» لم يصرح صراحة بالأصل النيزكي، وفضل في خلاصة تقريره عملية بركنة، إلا أن وصفه كان خادعا؛ بحيث لا ينفي احتمال حدوث صدمة نيزكية ضخمة تكون هي المسئولة عن تكون الفوهة.
9
وربما يكون الإحجام عن الاعتراف بأصلها النيزكي ناتجا عن ضخامتها؛ إذ لم يكن متخيلا آنذاك أن النيازك الضخمة يمكنها أن تسقط على الأرض.
ولا بد من الاعتراف بأن تلك الإشارات، وما صاحبها من إرهاصات وغموض حول العمليات التي يمكن أن تكون مسئولة عن تكون هذه الفجوة الضخمة، كانت وراء الاهتمام العلمي بها، الذي بدأ مع بداية القرن العشرين، حيث زار مهندس المناجم «د. م. بارينجر» موقع الفوهة في عام 1902م. كان العامل الأساسي الذي يحرك «بارينجر» للاهتمام بهذا المنخفض الدائري؛ ظنه أن الموقع لا بد وأن يحتوي على كميات كبيرة من النيكل والعناصر المهمة الأخرى؛ حيث أشارت التقديرات التي أجريت آنذاك أن القذيفة (النيزك) التي يمكنها أن تحدث هذه الفجوة الضخمة، لا بد أن قطرها يزيد عن 150 مترا، ووزنها يزيد عن حوالي 10 مليون طن؛ ومن ثم فإن كميات هائلة ليس فقط من الحديد والنيكل، بل أيضا من الكوبلت والبلاتين توجد بالموقع. وتوقع «بارينجر» أن الكتلة الرئيسية للنيزك مدفونة في قاع الفوهة، وبذلك فإن الفوهة تشكل أهمية اقتصادية، إلى جانب الأهمية العلمية؛ ومن ثم حصل على ترخيص البحث في عام 1903م. وقام بعمل عدد من الحفر بداخل الفوهة؛ بحثا عن كتلة النيزك الرئيسية المدفونة في عمق الفوهة، لكنه لم يعثر على أي جسم من الحديد النيزكي. وإن كان «بارينجر» قد فشل في إثبات فرضيته عن النيزك المدفون بالفوهة، فإن أنشطته تلك كانت، على الجانب الآخر، وراء تراكم كم هائل من البيانات حول طبيعة هذه الفوهة؛ إذ بدأ الاهتمام العلمي بالموقع والذي أسفر في النهاية، عن اعتراف شبه عام بأنها من أصل نيزكي. واعترافا بفضل «بارينجر» في هذا المجال، أطلق اسمه على هذه الفوهة، ولا تزال تسمى باسم «فوهة بارينجر»، إلى جانب عدد من الأسماء الأخرى منها، على سبيل المثال، فوهة الأريزونا، وفوهة الشهاب ... إلخ.
وفي الوقت الذي وصل فيه الخلاف، حول أصل هذه الفوهة ذروته، تم في عام 1928م اكتشاف تركيب آخر يشبه إلى درجة كبيرة تركيب فوهة الأريزونا، بالقرب من «أوديسا» بولاية «تكساس»، الولايات المتحدة أيضا. وهذا التركيب الصغير نسبيا لا يتعدى قطره 162 مترا، وعمقه 30 مترا، يتشابه إلى حد التطابق مع تركيب فوهة الأريزونا، من حيث الشكل، ووجود شظايا من نيزك حديدي، وطبقة من الحديد الطفلي، على الحواف الخارجية للتركيب، مختلطة مع الصخور التي تكون المنطقة، تماما كما هو الحال في فوهة الأريزونا. ويطلق على هذه الفوهة «فوهة أوديسا».
ولم يمض سوى عامين على اكتشاف فوهة «أوديسا»، حتى أعلن «ر. أ. ألديرمن» عن اكتشاف أول حقل للفوهات النيزكية في «هنبرى» على الحدود الشمالية لأستراليا، وذلك في عام 1930م. ويتضمن هذا الحقل الشهير حوالي 14 فوهة مختلفة الأقطار، تتناثر حولها شظايا نيزك حديدي. وتدل أشكال هذه الشظايا على أنها قطع ممزقة من كتلة كبيرة. وفي فبراير من عام 1932م، عثر «ج. ب. فليبي» على موقع فوهات «وابر»، بالربع الخالي من المملكة العربية السعودية، الذي يوجد به ثلاث فوهات نيزكية مكشوفة، وأخرى تغطيها الرمال. وفي عام 1933م، بدأ الاهتمام بموقع فوهات «كامبو ديل سيلو»، في الأرجنتين، الذي يحتوي على عدد 20 حفرة وفوهة مختلفة الأقطار، أكبرها يبلغ قطرها حوالي 90 مترا، وعمقها حوالي 5 أمتار. وفي نفس الوقت تقريبا (عام 1933م) بدأ الاهتمام بموقع فوهة «هافيلاند»، بولاية كانساس، الأمريكية، حيث تم إزالة الرواسب التي كانت تغطيها، وجمع قطع النيزك المدفونة بداخلها. ويبلغ قطر هذه الفوهة حوالي 21 مترا، وعمقها حوالي 8 أقدام.
وفي عام 1937م بدأ الأصل النيزكي لفوهات «كالجارفيه»، بجمهورية إستونيا، يلقى قبولا عاما، بعد أن اكتشفت قطع من الحديد النيزكي حولها. وتأكد للباحثين أن توزيعات قطع الحديد النيزكي حول الفوهات تشير إلى علاقة مؤكدة بين النيزك الحديدي الكبير وبين الفوهات، تماما كما هو الحال في فوهة «بارينجر». وأجريت دراسات عديدة على هذا الموقع بين عامي 1928 و1937م. ويشمل الموقع على عدد حوالي 9 حفر، وفوهات مختلفة، أكبرها يبلغ قطرها حوالي 110 أمتار، وعمقها حوالي 16 مترا.
وفي يونيو عام 1937م، اكتشفت فوهة «بوكسهول» على الحدود الشمالية من أستراليا، التي يبلغ قطرها حوالي 175 مترا. ووجدت حولها قطع من النيزك الذي أحدثها. وفي عام 1938م، تأكد الأصل النيزكي لفوهة «دالارينجا» الصغيرة، التي يبلغ قطرها حوالي 21 مترا، والتي لوحظت في عام 1923م بغرب أستراليا، ولم يثبت أصلها النيزكي في ذلك الوقت المبكر نسبيا.
10
وفي يونيو عام 1947م، شوهدت فوهة «ولف جريك» بغرب أستراليا، فيما يبدو بواسطة عمليات التصوير الجوي. وتأكد أصلها النيزكي من خلال الدراسة التي ظهرت في عام 1948م، وأوضحت وجود قطع من حديد نيزكي متغير، عرف بالحديد الطفلي، يحتوي على نسبة عالية من النيكل، وهو ما يؤكد أنها تمثل بقايا شظايا نيزك حديدي، متناثرة حول الفوهة، وعلى الجانب الجنوبي الغربي منها تحديدا. وتعتبر هذه الفوهة ثاني أكبر فوهة مؤكدة ، بعد فوهة «بارينجر»، حيث يصل قطرها إلى حوالي 850 مترا، وعمقها حوالي 160 قدما.
ويعتبر ما حدث في 12 فبراير عام 1947م، الحدث الأكبر في تاريخ دراسة نيازك الفوهات (النيازك الضخمة التي تحدث الفوهات)، حيث سقط نيزك ضخم على سيبريا، وتشظى في الجو إلى آلاف القطع المختلفة الأحجام، التي ارتطمت بالأرض وأحدثت عددا كبيرا من الحفر المختلفة الأحجام. ووفر هذا الحدث للباحثين فرصة طيبة لدراسة الفوهات النيزكية المؤكدة، والنيازك الكبيرة التي تحدث الفوهات. ولم يساور أحد الشك فيه، حيث إنه شوهد أثناء سقوطه.
وفي عام 1964م اكتشف موقع فوهات «موراسكو» ببولندا، الذي يشمل حوالي 8 حفر وفوهات صغيرة، أكبرها يبلغ قطرها حوالي 100 متر، بمصاحبة عدد من قطع الحديد النيزكية.
وفي عام 1975م، نشر الباحث الدنماركي الشهير «فاجن بوشوالد»، كتابه القيم عن النيازك الحديدية، وجاء فيه ذكر فوهة «مونتوراكوي»، بصحراء أتاكاما، شيلي، التي يبلغ قطرها 370 مترا، وما يصاحبها من قطع نيزك حديدي، ينتمي إلى نيازك «الأوكتاهيدريت». مما أدى إلى اعتبار هذه الفوهة، ضمن الفوهات المؤكدة.
11
ويبلغ عدد مواقع الفوهات النيزكية المؤكدة حوالي 13 موقعا.
فوهة منطقة جبل كامل النيزكية
تقع فوهة منطقة جبل كامل النيزكية في الجانب الجنوبي الغربي من الصحراء الغربية، داخل الحدود المصرية. وتقع على بعد حوالي 100كم شرق جبل العوينات، وعلى بعد 300كم إلى الغرب من منطقة شرق العوينات. وقد سميت بهذا الاسم نظرا لقربها من جبل كامل، الذي يعتبر من المعالم الطبوغرافية المميزة في المنطقة المحيطة بالفوهة. واكتشفت الفوهة في نهاية 2008، عن طريق صور الأقمار الصناعية. وفي فبراير عام 2010م زار فريق من الباحثين المنطقة، وتأكد من الأصل النيزكي للفوهة، التي تعتبر الأولى من نوعها في مصر وأفريقيا. والفوهة دائرية إلى بيضاوية الشكل، يبلغ قطرها حوالي 40م، وعمقها حوالي 10م. تغطيها جزئيا الرمال السافية، التي تحملها الرياح السائدة في المنطقة، مما يؤكد أنها تكونت من زمن كبير نسبيا، وليس من وقت قريب. وتظهر النتائج المبدئية أن الفوهة نشأت عن ارتطام نيزك حديدي كبير بالمنطقة، من حوالي 2000 إلى 5000 عام من الوقت الحاضر. وقد أتى النيزك من اتجاه الشمال الغربي، بزاوية مائلة ، ولم يسقط عموديا على الأرض. وسقط النيزك الحديدي على صخور من الحجر الرملي، فحطمها ونثرها بعيدان وحفر مكانها هذه الحفرة. وتحطم النيزك ذاته من تأثير الحرارة العالية والضغط العالي الذي تولد عن عملية الارتطام. وقد تبخر جزء كبير من النيزك من الحرارة العالية. وتنتشر حول الفوهة آلاف الشظايا النيزكية الحديدية، التي تختلف أحجامها من بضعة مليميترات إلى عدة سنتمترات.
وتحتفظ المنطقة بجميع الظواهر التي نشأت عن ارتطام النيزك بالأرض، مثل الصخور التي تناثرت حول الفوهة، والصخور المصهورة من حرارة الارتطام، وشظايا الحديد التي نشأت عن انفجار الجسم النيزكي المرتطم بالأرض. وهي بذلك تعد واحدة من أهم وأندر الفوهات النيزكية المعروفة على الأرض حتى الآن.
عينة نيزكية كاملة
غير آلاف الشظايا الحديدية التي توجد متناثرة بموقع الفوهة، والتي نشأت عن انفجار وتشظي كتلة النيزك الرئيسية التي ارتطمت بالأرض بسرعة عالية، عثر، على بعد حوالي 200 متر من الفجوة، على عينة كبيرة من الحديد النيزكي، يبلغ وزنها حوالي 80كجم. وتكمن أهمية هذه العينة في أنها تمثل جزءا صغيرا انفصل عن النيزك الكبير قبل ارتطامه بالأرض؛ ومن ثم فقد سقطت بعجلة الجاذبية الأرضية، ولم تحدث حفرة في موقع ارتطامها بالأرض، ولم تتشظ بل ظلت سليمة. وهي تحمل الخصائص الأصلية للنيزك، قبل ارتطامه بالأرض.
ويتكون النيزك من سبيكة من الحديد مع النيكل. وتصل نسبة النيكل إلى حوالي 20٪. وهو مشتق من حطام حزام الكويكبات، بين المريخ والمشتري.
أهمية الموقع
لا تنحصر أهمية الموقع فقط في شظايا الحديد التي توجد حول الفجوة، أو المحتمل وجودها داخل الفوهة ذاتها. فالمهم هو الحدث الذي حدث، في وقت حديث نسبيا (2000-5000 عام من الوقت الحاضر). فمعنى وقوع هذا الحدث في العصور الحديثة، يؤكد على وجود مثل هذه الأجسام التي تهدد الأرض في الفضاء، واحتمالات سقوطها على الأرض، وخاصة المواقع المسكونة منها، وما يمكن أن يحدث عن ارتطامها بالأرض من دمار قد يبيد الحياة بالكامل، أو يعيد الحضارة الحديثة إلى العصور الحجرية، هو المهم في هذا الحدث. وسوف تستمر الدراسات العلمية، وتقول كلمتها عن توقيت سقوط النيزك بشيء من الدقة، وتقول كلمتها عن وزن النيزك الأساسي، وقت سقوطه على الأرض، وكمية الطاقة التي تولدت عن عملية الارتطام، وتركيب النيزك وتصنيفه ضمن المجموعات المعروفة. والأكثر أهمية في هذا الموضوع التأثيرات البيئية التي حدثت نتيجة لسقوط النيزك على أرض المنطقة؛ فالطاقة التي تولدت نتيجة لارتطام هذا النيزك تعادل الطاقة التي يولدها انفجار قنبلة نووية متوسطة الحجم. والمنطقة كانت مسكونة بمجموعات بشرية تنتمي للعصور الحجرية، كما تدل الشواهد المبدئية على ذلك، من خلال ما عثر عليه من دوائر حجرية، وأدوات صوانية، وقطع من أوان فخارية، كانت تستعمل من قبل السكان في الماضي. ولا يعرف يقينا ما إذا كان الحدث قد وقع أثناء وجود تلك الجماعات البشرية في المنطقة، أم حدث بعد الجفاف العام الذي ضرب المنطقة؛ ومن ثم فقد كانوا قد هاجروا إلى مناطق أخرى؟ وهل أسهم هذا الحدث في الجفاف الذي ضرب المنطقة أم لا؟ إذ إن الموجات الحارة التي نشأت عن هذا الارتطام تشبه تلك التي تنشأ عن انفجار قنبلة نووية متوسطة الحجم. وقد انتشر تأثير الموجات التي نشأت عن انفجار النيزك، في دائرة قطرها 5كم تقريبا. ولو كانت المنطقة رطبة، في ذاك الوقت، لتبخرت مياهها من قبل هذا الحدث.
ومن الطريف أن سكان العصور الحجرية سجلوا سقوط جرم سماوي على جدران صخور جبل عوينات. ويظهر الرسم الذي يسجل هذا الحدث رجلا يجري مفزوعا، ومن خلفه الجرم الساقط. فهل هذا التسجيل يخص هذا الحدث أم أنه لحدث مختلف لم يكتشف بعد؟
ومن ثم تعتبر فوهة جبل كامل أهم ظاهرة جيولوجية-فلكية في مصر. وهي واحدة من أهم الفوهات النيزكية في العالم؛ ومن ثم يجب أخذ كافة التدابير للحفاظ عليها كما هي، دون المساس بأي من الظواهر التي نشأت عن انفجار النيزك الذي أحدثها. وسن قانون لحماية الفوهات النيزكية، بصفة عامة، يحدد كيفية التعامل مع هذه الفوهة، وكيفية إدارة الموقع؛ خشية أن يتم تجريفه، كما حدث للعديد من المواقع الجيولوجية الأثرية البعيدة عن العمران. ومن الضروري إصدار كتاب باللغة العربية والإنجليزية عن هذه الفوهة يصف خصائصها العامة؛ ليكون مرجعا للباحثين، حتى يمكنهم التعرف على المواقع المشابهة الأخرى التي لا بد أنها موجودة، لكن لا يعرفها الكثيرون؛ ومن ثم من الممكن إصدار طابع بريد يخلد ذكرى اكتشاف هذه الفوهة، باعتبارها أهم ظاهرة جيولوجية-فلكية في مصر حتى الآن. (2) حادث تونجسكا
في 30 مايو 1908م، وقعت حادثة غريبة، تمثلت في حدوث انفجار هائل في الجو، فوق أراضي حوض نهر تونجسكا، شمال شرق سيبريا. وأحدثت موجات الصدمة الناشئة عن الانفجار دمارا للأشجار في مساحة 1000كم مربع، وطرحت بأي شيء أرضا، وسمع الناس أصواتا مفزعة، وأضواء خاطفة قوية، وهزات عنيفة. ولم تهتم حكومة روسيا القيصرية بالحدث الجلل، ومر كأن شيئا لم يكن، لكن بعد قيام الثورة البلشفية، أخذ يظهر الاهتمام بهذا الحدث، فأرسلت البعثات العلمية للموقع، لتقصي الدمار الذي سببه الحدث في المنطقة، وسؤال شهود العيان. وكان السؤال: ما هو سبب الانفجار الهائل؟ وفي الحقيقة اختلفت الآراء حول أسباب هذا الحدث، كشأن الباحثين حيال كل ظاهرة طبيعية، لكن أكثر الدراسات مصداقية وقبولا لدى أوساط الباحثين، ترى أن الحدث نتج عن انفجار قطعة صغيرة من نواة مذنب، يبلغ قطرها حوالي 50 مترا، وكتلتها حوالي 60000 (60 ألف طن) في الجو.
12 ،
13
ويبدو أن هذه القطعة كانت قد دخلت جو الأرض بسرعة عالية تقدر بحوالي 30كم/ثانية، وانفجرت على ارتفاع حوالي 8كم فوق سطح الأرض. وأحدث انفجارها في الجو طاقة تعادل 3,7 × 10
16
جول، أي حوالي 8,8 ميجا طن. وهذه الطاقة تفوق شدتها 704 مرة شدة طاقة القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما (12,5 كيلو طن). وما زالت حتى الآن الدراسات تتوالى عن هذه الظاهرة، فمن حين لآخر تتوصل بعض الدراسات لنتائج تفيد في تحديد طبيعة الجسم الذي انفجر فوق المنطقة، من خلال التحليلات الكيميائية الدقيقة التي تجرى على العناصر الكيميائية، التي تم حقنها في الأشجار وفي التربة من جراء موجات الانفجار القوية. وبالفعل تم التعرف على كثير من العناصر التي تميز الأجسام النيزكية (المذنبات) ضمن العناصر المنتشرة في البيئات المختلفة في المنطقة.
وهناك عدد كبير من التراكيب الحلقية، بعضها من أصل نيزكي بالفعل، وذلك من خلال وجود عدد من الشواهد الدالة على ذلك، كوجود تشوهات الصدمة في المعادن المكونة للصخور بموقع الفوهة، ووجود المواد الزجاجية التي تنشأ من تصلب الصخور التي يتم صهرها من الحرارة العالية المتولدة عن الصدمة، ووجود زيادة محسوسة في تركيزات بعض العناصر الكيميائية التي تميز النيازك؛ مثل النيكل والكوبلت والإيريديوم والأوزميوم، ولكن لا يوجد الدليل القاطع الذي يجعل من هذه التراكيب فوهات نيزكية مؤكدة، وهو وجود شظايا أو آثار النيازك التي كونتها بداخلها أو من حولها. كما أن بعض التراكيب التي تعتبر «نيزكية» في بعض الدراسات، لا يمكن أن تكون من أصل نيزكي، نظرا لعدم وجود أدلة أو شواهد قوية على تكونها بعمليات الصدمات النيزكية. وقد ارتفع عدد هذه التراكيب إلى أكثر من 200 تركيب غالبيتها مشكوك في صحة أصلها النيزكي. ومن بين المواضع التي تعد من قبل بعض الباحثين ضمن مواقع الصدمات النيزكية، تركيبا ال
BP ، والواحة
Oasis ، في جنوب شرق ليبيا. ويبدو أنهما تركيبان أرضيان تكونا بواسطة حركات أرضية عادية؛ إذ لا يوجد أي دليل قوي على تكونهما بالصدمات النيزكية، عدا وجود تشققات مجهرية في بنية معدن كوارتز الحجر الرملي المكون الرئيسي لصخور الموقعين؛ فهذه التشققات تعتبر من جانب بعض الدارسين دليلا على عملية الصدمة النيزكية التي كانت السبب في ظهور هذين التركيبين، في حين يراها البعض الآخر بمثابة تشققات ناتجة عن حركات أرضية قوية، لا علاقة لها بالصدمات النيزكية، كانت وراء تكونهما. ولم يعثر على أي مواد زجاجية بهذين الموقعين، كما أن الفوالق الأرضية تقطعهما، مما يعني أنها السبب وراء تكونهما على هذه الشاكلة. (3) أنواع الفوهات النيزكية
تخضع الفوهات النيزكية، ومواضع الصدمات النيزكية، لدراسات متعمقة، تهدف إلى تحديد طبيعتها وأشكالها وأحجامها وأعماقها وطبيعة الصخور التي تكونت فيها. ومن بين أهداف هذه الدراسات تصنيف الفوهات النيزكية على حسب الخصائص العامة لها، مثل الحجم وعلاقته بالعمق، ووجود أو عدم وجود الأجسام النيزكية التي تحدثها كاملة أو مشظاة. ومن خلال هذه الدراسات يتبين أن الفوهات النيزكية يمكن تمييزها إلى نوعين من الفوهات؛ فوهات الصدمة، وفوهات الانفجار.
فوهات الصدمة
يطلق تعبير فوهات الصدمة على الفجوات أو الندبات الصغيرة، التي يحدثها ارتطام النيازك الكبيرة نسبيا بالأرض. وفوهات الصدمة عبارة عن حفر وفجوات صغيرة لا تزيد أقطارها عن 100 متر تقريبا، وتنشأ عن ارتطام النيازك التي تقل أوزانها عن 100 طن تقريبا بالأرض. فمثل هذه النيازك الصغيرة الحجم نسبيا، غالبا ما لا تزيد سرعات ارتطامها بالأرض عن 1-2كم/ثانية. وتتكون الفوهات في هذه الحالة، تحت التأثير الميكانيكي للصدمة، حيث يتم تهشيم وسحق الصخور في نقطة التصادم، ودفعها بقوة في كل الاتجاهات، حول مركز الصدمة، مخلفة مكانها حفرة أو فجوة. وغالبا ما توجد النيازك التي تحدثها كاملة (داخل الفجوات ذاتها)، أو على هيئة كسرات متباينة الأحجام، مختلطة مع شظايا الصخور، داخل الفوهات أو على حوافها الخارجية. ومن الأمثلة على هذا النوع من الفوهات فوهة «هافيلاند»، بولاية كانساس، بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي يبلغ قطرها حوالي 21 مترا.
فوهات الانفجار
يطلق تعبير فوهات الانفجار على نوعيات معينة من التراكيب التي تنشأ عن ارتطام النيازك الكبيرة جدا بالأرض، حيث لا يتشظى النيزك الصادم، وحسب، بل يتفجر، كمادة قابلة للتفجير، شديدة الانفجار. وتعتبر فوهات الانفجار أهم أنواع الفوهات النيزكية على الإطلاق، وهي الهدف الأساسي لغالبية الدراسات التي تجرى لتحديد طبيعة الصدمات النيزكية، وتأثيراتها على الأرض؛ فهذه النوعية من الفوهات تنشأ من ارتطام الأجسام النيزكية الكبيرة بالأرض، وما يترتب على ذلك من تولد طاقة عالية تحدث الفوهة في مكان الارتطام، وتعمل على صهر وتبخر النيزك ذاته، والصخور الأرضية في موقع الصدمة؛ لذا فهي كبيرة الحجم مقارنة بفوهات الصدمة، ومقارنة بأحجام النيازك التي تحدثها. وتختلف عن النوع الأول في أن النيازك التي تحدثها غالبا ما لا توجد كاملة بداخلها، حيث تتشظى كلية، وتتبخر جزئيا أو كلية. وما يتبقى منها يوجد في الغالب على هيئة شظايا متناثرة حول الفوهات. ولا يستبعد أن توجد بعض الشظايا النيزكية، داخل الفوهات، وهي تلك التي تندفع عموديا لأعلى بقوة الانفجار، ثم تسقط بعد ذلك في الفوهات. وتصنف فوهات الانفجار على أساس أحجامها وأعماقها، وعلاقة الحجم بالعمق، ووجود أو عدم وجود ما يعرف بالتداخل المركزي في منتصف الفوهات ذاتها، إلى نوعين مختلفين، يسميان: فوهات بسيطة، وفوهات مركبة.
ويطلق تعبير فوهات نيزكية بسيطة على تلك الفجوات التي تتميز بأشكالها البسيطة نسبيا، والتي عادة ما تكون على هيئة شكل «الطاس» أو «الطبق»، وأقطارها الكبيرة نسبيا مقارنة بأقطار فوهات الصدمة، وأقل من أقطار فوهات الانفجار المعقدة. فعادة ما تتراوح أقطارها من بضعة أمتار، حتى مئات الأمتار، لكن لا تزيد في الغالب عن 4كم، ولا يوجد بها ما يعرف بالتداخل المركزي، الذي يميز الفوهات المعقدة. وتعتبر فوهة الأريزونا، التي يبلغ قطرها 1200 متر، وعمقها 170 مترا، النموذج المثالي لفوهات الانفجار البسيطة. ومن خلال الدراسات والحسابات، التي أجريت على هذه الفوهة، تبين أن وزن النيزك الحديدي الذي أحدثها يقدر بحوالي 100000 (مائة ألف) طن. وقد سقط بسرعة تقدر بحوالي 15كم/ثانية، وتولدت عنه طاقة تقدر بحوالي 1,12 × 10
16
جول. وهذه الطاقة تعادل انفجار واحد ميجا طن من مادة ال «ت. ن. ت» الشديدة الانفجار. وتتناثر في المنطقة حول الحدود الخارجية للفوهة كسرات متباينة الأحجام من الصخور، التي دفعتها قوة الانفجار إلى خارج الفوهة. وقد قدرت إحدى هذه الكسرات الصخرية بأنها تبلغ أكثر من 4000 طن.
14
ويندرج ضمن نوع الفوهات النيزكية البسيطة فوهات منطقة «وابر» الشهيرة التي اكتشفها «فليبي»، عام 1932م، بالربع الخالي، بشمال شرق المملكة العربية السعودية. وتتوزع هذه الفوهات في موقع تبلغ مساحته حوالي 5كم مربع، تغطيه الرمال جزئيا، لكن يمكن رؤية ثلاث حفر مكشوفة أو لم تغط بعد بالرمال، أقطارها 11 مترا، 64 مترا، و116 مترا. وتصاحب هذه الحفر شظايا وقطع من النيزك الحديدي الذي كان السبب في تكونها. وكذلك تنتشر بالمنطقة قطع زجاجية سوداء، يطلق عليها «زجاج وابر»، تكونت من انصهار صخور الحجر الرملي الذي يشكل الموقع، من تأثير الحرارة المتولدة عن الصدمة النيزكية التي أحدثها ارتطام القطع النيزكية بالأرض. وتحتوي قطع زجاج وابر على حبيبات معدنية حديدية، تنتمي إلى النيزك الذي كون هذه الفوهات، تمتاز باحتوائها على نسبة عالية من عنصر النيكل. ويبدو أن النيزك الذي كون فوهات وابر قد انشطر في الجو - قبل ارتطامه بالأرض - إلى عدد من الشظايا الكبيرة، أحدث ارتطامها بالأرض هذه الفوهات الثلاث المكشوفة الآن بالموقع. ومن دراسة هذه الفوهات الثلاث دراسة وافية يمكن توقع أن الجسم الذي أحدثها كان يزن - على وجه التقريب - حوالي 3500 طن على أقل تقدير. وقد نتج عن ارتطامه بالمنطقة طاقة تقدر بحوالي 10 إلى 21 إرج. وهذه الطاقة تعادل الطاقة التي تنتج من انفجار حوالي 10 إلى 12 كيلو طن، من مادة ثالث نترات التولوين، أو تعادل طاقة القنبلة الذرية التي ألقيت فوق مدينة «هيروشيما» اليابانية، في شهر أغسطس من عام 1945م،
15
ويقدر الباحثون عمر هذا الحدث بحوالي 6000 عام.
16
وكما ينتمي عدد كبير من الفوهات النيزكية المؤكدة إلى هذا النوع من الفوهات، ينتمي إليها أيضا عدد كبير من الفوهات المحتمل أصلها النيزكي. ومن بين تلك الفوهات التي يحتمل أن يكون أصلها نيزكيا، والتي تنتمي إلى هذا النوع من الفوهات النيزكية البسيطة؛ فوهة «تسوينج»، التي تقع في الجزء الشمال الغربي من مقاطعة «جوتينج»، وعلى بعد حوالي 40كم من مدينة بريتوريا، عاصمة جمهورية جنوب أفريقيا. وهي عبارة عن غور بيضاوي إلى دائري الشكل، يبلغ قطره 1100 متر، وعمقه 119 مترا، وارتفاع حوافها الخارجية عن مستوى سطح الأرض المحيطة بها، يبلغ حوالي 60 مترا.
17
وقاعها تغطيه مياه بركة ملحية، نشأت من تدفق المياه من المنطقة المحيطة؛ نظرا لأن المنطقة مطيرة، ومستوى المياه الجوفية مرتفع، شأن المناطق الرطبة على مستوى العالم، حيث تتدفق وتتجمع لتملأ أي حفرة أو فجوة أرضية.
ويطلق الباحثون في مجال الصدمات النيزكية تعبير فوهات نيزكية معقدة، على نوع من الفجوات التي يحدثها ارتطام النيازك الكبيرة جدا بالأرض. وتختلف الفوهات المعقدة عن الفوهات البسيطة، في الحجم والشكل؛ فهي عادة ما تكون كبيرة؛ إذ تزيد أقطارها عن 4كم، وقد تصل إلى عشرات الكيلومترات. بالإضافة إلى ذلك، تتميز بوجود ما يعرف بالتداخل المركزي، حيث تندفع الصخور من أعماق بعيدة، وترتفع في مركز الصدمة لأعلى مكونة قبة أو مجموعة قباب، ترتفع عما حولها من قاع الفوهة. ويضم هذا النوع من الفوهات كل الفوهات غير المؤكدة تقريبا. ففي هذه الحالة لا يمكن أن يتخلف عن الصدمة بقايا من النيازك التي تحدثها؛ إذ تتبخر كلية من جراء الحرارة العالية المتولدة عن عملية الارتطام. ويوجد عدد كبير من مواقع الصدمات النيزكية، والفوهات النيزكية منتشرة على مستوى العالم. وأغلب هذه المواقع غير مؤكدة أي محتمل أن تكون مواقع صدمات نيزكية أو فوهات نيزكية، حيث لا يصاحبها بقايا النيازك التي أحدثتها، ولا توجد أدلة قاطعة على تكونها بالصدمات النيزكية،
18
على حسب دراسة «جريف وربيرتسون» في عام 1987م.
ويستخدم الباحثون تعبير «أستروبليم»، الذي يعني حرفيا «ندبة النجم» أو «ضربة النجم» لوصف مواقع الصدمات النيزكية القديمة، التي جرت عليها العوامل الأرضية، فتلاشت أشكالها الواضحة، التي تميز الفوهات النيزكية الحديثة التكوين نسبيا، وأزالت الشواهد التي يستدل من خلالها على أصلها النيزكي، أو غمرتها الرسوبيات التي غطتها وطمست معالمها في فترة لاحقة على تكونها. وظل الجيولوجيون يطلقون على مثل هذه التراكيب تسمية «تراكيب انفجارات خفية»، في إشارة إلى أنها تراكيب ناشئة عن عوامل أرضية داخلية خفية عن العيان، منها أيضا انفجارات ثورات البراكين. وأطلق تعبير «أستربوبليم» لأول مرة في عام 1961م،
19
من قبل الباحث الشهير الراحل «روبرت س. ديتز»، الذي يعد حجة في موضوع الفوهات والصدمات النيزكية، على بعض التراكيب الدائرية التي نشأت من تأثيرات الصدمات النيزكية على مواقعها، تمييزا لها عن التراكيب الأخرى التي تنشأ من العوامل الأرضية. وقد استفاد الباحثون من الدراسات التي أجريت لتحديد خصائص الصخور، التي تعرضت للصدمات النيزكية، من المواقع التي تعتبر مواضع صدمات نيزكية مؤكدة، مثل موقع فوهة «الأريزونا» وموقع فوهات «وابر»، وغيرهما، وخرجوا بملاحظات عامة على تأثيرات الصدمات، مثل وجود معدن الكوسيت، والتشوهات الدقيقة في الصخور، والتراكيب المجهرية في بنية المعادن المكونة للصخور في هذه المواقع؛ ومن ثم درسوا الصخور بمواقع التراكيب الأخرى، التي كان يطلق عليها تعبير «تراكيب انفجارات خفية». وكان من نتيجة ذلك إثبات الأصل النيزكي لعدد كبير منها؛ ومن ثم فقد أضحى عدم وضوح الشكل المميز للفوهات النيزكية، أو وجود شظايا نيزكية بالموقع (التي قد تتلاشى بالعمليات الأرضية، بعد حدوث الصدمات النيزكية، بفترة طويلة أو حتى قصيرة، حيث يتوقف ذلك على طبيعة الصخور، والظروف المناخية السائدة بالمنطقة)، غير ذي بال في التعرف على الأصل النيزكي لبعض التراكيب الأرضية. (4) معدلات التصادمات النيزكية بالأرض
تكشف مجرد نظرة لسطح القمر عن وجود عدد كبير من الفجوات التي تنتشر على سطحه. ويكاد يجمع الباحثون على أن هذه الفجوات ناتجة عن تأثيرات التصادمات النيزكية مع سطح القمر. وبمقارنة كثافة الفوهات الموجودة على سطح القمر، بتلك المعروفة على سطح الأرض، يتضح أن عدد الفوهات النيزكية المعروفة على الأرض يقل كثيرا عن عدد الفوهات النيزكية المعروفة التي توجد على سطح القمر. والسبب يرجع إلى عدد من العوامل، منها المياه التي تغطي أغلب سطح الأرض، ونشاط العمليات الأرضية السطحية، التي تقود إلى إخفاء أو محو مواقع الصدمات النيزكية. ومن هنا يرى الباحثون أنه من المنطقي أن يكون معدل الصدمات النيزكية بالأرض كبيرا نسبيا، ولا يعبر عنه بالضرورة عدد الفوهات النيزكية المعروفة حتى الآن. وهنا موضوع يتصل بنفس السياق، وهو معدلات التصادمات النيزكية خلال الأزمنة الجيولوجية القديمة، وهل تسقط النيازك العملاقة على الأرض بمعدل ثابت منذ تكون الأرض، أم أن هذا المعدل يتناقص مع الزمن؟ من المنطقي أن يتوقع بعض الباحثين أن معدلات ارتطام نيازك الفوهات بالأرض كان كبيرا في الأزمنة القديمة، نظرا لكثافة الأجسام النيزكية في الفضاء، خلال العصور القديمة، وتناقصها مع الزمن، من خلال استهلاكها بسقوطها على الأرض، وبقية كواكب المجموعة الشمسية الأخرى. وهذا يعني أن حزام الكويكبات كان في الأزمنة الجيولوجية القديمة أكثر ازدحاما بالأجسام الصلبة، عنه في الوقت الراهن؛ ومن ثم فإن فرص اندفاع بعض هذه الأجسام لتسقط على الأرض يتناقص مع الزمن. وهذه القضية عرض لها وناقشها منذ زمن بعيد أحد المؤلفين العرب (المرزوقي المتوفى في سنة 421ه/1030م)، في كتابه «الأزمنة والأمكنة».
ويختلف الباحثون فيما بينهم، في حساب معدلات سقوط نيازك الفوهات على الأرض. ومن بين المحاولات الكثيرة التي تحظى بالاهتمام، لتحديد معدل سقوط مثل هذه النيازك على الأرض، تلك التي قدمها «هوفيس» في عام 1979م،
20
والتي يتوقع فيها أن نيزكا ضخما يمكن أن يحدث ارتطامه بالأرض فوهة قطرها يبلغ حوالي 200كم، يسقط كل حوالي 14 مليون سنة على سطح الأرض، من خلال معادلة بسيطة لحساب معدلات سقوط النيازك العملاقة على الأرض، كل عام:
φ = 1 / 1400ق
2 .
φ : تشير إلى معدل سقوط نيازك الفوهات خلال العام الواحد.
ق: تشير إلى قطر الفوهة التي تتكون من هذا التصادم مقدرا بالكيلومتر.
ومن خلال دراسة أعمار التكتيت وزجاج الصدمات النيزكية بالأرض، يتوقع بعض الباحثين أن نيزكا ضخما أحدث فوهة قطرها 50كم، وقع خلال عصر البليستوسين (1 مليون عام). ويرى البعض الآخر أن نيزكا أو مذنبا كتلته تعادل 10-15كجم ويتولد عن ارتطامه بالأرض طاقة تعادل 10-31 إرج، صدم الأرض خلال الفانيروزويك (خلال فترة 570 مليون سنة الأخيرة من عمر الأرض). ويرى «والتر الفاريز»
Walter Alvarez ، أن هذا هو ما حدث خلال الفترة الزمنية الفاصلة بين حقب الحياة المتوسطة، وحقب الحياة الحديثة، أي منذ قرابة 65 مليون عام، والذي أودى بحياة الديناصورات، وقضى على وجودها تماما من على الأرض.
ويرى «قيصر إميلاني»
21
أن معدلات ارتطام النيازك تتباين حسب مواقعها، فعلى سبيل المثال، مجموعة «أمور»، من الكويكبات التي ينتمي إليها الكويكب «إيكاروس» والكويكب «إيروس» وتضم حوالي 1000-2000 كويكب، يحتمل أن يصدم واحد منها الأرض كل حوالي 500 ألف عام (نصف مليون عام). أما مجموعة «أتين»، وتضم حوالي 100 كويكب، فإن احتمال أن يرتطم واحد منها بالأرض قد يحدث خلال 1 مليون عام. بينما مجموعة «أبولو»، التي تضم حوالي 1000 كويكب، فإن احتمال حدوث تصادم بين واحد منها والأرض، قد يحدث خلال 2 مليون عام. فكل أعضاء هذه المجموعات من الكويكبات تدور في مدارات مائلة بالنسبة لدائرة الكسوف، وتقترب من الأرض، فيما يعرف بأنه اقتراب خطر، يزيد من فرص ارتطامها بالأرض، مما يهدد الحياة واستمرارها على الأرض.
ولا شك أن نتائج المحاولات الحالية لحساب معدلات وقوع الصدمات النيزكية بالأرض لا يمكن الاعتماد عليها بصورة قاطعة؛ إذ إنها عرضة للتغير من الزمن. فهذه النتائج تعتمد على البيانات التي توفرها عمليات رصد الكويكبات والمذنبات في مداراتها. ونتائج عمليات الرصد تتغير بمعدلات سريعة. وبمرور الوقت تتوافر لدى الباحثين بيانات أكثر دقة لحسابات معدلات الصدمات النيزكية، على سطح الأرض. وكذلك تتراكم نتائج عمليات المسح الجيولوجي الأرضي، واستكشاف مواضع الصدمات النيزكية، خاصة مع ازدياد الاهتمام العلمي بموضوع النيازك. (5) أساطير الصدمات النيزكية
يستطيع الباحث أن يستشف وجود إشارات مبهمة إلى موضوع الصدمات النيزكية، في بعض القصص والأساطير القديمة. فعلى سبيل المثال، جاء في أسطورة «كاتنجا» القديمة أن: «نارا حامية ومدمرة سقطت على «الكونغو»، منذ زمن بعيد جدا، وكانت سببا في تكون المعادن الثمينة الموجودة في أماكن متفرقة في وسط أفريقيا.»
22
ومن خلال هذا القول، يمكن أن يستنتج المرء وجود إشارات واضحة إلى حوادث الصدمات النيزكية، التي تسهم - في الواقع - في تكون العديد من الصخور الزجاجية ذات القيمة المادية العالية، كزجاج «المولدفيت» الذي يشبه معدن الزبرجد، ويستغل كحجر كريم، وزجاج السيلكا الذي يوجد في الصحراء الغربية المصرية، والذي يشبه أنواعا منها الزبرجد ، واستغلت لهذا الغرض من أقدم العصور. والأكثر من ذلك أن الصدمات النيزكية تسهم في تكون أنواع مميزة وفريدة من المعادن الثمينة التي من بينها الألماس، والرواسب المعدنية في الأرض.
23
وما ورد في أسطورة قبيلة «هوبي» من الهنود الحمر، بالولايات المتحدة، والخاصة برؤيتهم وتصوراتهم لأصل الفوهة النيزكية الشهيرة الموجودة بولاية «أريزونا»؛ يؤكد فهمهم على وجود علاقة واضحة بين الفوهة والسماء؛ إذ ترى الأسطورة أن الروح العظيم هبط إلى الأرض من مقامه العالي، تحيط به النار والرعد والبرق، ودخل جوف الأرض من ثغرة كبيرة، هي فوهة ولاية «أريزونا» النيزكية.
24
ومن الثابت أن الناس ربطوا بين النيازك والرعد والبرق، لكن الأهم في هذه الرواية أن الفوهة تكونت من سقوط نيزك ضخم، خلال الأزمنة التي لم يكن هؤلاء الناس ولا أسلافهم قد وجدوا. فكيف إذن ربطوا بينها وبين البرق والرعد (النيازك)؟
وتشير الإرهاصات التي صاحبت اكتشاف السيد «فليبي»، في عام 1932م، لفوهات «وابر» في الربع الخالي بالمملكة العربية السعودية، إلى معرفة الإنسان قديما بمواقع الصدمات النيزكية، وتأثيراتها على الحياة والحضارة. فالذي كان يحرك «فليبي» للقيام بهذه الرحلة البعيدة، في مكان خال من الحياة، قصة رواه له رجل من الأعراب، يدعى «جابر بن فراج». وملخص القصة:
25
أنه في مكان ما بالربع الخالي، بالموقع الذي توجد فيه فوهات «وابر»، توجد أطلال مدينة خربة قديمة، يطلق عليها «وابر»، حلت لها في الأزمنة الغابرة كارثة طبيعية فدمرتها. وكانت الكارثة عبارة عن ريح عاتية ومدمرة، مرت على المدينة، فسوت بها الأرض. فهذه الرواية تعني أن وابر هي مدينة قوم «عاد» التي عتت عن أمر ربها، ولم تتبع نصائح «هود»، كما ورد في القرآن الكريم، وتعني «هوبر» في الإنجيل، على حد رأي «فليبي» ذاته. والذي جذب «فليبي» أكثر لاستكشاف هذه المدينة البائدة؛ ما ورد في رواية الأعرابي من أنه بالقرب من الموقع توجد قطعة كبيرة (كبر حدبة الجمل) من الحديد؛ ولهذا السبب فإن الناس يطلقون على الموقع اسم «الحديدة». فتوقع «فليبي» وجود بقايا مصنوعات حديدية قديمة، ذات قيمة تاريخية ومادية عالية، يمكن الحصول عليها من الموقع؛ ومن ثم عقد العزم على استكشاف الموقع، والتعرف على طبيعته، وتقصي الرواية التي رواها له الأعرابي. ولم تكن المدينة التي قصدها «فليبي» سوى موضع هوى عليه نيزك حديدي كبير أحدث فجوات في الأرض، وتناثرت شظاياه بالموقع مختلطة مع كسرات المادة الزجاجية التي نتجت عن الحرارة العالية التي ولدتها الصدمة النيزكية بصخور الحجر الرملي التي تشكل المنطقة. وتشبه الكسرات الزجاجية الموجودة بموقع فوهات وابر؛ الخبث الذي يتخلف عن عمليات صهر الخامات المعدنية، أثناء عمليات استخلاص الفلزات. وتكشف القصة عن معرفة الإنسان القديم للدمار الكبير الذي تحدثه الارتطامات النيزكية بالأرض. وإن كانت القصة تقصر دمار المدينة بالريح، ولا تذكر سقوط أحجار أو نار من السماء، فإنها تشير إلى جانب مهم من تأثيرات الصدمات النيزكية بالأرض، وهو الريح الشديدة التي تصاحب انفجار النيازك إثر دخولها جو الأرض، وارتطامها بالصخور الأرضية، كما هو الحال في حادثة «تونجسكا».
ومما يؤكد معرفة الإنسان القديم للصدمات النيزكية، وارتباطها في عقله بالحديد، رواية يذكرها بعض الباحثين
26
عن الحدادين في «سيرلانكا». وهذه الرواية، تقول: يشير الحدادون في «سيرلانكا» إلى مواقع عمليات صهر الحديد القديمة، حيث تختلط بقايا من الحديد المستخلص من عمليات الصهر، مع قطع من الخبث المتخلفة عن عمليات الصهر؛ يشيرون إليها على أنها مواضع صدمات نيزكية، أي أنها قطع حديد سماوية. وهذا المشهد الذي يعنيه الحدادون في «سيرلانكا» يتوافق مع مشهد موقع الصدمة النيزكية في «وابر» وفي بعض المواضع الأخرى؛ حيث تختلط قطع الحديد مع المواد الزجاجية التي تنشأ عن صهر الصخور الأرضية، من تأثير حرارة الصدمة، وتناثرها حول الموقع. ففي موقع فوهات «وابر» النيزكية تحديدا، أشارت الدراسات التي أجراها «جيفري سي. وين»، ومرافقه الراحل «جين شوميخر»
Gene Shoemaker ، على الموقع أثناء الزيارة الحقلية التي تمت في عام 1995م، وظهرت نتائجها خلال عامي 1997-1998م، إلى نوع من الزجاج، يطلق عليه تسمية «زجاج شبيه بالخبث». إذن فحدادو «سيريلانكا» لا يقولون ذلك من فراغ، وإنما يعكس قولهم هذا، مشاهدات طبيعية. ويلتمس الباحث العذر لمن يفسر مواقع الصدمات النيزكية، على أنها مواقع حضارات قديمة، تعرضت للكوارث الطبيعية، كما في رواية الأعرابي عن فوهات وابر، وكذلك من يرى أن مواقع صهر خامات الحديد الأرضي القديمة، التي كانت تتم فيها عمليات تحويل الخامات الأرضية للحديد الفلزي؛ فالمشهدان متشابهان تقريبا؛ إذ كلاهما يحوي قطعا وشظايا من الحديد الفلزي، وقطعا زجاجية سوداء بها فجوات، وبها مكتنفات من حبيبات الحديد الفلزي.
ويختلف الأمر نسبيا، بالنسبة لفوهة «تسوينج»، بجمهورية جنوب أفريقيا. وتسمية «تسوينج» باللغة التسوانية المحلية تعني «موقع الملح»، حيث كانت تسمى قديما «غور ملح بريتوريا». والفوهة عبارة عن تجويف بيضاوي منتظم الشكل نسبيا، يظن الباحثون أنها فوهة بركانية، أو تجويف ناتج عن تحركات أرضية، أو فوهة نيزكية، في حين يرى السكان المحليون أن الفوهة عبارة عن عالم سحري مليء بالعجائب والأسرار. ومن بين القصص التي يروج لها الناس: أن أفعى عملاقة تعيش تحت سطح المياه الكئيبة التي تغطي قاع الحفرة، وأنها تدرب ال «سانجوماس» [معالجون وأنبياء] وتنمي مهاراتهم، بطريقة سرية لا يشعر بها أحد. فإذا ما تجاوز أحد الحدود المحددة لمجال المنطقة، ودخل الفوهة بدون تصريح نهارا أو ليلا، فإن الأفعى تقوم على الفور بقتله. وتؤكد هذه القصص الأسطورية على وجود كهف كبير بالجزء الشمالي من حافة الفوهة، يحتوي على عظام الضحايا، الذين قتلتهم الأفعى العملاقة على مر الزمن.
27
الفصل التاسع
كنوز النيازك
«لو أن السماء أبدلتني بها عالما آخر كاملا جمع على هيئة زبرجدة واحدة متناسقة، ما رضيت.» (عطيل، وليم شكسبير) *** (1) الحديد هبة النيازك
تسهم النيازك بشكل غير محسوس في إثراء الأرض بخام الحديد؛ فكمية المادة النيزكية التي تسقط على الأرض كبيرة؛ إذ تشير التقديرات المعتدلة، التي تعتمد على دراسات عديدة أجريت لتقدير هذه الكمية، إلى أن ما يصل الأرض من مواد نيزكية يوميا يقدر بحوالي 100 إلى 1000 طن
1
على هيئة غبار دقيق يكاد لا يرى بالعين المجردة، يعرف في المراجع العلمية على أنه غبار نيزكي، والنذر اليسير من هذه المادة يكون في صورة أجسام كبيرة، تصل أوزانها عدة آلاف من الأطنان. ومتوسط محتوى هذه الكمية من الحديد يربو على 28٪؛
2
ومن ثم فإن النيازك تضيف للأرض كمية تقدر بحوالي 28 إلى 280 طنا يوميا من عنصر الحديد. ويوجد الحديد في النيازك في صور متعددة، منها معادن فلزية (سبيكة الحديد-نيكل)، أو مشتركا مع الكبريت (معادن كبريتدات الحديد)، أو مشتركا مع عناصر أخرى ضمن معادن السيليكات. وجميع الصور المختلفة التي يوجد عليها الحديد في النيازك تتحول أو تتغير بفعل العوامل الأرضية إلى معادن الماجنيتيت، والهيماتيت، والليمونيت، مع مرور الزمن، وتختلط مع مكونات القشرة الأرضية. فإذا كانت كمية ما تقدمه النيازك من الحديد للأرض يوميا تتراوح بين 28 إلى 280 طنا، فكم تبلغ كمية ما قدمته النيازك للأرض من هذا العنصر، خلال عمر الأرض الذي يتراوح بين 4500 إلى 5000 مليون سنة؟
وناهيك عن شظايا الحديد النيزكي، التي توجد متناثرة في مواقع الصدمات النيزكية، التي يحدثها ارتطام النيازك الحديدية الضخمة بالأرض، والتي حصل من بعضها الإنسان على مر العصور على الحديد الفلزي، كما في حالة حديد نيزك «كانون ديابلو» بموقع فوهة الأريزونا، والذي تاجر فيه الهنود الحمر ونقلوه لأماكن بعيدة؛ فإن عملية الصدمات النيزكية بالأرض تسهم إسهاما مباشرا في تكون العديد من الرواسب المعدنية القيمة؛ إذ توفر الصدمات النيزكية على سطح الأرض ظروفا جديدة ومختلفة، وتحدث تغييرات جذرية في صخور الموقع الذي ترتطم به؛ ومن ثم توفر ظروفا بيئية جديدة تقود إلى تكون العديد من الرواسب المعدنية. ومن بين الأمثلة التي يتدارسها الباحثون حتى الآن، إسهام الصدمة النيزكية في تكون أكبر راسب معروف للنحاس والنيكل على مستوى العالم، في منطقة «سيدبري» بكندا؛ إذ يرى فريق من الباحثين أن الصدمة النيزكية كانت وراء اندفاع الصهير الصخري من باطن الأرض، ليسهم بشكل مباشر في تكون هذا الراسب. وتسهم الصدمات النيزكية، بما تولد من ضغوط عالية، في تنشيط حركة المحاليل والمياه الأرضية، التي تذيب العناصر الموجودة سلفا في الصخور بنسب بسيطة، وتعيد ترسيبها في مواضع الصدمات النيزكية، حيث الظروف مواتية، على هيئة رواسب معدنية ذات قيمة اقتصادية. (2) النيازك ومصدر الحديد قديما
يختلف الحديد عن المعادن الأخرى التي استعملها الإنسان قديما. فلا يوجد الحديد في الصخور الأرضية في صورته الحرة الطليقة، إلا في حالات نادرة جدا، كما هو معروف في «جرين لاند». وتحتاج عملية اختزال خامات الحديد الأرضية لاستخلاص الفلز منها، تجهيزات خاصة ودرجة حرارة عالية (1653 درجة مئوية)، مما يصعب تصور أن الإنسان القديم حصل على الحديد، من خلال استخلاصه من خاماته الأرضية، كما حصل على النحاس؛ ومن ثم لم تعرف عملية استخلاص الحديد من خاماته الأرضية، إلا في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. ومن هذه الوجهة تحديدا، يشكل مصدر الحديد الذي استخدمه الإنسان في العصور القديمة مشكلة بالنسبة للباحثين.
وأقدم مشغولات حديدية معروفة، قبل عام 3000ق.م. أربع هي: آلة حديدية ذات أربعة أوجه، عثر عليها في دفنة في سامرا، شمال العراق وتعود إلى حوالي 5000 عام ق.م. ثلاث كرات حديدية عثر عليها في شمال إيران، وتعود إلى حوالي 4600-4100ق.م. وثماني خرزات صغيرة وجدت في دفنات ما قبل الأسرات في جرزة، مصر (3500-3100ق.م.)؛ وخاتم من نفس الفترة الزمنية ، عثر عليه في أرمنت بالقرب من الأقصر في جنوب مصر.
ومع التسليم بإمكانية وجود مصدر أرضي للحديد في تلك الفترات القديمة، يتمثل في قطع الحديد التي تظهر بصورة عرضية، ضمن النواتج الثانوية التي تتكون من عمليات صهر خامات النحاس الغنية بالحديد، يظل المصدر الأساسي للمشغولات الحديدية الأقدم هو الحديد النيزكي. وتعتبر النيازك الحديدية هي التي وفرت للإنسان القديم الحديد،
3
وعوضته عن النقص الطبيعي في الفلز، وقدمت له أسهل مصدر معروف لفلز من الفلزات، حصل عليه بسهولة ودون عناء يذكر، سوى كيفية اقتطاعه من الأجسام النيزكية الكبيرة ثم كيفية تشكيله؛ إذ تتكون النيازك الحديدية من سبيكة طبيعية من الحديد والنيكل، بنسب تتراوح في الغالب ما بين حوالي 95٪ حديد وحوالي 5٪ نيكل. وتمتاز هذه السبيكة الطبيعية بأنها طيعة وسهلة التشكيل، مع عدم قابليتها السريعة للصدأ، مقارنة بالحديد الخالص الذي يحصل عليه الإنسان من الخامات الأرضية. وبذلك تكون النيازك الحديدية قد وفرت للإنسان هذه السبيكة الطبيعية التي استعملها في الأغراض المختلفة، في وقت كان الحصول فيه على الحديد من خلال عمليات تحويل خاماته الأرضية عملية صعبة، إن لم تكن مستحيلة.
وتختلف في الواقع نتائج الدراسات التي أجريت على المشغولات الحديدية القديمة؛ فبعض الدراسات أشارت إلى أن المصدر الأساسي للحديد في الصناعات القديمة كان نيزكيا، وفي المقابل تشير دراسات أخرى إلى أن مصدر الحديد أرضي. ودون المزيد من استعراض وتمحيص الدراسات، التي لم تصل لنتيجة محددة بهذا الخصوص، ثمة مبررات منطقية للاعتقاد بالمصدر السماوي للحديد. وربما يكون من أهمها استقراء ممارسات الإنسان تجاه النيازك الحديدية، ومدى اهتمامه بها للحصول على الحديد. وتأمل مصدر الحديد الذي كان يستعمله «الإسكيمو» في تشكيل حرابهم وشتى أدواتهم الحديدية؛ يقرب الصورة للأذهان؛ ف «الإسكيمو» يعيشون عيشة بدائية، تشبه إلى حد كبير عيشة الإنسان القديم؛ ومن ثم فإن ممارساتهم تعطي فكرة عن ممارسات الإنسان القديم. فمن أين كانوا يحصلون على الحديد؟ يوجد مصدران للحديد الخالص في «جرين لاند»، موطن «الإسكيمو»؛ الأول: مصدر أرضي من راسب حديد فلزي تكون في ظروف خاصة ، لا يوجد لها كثير من الأمثلة على مستوى العالم؛ والثاني: مصدر نيزكي. فالحديد الأرضي الفلزي يوجد على هيئة حبيبات كبيرة يمكن أن تلاحظ من قبل الإنسان، في جزيرة «ديسكو» من الشاطئ الغربي ل «جرين لاند». ويمكن أن يستغل الإنسان حديد هذا الموقع، لكن لم يثبت بصورة مؤكدة أن «الإسكيمو» استخرجوا هذا الحديد واستخدموه في مشغولاتهم الحديدية. وفي المقابل كانوا يقتطعون قطعا من الحديد، من ثلاث قطع حديدية نيزكية، سبق ذكرها؛ فاستخدام الحديد الأرضي، حتى في حالة وجوده في صورة حرة، وهي حالة نادرة، يتطلب القيام بعملية استخراجه وفصله عن الصخور الحاوية له والشوائب الموجودة معه. وهذا يشكل عبئا إضافيا على الإنسان؛ ومن ثم اتجهت أنظاره للمصدر السهل الذي توفره له النيازك.
ويبدو أن الإنسان القديم تعلم سباكة الحديد من النيازك ذاتها.
4
وقد يذهب المرء لأكثر من ذلك، فيرى أن النيازك الحديدية هي التي لفتت انتباه الإنسان القديم للحديد وكيفية تشكيله، بل وكيفية استخلاصه من خاماته الأرضية. ففي العصور الحديثة، أسهمت النيازك في المجال التقني، بشكل غير مباشر، في اختراع سبيكة الحديد-نيكل، التي تدخل في الأغراض الصناعية المختلفة، كما يروي «إدواردز ب. هندرسون» قصة ذلك الكشف في مقال عن النيازك نشر في عام 1951م، ضمن عدد من المقالات شملها كتاب «العلم يزحف»، والتي أورد فيها أنه: ذات يوم كلف أحد البحاثة الأوائل ببحث موضوع إيجاد استعمالات لفلز النيكل، الذي كان قد اكتشف من قبل، ولكن لم يكن يعرف بعد في أي الأغراض يمكن الاستفادة منه. ولحسن الحظ، كان الباحث يزور المتحف القومي بواشنطن آنذاك، واطلع على معروضاته من النيازك، وتوقف أمام النيازك الحديدية، التي تتكون من سبيكة طبيعية من الحديد والنيكل. واسترعى انتباهه أنها لا تصدأ بسرعة، كما هو الحال في السبائك الحديدية العادية؛ ومن ثم اختمرت في ذهنه فكرة دمج النيكل مع الحديد، محاكاة للنيازك الحديدية، لإنتاج سبيكة تقاوم الصدأ. ومن هنا عرفت البشرية صناعة مهمة، وهي سبيكة الحديد-نيكل.
5
فلماذا لا يكون الإنسان القديم تعلم من النيازك، فعرف الحديد منها أولا، ثم بحث عليه في خاماته الأرضية؟ نعود للوراء في التاريخ، لنجد ظاهرة فريدة جديرة بالتأمل، وهي أن تسمية الحديد في مصر القديمة تغيرت من زمن لآخر، كما أشار الباحث «ج. أ. وينريت». كان الحديد في مصر قبل القرن الرابع عشر قبل الميلاد، يطلق عليه اسم «بيا»
bia ، وتعني فلزا أو معدنا، ثم أشاروا له باسم «بيا آن بيت»، والتي تعني حرفيا، وبدون لبس: فلز أو معدن السماء.
6 ،
7
ومن الطريف أن تظهر هذه التسمية - التي تحدد أن الحديد معدن السماء - في الوقت الذي بدأ فيه الإنسان استخلاص الحديد من خاماته الأرضية المعروفة، كالماجنيتيت والهيماتيت، والليمونيت والجوثيت، وغيرها.
وهذا من شأنه أن يثير السؤال: لماذا أصر قدماء المصريين على نسب الحديد إلى السماء، بعدما عرفوا وشاهدوا أنه يستخلص من مواد أرضية؟! قد يكون ذلك ضربا من الخلط واللبس في التسمية، لكنه قد يكون أيضا مقصودا! أي أن قدماء المصريين اعتقدوا أن خامات الحديد الأرضية، التي تعالج بالنار ليستخلص منها الحديد، هي في الأصل سماوية.
8
ويمكن لهم التوصل إلى ذلك عن طريق المشاهدات العملية؛ فالحديد الفلزي الذي تقدمه النيازك الساقطة على الأرض سرعان ما يتأثر بالعوامل الأرضية، بعد فترة من سقوطه على الأرض. ويكون من نتيجة ذلك، أن تظهر عليه قشرة هشة ذات ألوان بنية وحمراء وصفراء، هي التي تعرف الآن ب: أكاسيد الحديد. وهذه المادة تشبه الخامات التي يستخلص منها الحديد بعد المعالجة بالنار. ولربما دفعتهم هذه الملاحظة إلى تعميم فرضية، بهذا الخصوص، يمكن تخيلها على النحو التالي:
الحديد فلز سماوي يسقط على الأرض في صورة نقية خالصة.
يتغير (يفسد) بالعوامل الأرضية، ويتحول إلى مادة هشة بنية إلى صفراء.
هذه المادة تعالج بالنار، ليستخلص منها الحديد على صورته الأصلية.
ومن هنا فربما يكونون قد خلصوا إلى أن خامات الحديد الأرضية، ما هي إلا صور متغيرة من صورة الحديد السماوي الأصلي.
أشكال مختلفة من خناجر ال «كيريس» الإندونيسية.
ومن دلائل إسهام النيازك في تطور علم الميتالورجي عبر التاريخ؛ ظاهرة خناجر ال «كيريس » الإندونيسية. وال «كيريس» نوع من الخناجر القصيرة التي تنتج يدويا في بعض المناطق في إندونيسيا، منذ أكثر من 2700 سنة تقريبا، ثم انتشرت في مناطق عديدة من دول جنوب شرق آسيا. وخنجر ال «كيريس» رمزي وليس من الأدوات الحربية؛ إذ يوضع في الحزام، أو يشد على الملابس في أي موضع من الجسم، كمظهر من مظاهر الوجاهة الاجتماعية. وما يعنينا في هذا الخصوص مصدر الحديد الذي يستخدم في هذه الصناعة؛ فالحديد المستعمل في صناعة هذه الخناجر من الحديد النيزكي. ويظن أن سكان جاوة - الموطن الأصلي لهذه الصناعة - كانوا يحصلون في الأزمنة القديمة على الحديد من نيزك كبير عرفوا طريقه بالمنطقة، ونقلوه لمعبد من المعابد؛ حيث ظلوا يقتطعون منه الحديد اللازم لصناعة الخناجر. وحدثت نقلة في تطور هذه الصناعة اليدوية، عندما توقف الأهالي عن تشكيل الخناجر من حديد النيزك، وتوصلوا إلى سبيكة جديدة أطلقوا عليها «السبيكة السحرية»، التي حصلوا عليها من خلط نسب محددة من نيزك حديدي مع نسب محددة من نيزك حديدي-حجري.
لكن يجدر الإشارة إلى أن بعض الباحثين لا يقبلون هذه الأفكار، ويذهبون إلى الظن أن الحديد الفلزي عرف مصادفة، عندما سقطت قطعة من خام أرضي غني بالحديد في النار بطريق الصدفة، فانصهرت ونتج عن ذلك الحديد الفلزي فلاحظها الإنسان القديم، فعرف بذلك الحديد وكيفية استخلاصه من خاماته.
9
وتستغل النيازك الحديدية بصفتها سبيكة طبيعية - تتكون من الحديد-نيكل، وتمتاز بلونها الأبيض الفضي، لينة وطيعة وسهلة التشكيل، وتقاوم الصدأ - تستغل في الوقت الحاضر في عمل الكثير من المشغولات الفنية الدقيقة؛ إذ تشكل منها الأساور، والخواتم، والقلائد، والساعات اليدوية، وغيرها من المشغولات التي تستهوي الناس، ويحرصون على اقتنائها، لما تتمتع به من جمال المظهر، وجودة الخام الذي تشكل منه، وقيمتها العلمية باعتبارها مادة غير أرضية.
ساعة يد من حديد النيازك.
ومهما اختلف الباحثون حول مصدر حديد الأدوات الحديدية القديمة، التي يعثر عليها ضمن مخلفات العصور الأولى، فلن يغير ذلك من حقيقة ما ترسخ في أذهان الناس من أن أول مصدر للحديد كان من النيازك الحديدية التي تسقط على الأرض. ويجد المرء ذلك جليا في فكر الإنسان عبر العصور؛ فتسمية الحديد في بعض اللغات القديمة ترتبط - كما سبق الإشارة - بالسماء. وتنسب الملحمة الفنلندية «كالفيلس» مصدر الحديد إلى السماء؛ إذ تذكر بهذا الخصوص: «تدفق لبن أحمر من صدور عذارى قوس قزح ليصبح حديدا، ذهب بدوره ليبحث عن أخته النار. وتحاول النار أن تلتهمه، لكنه يهرب بعيدا إلى المستنقعات، وهناك يأسره الحداد المبارك «إلمارينين»، ويصنع منه سيوفا للمحاربين الشجعان، وحلي للنساء.»
10
ولعل من يطالع رواية «النجم الحديدي»
11
يقف على ما ترسخ في عقول الناس عبر العصور، عن الأصل النيزكي لحديد الأدوات الحديدية القديمة؛ إذ تحكي القصة تطور الحضارة، من العصور الأولى حتى عصر «ستاندش ميلز» صاحب السيف المشهور. وفيها يعثر رجلان على قطع حديد النجم الحديدي، الذي سقط على الأرض في عصور قديمة جدا، ويحتفظان به ليسلماه للأجيال التالية جيلا بعد جيل.
القطعة الكبيرة من نيزك «نافاجو» الحديدي وتظهر محاولة شقه بواسطة إزميل سميك.
وتذكر الدراسات الخاصة بتاريخ استعمال حديد النيازك أن الهنود الحمر استعملوا الحديد في تشكيل بعض الأدوات والأسلحة، قبل وصول الأوروبيين لبلادهم. وأنهم لم يكونوا على دراية بكيفية استخلاص الحديد الفلزي من خاماته الأرضية؛ ومن ثم فلم يكن من مصدر متاح لديهم للحصول على الحديد سوى النيازك الحديدية. ويبدو أن الإنسان لم يترك نيزكا حديديا كبيرا إلا وحاول اقتطاع الحديد منه. فنيزك «نافاجو»
Navajo
الحديدي تعرض لمحاولات شقه وانتزاع قطع منه. ويتكون هذا النيزك من قطعتين كبيرتين، إجمالي وزنهما حوالي 2180كجم، ويعرض حاليا في إحدى صالات معارض النيازك بمتحف الحقل
Field Museum ، والذي عثر على القطعة الأولى والكبيرة منه مواطنان من سكان مدينة «نافاجو»، هما: «روبرت ك. توماس»، و«كارل هيل»، في 10 يوليو عام 1921م، على بعد حوالي 13 ميلا من مدينة «نافاجو» في مقاطعة «أباتش» بولاية أريزونا. ويذكر «روبرت ك. توماس» أحد المكتشفين في الرسالة التي أرسلها للمتحف بهذا الخصوص، بتاريخ الأول من يناير عام 1922م، أن النيزك كان معروفا لسكان «نافاجو» من الهنود الحمر منذ قدومهم للمكان ، أي منذ حوالي عام 1600م. ويضيف أن سكان المنطقة من الهنود الحمر كانوا يعتبرونه حجرا مقدسا؛ ومن ثم فقد كانوا يغطونه بالأحجار؛ خشية أن يراه أحد من السكان البيض، أو أحد من أفراد القبائل الأخرى فيأخذه منهم. وذكر في رسالته أنهم كانوا يسمونه «بيش لوجن أي جن» بلغتهم، التي تعني «الحديد الأسود». وأخبروه أن علامات الأزاميل التي توجد على سطح النيزك كانت موجودة من قبل أن يكتشفوه، وإنها من عمل إنسان ما قبل التاريخ، الذي كان يصنع الأواني الفخارية بالمنطقة. أي أن إنسان العصور القديمة هو الذي كان يقتطع من هذا النيزك قطعا من الحديد لاستعمالها في الأغراض الحياتية المختلفة. وتؤكد دراسة شكل الحز الموجود في جسم النيزك أن الإزميل المستخدم كان ذا نصل أكبر سمكا من سمك الأزاميل التي كان يستخدمها السكان المحليون وقت اكتشاف النيزك في عام 1921م. مما يشير إلى وجود محاولة قد تمت منذ زمن بعيد، وذلك لشقه من أجل الحصول منه على الحديد، لاستخدامه في الأغراض المختلفة.
12 (3) سيوف النيازك
تكشف ممارسات الإنسان المدونة في السجلات التاريخية، تجاه حديد النيازك مدى الاعتماد على هذا المصدر في تشكيل المشغولات الحديدية، خاصة الأدوات الحربية، كالسيوف والخناجر والسكاكين والدروع. وسبق الإشارة إلى النيزك الحديدي الذي سقط في فترة حكم ملك روما «نوما بومبليوس» (753-715ق.م.) الذي شكل منه الكهنة درعا صغيرا شاع عنه أنه يوفر الحظ السعيد والحماية والسيادة.
وتدل قراءة بعض الأبيات الشعرية في التراث العربي على أن السيوف تصنع من حديد النيازك (الصاعقة). فيورد ابن قتيبة الدينوري (213-276 /828-889) في «كتاب المعاني الكبير في أبيات المعاني»:
13
يكفيك من قلع السماء مهند
فوق الذراع ودون بوع البائع
وينسب الشاعر في هذا البيت السيف إلى ما يقتطع من السماء، في إشارة صريحة وواضحة إلى النيازك الحديدية. وكذلك يقول البحتري:
وصاعقة في كفه ينكفي بها
على أرؤس الأبطال خمس سحائب
يكاد الندى منها يفيض على العدا
مع السيف في ثنيي قنا وقواضب
ويعتبر البحتري السيف صاعقة، فيجوز أن يكون أراد بذلك الحديد الذي يصنع منه السيف، ويجوز أن يكون يشبه بذلك السيف بالصاعقة.
ويدلل المؤرخون العرب على ارتباط النيازك الحديدية، بتشكيل السيوف على وجه الخصوص؛ إذ يذكر النويري في سياق وصفه للصواعق (النيازك):
14 «وربما عرض لها (الصاعقة) عند انطفائها في الأرض برد ويبس، فتكون منها أجرام حجرية أو حديدية أو نحاسية. وربما طبعت الحديد سيوفا لا يقوم لها شيء.» وكذلك ينطوي وصف الجاحظ للصواعق على أهمية النيازك الحديدية في تشكيل السيوف؛ إذ يذكر في السياق نفسه شيوع ارتباط النيازك الحديدية بتشكيل السيوف: «زعم كثير من الناس أن بعض السيوف من خبث نيران الصواعق، وذلك شائع على أفواه الأعراب والشعراء.» وتؤكد الممارسات الفعلية للناس تجاه حوادث سقوط النيازك على ذلك؛ إذ يظهر جليا مدى الاحتشاد والتجهيزات التي تتم على إثر سماع خبر سقوط نيزك من النيازك، وذلك لتحديد شيء مهم، هو إمكانية الحصول منها على الحديد. وقد يجد المرء، إيضاحا لهذه الحقيقة، فيما رواه ابن إياس في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، ضمن ما روى من أحداث وظواهر وقعت في عام 1511م:
15 «ومن الوقائع أن الأمير أركماس الذي كان نائب الشام، طلع إلى السلطان بقطعة فولاذ هيئة الكرة، وزعم أنها صاعقة نزلت ببعض الجبال، وأن أعرابيا أهداها إليه، ففرح السلطان بذلك، وجمع السباكين فقالوا إنها صاعقة لا محالة، فنظر إليها بعض الزردكاشية فأنكر ذلك، وقال: هذه حجر مرقشيتة، وهو حجر صلب، فلما سمع السلطان ذلك شق عليه ونزل إلى الميدان، وجمع السباكين وحضر الأمير أركماس، ووضعوا ذلك الحجر الذي على هيئة الفولاذ في النار، فمجرد ما وضعوه في النار صار مثل الحرنقش وتفتت، فخجل الأمير أركماس من ذلك، وانتصف عليه ذلك الزردكاش، وهو الجمالي يوسف أخو مؤلفة، وعد ذلك من النوادر.» فمن خلال هذه الرواية يتبين، أن الناس كانوا يهتمون اهتماما كبيرا بالنيازك الحديدية؛ ومن ثم فقد كان في عرفهم أن النيازك (الصواعق) ما هي إلا سبائك من الحديد. وتكشف رواية ابن إياس، في نفس السياق أيضا، والتي عرض فيها لحدث سقوط نيزك جوزجان سنة 396ه/1004م، مدى اهتمام حاكم خراسان في ذلك الوقت، على تشكيل سيف من قطعة من النيزك الذي ظنه من النيازك الحديدية؛ إذ يذكر: «فسمع بذلك السلطان محمود بن سبكتكين صاحب خراسان، وهو أول من تلقب بالسلطان، فكتب إلى عامل جورجان بنقل هذه القطعة الحديد، فتعذر عليهم نقلها، فحاولوا كسر قطعة منها فلم تعمل فيها الآلات، فعولج كسر قطعة منها بعد جهد كبير فحملت إليه، فرام أن يصنع منها سيفا له فتعذر ذلك ولم يتم له ما أراد.» وهذا يدل على أهمية النيازك الحديدية في صناعة السيوف على وجه الخصوص.
وهناك الكثير من الأمثلة على استخدام حديد النيازك في تشكيل السكاكين والخناجر والسيوف؛ فنيزك برجي التركي، الذي سقط في عام 1333م، شكل منه عدد من السيوف، لكنها غير معروفة المصير في الوقت الراهن. وتشير بعض الروايات إلى أن الإمبراطور «نور الدين سليم جهانكير»، أمر الصناع بتشكيل خنجر وسكين وسيف من نيزك «قندهار، بإقليم البنجاب الهندي»، الذي سقط في عام 1621م، كما سبق الإشارة. ولا يزال الخنجر معروفا حتى الآن، وهو من التحف الفنية الرائعة.
16
وفي القرن الثاني عشر، سقط نيزك حديدي بالقرب من قرطبة، إسبانيا. واستغل النيزك الساقط في تشكيل عدد من السيوف.
خنجر الإمبراطور نور الدين سليم جهانكير، الذي شكل من حديد نيزكي.
ومن السيوف ذات الأهمية التاريخية الكبيرة، سيف ضابط بريطاني شهير، يدعى «مايلز ستاندش»
Myles Standish ، ولد في عام 1584م بمدينة «شورلي، لانكاشاير، بإنجلترا»، ومات في عام 1656م في مدينة «بلايموث، ماستشوس»، بالولايات المتحدة. وكان بحوزته عدد من السيوف، قدم أحدها للعرض في صالة «بليجرم»، بمدينة «بلايموث»
، «ماستشوس»، في عام 1824م. وتتضارب الروايات المسجلة عن الشخص الذي قدم هذا السيف لصالة المعرض، فيذكر بعضها: أن أحد ورثته هو الذي أهداه، بينما تذكر الأخرى أن الذي أهداه هو «وليام ترومبول وليامز»
William Trumbull Williams ، من لبنان. وتثبت الكتابات الخاصة بقصة إهداء السيف للعرض بصالة «بليجرم» أن السيدة «عزرا ستاندش» قدمت شهادة على أن السيف من مقتنيات جدها الأكبر «ميلز ستاندش»، فتذكر:
17
أشهد أنا: «عزرا ستاندش» من مقاطعة «نيو لندن»، كونيكتيكت؛ بناء على المعلومات الواضحة المتوفرة لدي واعتقادي الذاتي، أن السيف المقدم من قبل «وليام ترومبول وليامز»، من لبنان - شفاهة - ل «رابطة بليجرم»، في بلايموث، «ماستشوس»، كان ضمن مقتنيات عائلة «ستاندش»، وأحضره جدي الأكبر «صموئيل ستاندش» من «داكسبورو»، كما كنت أخبر بذلك دائما. وأن هذا السيف هو سيف جدي «الكابتن مايلز ستاندش»، الذي يعد من بين المستوطنين الأوائل الذين قطنوا «مستوطنة بلايموث». ولا يوجد لدي أدنى شك في هذه الحقيقة. ونظرا لأن ذاكرتي منصبة على العائلة، ولم أفكر قط في الابن الأكبر، فإن ابن عمي «لودويك ستاندش»
Lodowick Standish
باع السيف للمدعو «وليامز». وعادة ما كان يطلق على هذا السيف: «السيف الأثري»، وكان يعتبر أثرا قيما. والمقبض الحالي ليس هو نفسه المقبض الذي كان في السيف الأصلي؛ فالمقبض الأصلي كان أكبر حجما، وكان يطلق عليه «مقبض السلة». ويوجد رسم للشمس والقمر والنجوم على النصل، ويوجد - على ما أذكر أيضا - الرقم 1149 في دائرة. وتوجد على النصل أيضا حروف ورموز أخرى لا أعرف كنهها تماما.
عزرا ستاندش «بوزرا»، السابع والعشرون من سبتمبر/أيلول، 1824
ويذيل «وليام ترومبول وليامز» رسالة (شهادة) «عزرا ستاندش»، قائلا:
عزرا ستاندش - آنفة الذكر - ظهرت شخصيا قبلي، وسجلت شهادتها على الحقائق الآنفة الذكر.
صرحت به قبلي.
وليام تي. وليامز
وظل السيف معروضا فترة من الزمن في الصالة دون أن يكتب شيء عن تاريخه المعقد، سوى أنه من مقتنيات «مايلز ستاندش». وتذكر نشرات الجمعية أن مواطنا يهوديا من القدس يدعى «جيمس روزيدال»
James Rosedale
زار الرابطة،
18
وفحص النقوش والرموز التي توجد على نصل السيف، وكتب ملاحظات على تاريخ هذا السيف، فيها الكثير من الخلط التاريخي والمعلومات المشوهة، كالتالي: [نقوش وتاريخ سيف «مايلز ستاندش».]
ينتمي هذا السيف، بدون شك، إلى الصناعة الفارسية القديمة، التي يطلق عليها في الشرق «ضربان»
Dharban ، أي شهاب (؟)، وقد صنع هذا السيف من مادة صاعقة حديدية. ولا يوجد أدنى شك في أن هذا السيف سقط في أيدي المسلمين، وقت هزيمة المحارب الفارسي «كوزوري»
Kozoroi (؟)، عندما انتزع منه المسلمون القدس في عهد الخليفة عمر الأول (عمر بن الخطاب رضي الله عنه) في عام 637م.
19
وتظهر النقوش والرموز الموجودة على النصل بجلاء حقيقة انتماء هذا السيف للصناعة الفارسية القديمة. وبفحص نقوش الشمس والقمر الموجودة على النصل عن قرب، يتبين أن وجوها مرسومة داخل صور الشمس والقمر. وبالفحص الدقيق للوجوه، يتبين أن الرسام لم يقصد تمثيلها على أنها صور آدمية، بل على شكل وجوه أسود. ويخبرنا التاريخ أن قدماء الفرس عبدوا الشمس والقمر والنجوم، كآلهة سماوية قوية، خاصة الشمس التي كانت عبادتها شائعة، والأسد ممثلها الأرضي، الذي يصور بعرفه الأشعث، فتشخص صورته تلك إله الشمس الذي يمثله.
ويشتق المعطف الفارسي الحالي، من أساطير الأسلاف، الذين كانوا يصورون الشمس تشع على ظهر أسد يتوجها القمر، وتحيط بها دائرة من النجوم. وكانت السيوف القديمة تصنع من النيازك الحديدية، التي كان يعتقد الناس قديما، ولا يزال الشرقيون المحدثون كذلك، أنها مادة لها تأثيرات سحرية توفر الحظ السعيد والحماية والرعاية لمقتنيها. ويقول المؤرخون العرب أن النبي (محمدا
صلى الله عليه وسلم ) وأتباعه كانوا يتشحون بسيوف «الضربان»، التي عندما يلقى المحارب المؤمن عدو الدين، لا يعمل المحارب شيئا سوى أن يواجه العدو، ويقوم السيف بعمله حيث يمزق العدو. وكانوا يعتقدون (يقصد المسلمين بالطبع) أن تأثير الفلز يشد أزرهم ويقويهم، ويحول دون إجهاد عضلاتهم، ويحفظهم من غزو أو غدر الأعداء. (لا يعرف يقينا من أين أتى الباحث بهذه المعلومات عن المسلمين!)
وترى على النصل ثلاثة نقوش أخرى (واحد على الجانب الذي توجد عليه الشارات والنقوش الفارسية، والآخران على الجانب الثاني)، أضيفت من قبل المحمديين (المسلمين)، بعد فترة زمنية كبيرة من النقوش الفارسية. وتختلف هذه النقوش فيما بينها، كما هو واضح من طريقة عمل اليد التي نقشتها، وكذلك شكل النقوش. وكتب النقش الأول من الاثنين بالخط الكوفي. وتفسيره «يحكم الله عباده بالسلام، ويلقي الرعب في روع الأشرار.» ويوجد على الجانب المقابل من النصل نقشان، كما سبق ذكره من قبل، جزء من واحد منهما يمكن تفسيره؛ يقول: «كل في الله قد ...» ولا يفهم شيء محدد من السطر الأخير، الذي يبدو كما لو كان يشبه الكتابة العددية الرومانية، لكنه ربما كان ذا دلالة لصاحبه الذي خطه بيده، لا لأي أحد آخر غيره. وينطبق نفس الشيء على السطر الثاني الذي يوجد في جانب الكتابة الكوفية. لا يستطيع أحد أن يفكه؛ إذ إنه يمثل مفتاح سحر السيف، ولو فسره أحد آخر إلى جانب صاحبه الأصلي، فإنه يصير في الحال بلا قيمة، كما لو كان قصبة. وقبل أن نختم ملاحظاتنا هذه، دعنا نتأمل أن هناك نقشين منفصلين - كما سبق ذكره - وأيضا نجد هنا نقشا غائرا يصور مرة أخرى دوائر تمثل النار، وحفرة مخروطية تمثل الفلز النيزكي الذي صنع منه هذا النصل.
وبعد ما قدم من معلومات عن السيف، يضيف ملاحظة ختامية يقول فيها:
لا غرابة في أن يخفق الدارسون الأوروبيون والأمريكيون في حل طلاسم هذه النقوش والرموز؛ إذ إن الدارس العربي المتوسط التعليم، والذي يعرف بدون شك لغة بلده الدارجة أكثر من أي أجنبي، لا يمكنه قراءة الكتابة اليدوية بسهولة وبدون قضاء وقت طويل ومجهود مضن؛ فاللغة العربية (الكتابة العربية) مختلفة في ذاتها، على خلاف أي لغة أخرى في العالم. ولا يقوى أي واحد على قراءة الكتابة اليدوية لشخص آخر، وسوف يعرف كم كان صعبا إن لم يكن مستحيلا على أستاذ أو دارس أن يجيد لغة يحتاج إتقانها إلى عمر كامل. وبعد أن حاولت خدمة مالكي هذا الأثر القيم من الماضي، بتقديم قراءة دقيقة وأمينة لهذه الرموز، سأظل، مع خالص احترامي، خادمهم المطيع.
جيمس روزيدال
من القدس المقدسة
20
هذه ترجمة لما ورد مدونا في هامش الكتاب، عن قصة سيف «ستاندش». ولا يقدم السيد «جيمس روزيدال»، الذي دون الملاحظات عن السيف المذكور، تحليلات كيميائية للحديد الذي صنع منه السيف، تثبت أنه من فلز الحديد السماوي، كما هو معروف في الدراسات العلمية. ويعتمد السيد «جيمس روزيدال» على سياق عام: هو أن السيوف القديمة غالبا ما كانت تصنع من حديد النيازك. ويتضح أنه يسوق الأساطير، التي يعجب بها العامة من الناس، بغية تحقيق رواج سياحي للمعرض . كما أنه في تفسيراته خلط تاريخي؛ إذ إن المسلمين حرروا القدس من البيزنطيين، وليس من الفرس؛ حيث استعاد البيزنطيون المدينة من الفرس في عام 629م، وسوف يرى القارئ كثيرا من الخلط والارتباك في كلامه.
ويعد هذا السيف من أهم معروضات الصالة المذكورة. ومما يذكر بهذا الخصوص أن سيدة زارت الصالة، فقالت لابنها تحثه على الاهتمام بهذا السيف: «الجنرال جرانت»
General Grant (أوليسيس إس. جرانت، الرئيس الثامن عشر للولايات المتحدة [1869-1877م]، والذي عرف أنه وحد الجيوش الأمريكية)، زار هذه الصالة في عام 1880م، وشعر بسعادة غامرة عندما تقلد السيف، الذي ربما لم يعجب بشيء أكثر منه في المعرض. وتشدد السيدة على أهمية تاريخ السيف، الذي تذكر أنه ربما يعود لثلاثمائة أو مائتي عام قبل الميلاد. وتذكر أنه سيف دمشقي، عرف تاريخه المعقد عالم اللغات البروفيسور «جيمس روزيدال» من القدس ، الذي استطاع منذ خمس سنوات فقط أن يفسر الرموز والشارات والكتابات التي توجد على النصل.
21
وبالفعل استفاد العاملون بالصالة من الأساطير التي رواها «جيمس روزيدال»، في ترويج مبيعات صالة العرض؛ حيث قام المعرض بعمل نسخ من السيف للبيع، مع البيانات التالية:
22
سيف مايلز ستاندش
تكلم بفخر قلبه، مايلز ستاندش، قائد بلايموث.
هذا السيف الدمشقي، الذي قاتلت به في فلاندرس.
نجفيلو
يعد نصل كابتن بليجرم المهيب أحد أهم وأقيم الآثار التي توجد في صالة بليجرم. واستلمه مايلز ستاندش من الصليبيين، وهو ذو تاريخ مهم، حتى في أيام مايلز. ونسخ سيوفنا المقلدة تطابق بحذق السيف الأصلي، وتظهر حتى النقوش العربية العجيبة التي توجد على نصل السيف الأصلي. وأسعار هذه النسخ بالبريد:
قواطع ورقية، مقابض وأنصال: 1 دولار.
قواطع ورقية، مقابض، أنصال فولاذية: 0,75.
وشاح دبوس: 1.
وشاح دبوس صدئ: 0,50.
Sword of Myles Standish
Spoke, in the pride of his heart, Myles Standish, the Captain of
This is the sword of Damascus I fought with in Flanders.
Longfellow
The famous Damascus blade of the redoubtable Pilgrim Captain is one of the most valuable relics to be seen in Pilgrim Hall. It was handed down to Myles Standish from the Crusaders, and possessed an interesting history even in his day. Our swords are perfectly copied from the original, even in the engraving of the curious Arabic inscription on the blade. Prices by mail:
$1.
0.75.
Scarf Pins, sterling: 1.
Scarf Pins, oxidized: 0.50.
ومن القصص الكاشفة عن أهمية سيوف النيازك، حتى في العصر الحديث، قصة إهداء تاجر المعادن والرسام البريطاني «جيمس سويربي» (1757-1822م) لسيف شكله من قطعة من نيزك رأس الرجاء الصالح،
23
للقيصر الروسي ألكسندر الأول (الملقب في روسيا في ذلك الوقت ب «ألكسندر المبارك» 1777-1825م)، أثناء زيارته لبريطانيا في عام 1814م. فبعد أن أجرى «سميثون تينانت» تحليله على قطعة من الحديد الفلزي الذي عثر عليه في جنوب أفريقيا، وظهر من التحليل أن الحديد يحتوي على 10٪ نيكل، اعتبر «جيمس سويربي» أن نتيجة التحليل الكيميائي تجعل هذا النوع من الحديد مادة مثالية لتشكيل مشغولات نادرة، تكون أعجوبة في العالم. وبالفعل اقتطع جزءا من الكتلة التي بحوزته، والتي كانت أبعادها 2,75 بوصة طولا، 2 بوصة عرضا، 0,75 بوصة سمكا، وسخنها على لهب أحمر، وطرقها ليشكل منها نصل سيف، طوله 2 قدم، وعرضه 1,5 بوصة، لحمه في مقبض من الصلب وأعده في صورته النهائية ليكون جاهزا. وقدمه في عام 1814م للإمبراطور الروسي ألكسندر الأول، كهدية تذكارية بمناسبة زيارته للبلاد، مع خطاب رقيق ذكر فيه للإمبراطور موضع العثور على الحديد الذي شكل منه السيف، ونتائج التحليل الكيميائي، الذي يؤكد أن المادة التي شكل منها نصل السيف مادة فريدة من نوعها، ورجاه في أدب جم أن يقبل منه هذه الهدية:
لو تأذن جلالتكم
شكل نصل هذا السيف من قطعة من الحديد النيزكي، عثر عليها الكابتن «بارو» على بعد حوالي 200 ميل من رأس الرجاء الصالح. وفحص هذه القطعة الحديدية مواطني المحترم «سميثون تينانت»، وأثبت أصلها النيزكي؛ حيث كشف عن وجود 10٪ نيكل بها. ويعتبر هذا السيف الوحيد الذي صنع من هذا الفلز الرائع النادر. إن تفضل جلالتكم بقبوله كرما وشرفا، غاية ما يتمناه خادم جلالتكم المخلص المطيع.
جيمس سويربي، 3 يوليو 1814
ويسجل «سويربي» عمله في إعداد نصل السيف، فيذكر أن النصل شكل بالطرق أثناء التسخين على لهب أحمر، لقطعة الحديد النيزكي فقط ودون أي إضافات أخرى. وتم لي حديد النصل بالطرق على البارد. وتم تطويل المقبض بلحامه بقطعة من الفولاذ. واستغرق العمل حوالي 10 ساعات فقط، وكان عملا سهلا ميسورا؛ نظرا لطبيعة الفلز السماوي الطيع. واستغرق الصقل والحفر يومين تاليين. ولا يعرف أن سيفا شكل من مادة خام كهذه، استغرق مثل تلك المدة القصيرة من الوقت، كالتي استغرقها تشكيل هذا السيف.
24
وربما ينطوي اهتمام الناس قديما بصناعة السيوف من النيازك؛ على معتقداتهم بأن النيازك من المواد المقدسة التي تدعم المحاربين في حروبهم. أو تمثلا لحالات سقوطها، حيث تنقض بقوة على الأرض. ومن الطريف أن يشكل الإنسان الأول أسلحته الحجرية (الأدوات الصوانية) على هيئة أشكال مخروطية، تشبه أشكال النيازك. حتى إن بعض الناس كانوا يطلقون على الفئوس الصوانية، المتخلفة عن حضارات العصور الحجرية، فئوس الصاعقة في إشارة إلى النيازك، وذلك خلال العصور الوسطى. (4) مصدر الزبرجد
تحتوي نيازك البالاسيت، وهي نوع من أنواع النيازك الحديدية-الحجرية، على حبيبات وبلورات كبيرة نسبيا من معدن الأوليفين، الخضراء الفاتحة والخضراء الداكنة (الزيتونية)، والتي ترقى في جودتها إلى الزبرجد الأرضي. وتلتقط تلك الحبيبات والبلورات من بين سبيكة الحديد-نيكل التي تحتويها في تلك النيازك، وتشكل منها فصوص تفوق قيمتها العلمية والمادية الفصوص التي تشكل من معدن الزبرجد المستخرج من مصادر أرضية.
25
ويلمس «جورج فردريك كونز» (1856-1932م)، في كتابه «شكسبير والأحجار الكريمة»،
26
مصادر الأحجار الكريمة التي وردت في أدب وليم شكسبير (1564-1616م). ويؤكد على أن شكسبير لم يذكر في أعماله الكثيرة الزبرجد (الكريسوليت)، إلا مرة واحدة فقط. وقد ورد ذكر الزبرجد بالمشهد الثاني في الفصل الخامس، من مسرحية عطيل التراجيدية. وفيها يذكر «عطيل»، وقد لعبت برأسه مؤامرة «ياجو»، وظن بديدمونة الظنون، فأقدم على خنقها، مع فرط حبه لها، يقول: لو أن السماء أبدلتني بها عالما آخر كاملا جمع على هيئة زبرجدة واحدة متناسقة، ما رضيت.
فص زبرجد (على اليمين) مشكل من حبيبات الأوليفين (على اليسار) التي توجد في نيازك البالاسيت.
ويناقش «كونز» مقتنيات الزبرجد الموجودة في بريطانيا في ذلك الوقت، والتي كانت نادرة جدا، وتتمثل في مجموعة فصوص قيمة، توجد في حجرة الملوك الثلاثة بكاتدرائية «كولونيا»، كان يظن أنها من الزمرد وليس الزبرجد. ويزيد حجم أكبر فصوص هذه المجموعة قليلا عن بوصة واحدة. ولا يعرف من أين أتت هذه المجوهرات الزبرجدية؟ لكن يرجح أنها من مقتنيات ملوك شرقيين، نهبت أثناء الحروب الصليبية، ونقلت إلى بريطانيا. ولا يعرف من أي البقاع كان يستخرج الزبرجد في ذلك الوقت، سوى موضع واحد، هو جزيرة الزبرجد المصرية، التي تقع في البحر الأحمر، على بعد حوالي 40كم من شاطئ منطقة رأس بناس. ويرى «كونز» أن المصدر المرجح للزبرجد في ذلك الوقت هو الأحجار السماوية، خاصة الأنواع الحديدية-الحجرية منها، التي تحتوي على حبيبات كبيرة نسبيا من حبيبات الزبرجد الصافي، الذي يمكن تشكيله كحجر كريم عالي القيمة. وهو ما حصل عليه بنفسه من نيزك حديدي، عثر عليه في منطقة جبل «جلوريتا، نيومكسيكو» الأمريكية. ويتوافق القول بأن النيازك الحديدية الحجرية مصدر للزبرجد، مع ما ذكره القزويني في كتابه «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات»، عن نيزك «جوزجانان»، حيث ذكر أن جواهر عديدة استخرجت من هذا النيزك، بعد سقوطه في عام 396ه/1005م، على الأراضي التي تقع ضمن نطاق أفغانستان الآن. (5) الألماس
تقول الأسطورة الشعبية عن أصل الألماس الموجود في منطقة مناجم كمبرلي الشهيرة بجنوب أفريقيا:
27 «بعدما مرت أيام وليال طويلة على الناس وهم في حزن وكدر، هبطت من السماء الروح المعنية بتحقيق آمال الناس ورغباتهم على الأرض، وهي تحمل سلة ضخمة مليئة بالألماس. وأخذت الروح تغرف بيدها الألماس الموجود في السلة، وتنثره على البقاع التي تطير فوقها، بدءا من وادي الفال، حيث مرت فوق ديلبورت هوب وبيركلي ويست وكليبدم. وبينما كانت تلقي بحفنة وراء حفنة من الألماس على البقاع التي تمر فوقها برتابة وانتظام؛ إذ تتعثر قدماها، وهي تحلق فوق منطقة كمبرلي، بأغصان أشجار الكاميلورن العالية، فانسكب كل الألماس الموجود في السلة فوق المنطقة، وبذلك أصبحت منطقة كمبرلي أغنى الأماكن بالألماس.» هكذا تعكس الأسطورة الشعبية رأي الناس في مصدر الألماس الموجود على الأرض. ولم يخذل البحث العلمي الأسطورة، فعكس بعض الباحثين فحواها في شكل مقالات وأبحاث علمية، ترى أن الألماس سماوي الأصل.
ويبقى السؤال: هل الألماس المعروف لنا من مصادر سماوية؟ قد يكون غريبا هذا السؤال، بعدما عرف الناس أن الألماس يوجد في صخور تأتي من أعماق كبيرة داخل باطن الأرض، لكن السؤال لن يكون غريبا عندما نعرف أن الألماس لم يتكون مع تكون هذه الصخور، بل تشكل قبل تكونها بملايين السنين؛ ومن ثم فإن هذه الصخور ما هي إلا وسيط ناقل للألماس الكامن في باطن الأرض. فما هو مصدر هذا الألماس إذن؟! هناك تفسيران؛ الأول: هو أن الألماس كان موجودا في الأصل ضمن المواد الأولية التي تشكلت منها الأرض أثناء مراحل تكونها الأولى، أي أنه سماوي الأصل؛ والثاني: هو أن الألماس يتكون في باطن الأرض من التئام ذرات عنصر الكربون مع بعضها البعض، تحت تأثير الضغوط العالية في باطن الأرض. ولا يمكن بأي حال من الأحوال ترجيح رأي على الآخر فكلاهما له أسانيده العلمية. ويهمنا هنا الرأي الذي يقول بسماوية الألماس، والذي يعتمد على وجود حبيبات دقيقة من الألماس في النيازك بجميع أنواعها تقريبا؛
28
إذ عندما تتحلل أجسام هذه النيازك بالعوامل الأرضية، تتحرر حبيبات الألماس وتختلط بالرواسب الأرضية، وتنضوي ضمن المكونات الأرضية. كما أن الدراسات الفلكية أثبتت
29
أن الألماس يتكون في النجوم العملاقة، ثم يقذف في الفضاء، ليدخل بعد ذلك في مكونات السحب الغازية التي تتكون منها الأجرام السماوية، والتي من بينها كانت الأرض، فهذا يفسر الأصل السماوي للألماس الموجود في باطن الأرض أيضا، والذي يخرج ضمن مكونات الصخور الناقلة له. وهناك أيضا من يرى أن الألماس لا يوجد فقط في صورة حبيبات صغيرة ضمن مكونات النيازك، بل يوجد على هيئة أجرام سماوية كبيرة!
فهل توجد نيازك ألماسية كما توجد نيازك حديدية؟! يسأل الأكاديمي الروسي «ل. نيكولاييف» في كتابه الشيق «كيمياء الفضاء» هذا السؤال، وينفي إمكانية حدوث ذلك في الطبيعة، ويعرج أثناء الإجابة على هذا السؤال، على رواية «النيزك الذهبي» للروائي الفرنسي الشهير «جول جابرييل فيرن» (1825-1905م)؛ إذ يقول:
30 «هل من الممكن أن تسقط من الفضاء على سطح الأرض أجسام ألماسية ضخمة كالجبال، تلمع وتتلألأ ببريقها الجذاب؟ من بين أعمال الروائي الفرنسي الشهير «جول فيرن» رواية «النيزك الذهبي» التي يذكر فيها مخترع استطاع أن يتوصل لوسيلة ما، يتحكم من خلالها في حركة النيازك العملاقة، وهي في مداراتها خارج الأرض. ويستطيع هذا المخترع التحكم في مسار نيزك ذهبي عملاق ويوجهه نحو الأرض، ولكن قبل إنزاله بدقيقة واحدة بسلام على سطح الأرض، يتذكر الصراع الذي سوف ينشأ بين الشعوب على امتلاك هذا النيزك الذهبي العملاق، ويدرك أن هذا النيزك الذهبي سوف يكون سببا في شقاء الناس وتعاستهم؛ ومن ثم يحرف مساره نحو المحيط.» ثم يكمل: «في الحقيقة لا توجد نيازك ذهبية ولا يتوقع وجودها، وكذلك لا توجد جبال نيزكية من الألماس، ولا يتوقع كذلك وجودها في الطبيعة.»
لكن - على عكس ما يرى الأكاديمي «ل. نيكولاييف» - يرى البعض أن النيازك الألماسية الضخمة موجودة في الفضاء، وأنها ربما تسقط على هيئة نيازك ألماسية براقة على سطح الأرض. فصخر «هيباتيا» قد يكون قطعة من بقايا نيزك ألماسي عملاق، سقط على الأرض في الماضي البعيد وشكل ارتطامه بسطح الأرض ما يعرف بالزجاج الليبي.
31
وللصدمات النيزكية إسهام كبير في تكون الألماس؛ إذ لو تصادف ووجد عنصر الكربون (من الطبيعي أن تحتوي الصخور على الكربون في أي صورة كانت، سواء كان على هيئة فحم أو جرافيت أو ضمن المعادن والصخور الكربوناتية) ضمن الصخور التي تتعرض للصدمات النيزكية، فإن الحرارة العالية والضغط العالي المتولدين عن الصدمة، يقودان إلى تحول الكربون إلى ألماس. ومن أشهر المواقع التي يوجد فيها ألماس الصدمات النيزكية موقع «حوض بوبيجاي»، بشرق سيبريا، روسيا، وموقع «حوض ريس» ألمانيا، ومنطقة «كارا»، بالأورال القطبي.
32
ويوجد الألماس في هذه المواضع ضمن الصخور الزجاجية الناشئة عن الصدمات النيزكية، أو صخور البريشيا الناشئة عن التئام وتجمع شظايا وكسرات الصخور التي تهشمت من الصدمة. ويتحرر الألماس من هذه الصخور بعوامل التجوية؛ ومن ثم يوجد ضمن الصخور المفككة على سطح الأرض، كما هو الحال في العينة التي عثر عليها في منطقة زجاج السيلكا مؤخرا. وتتوقف كمية الألماس التي تتكون عن الصدمات النيزكية على كمية الكربون الموجودة ضمن الصخور التي تتعرض للصدمات، وعلى الحرارة والضغط الذي يتولد عن الصدمة، وهو ما يحدده حجم النيزك وسرعته، وطبيعة الصخور في موقع الصدمة ذاتها. ولا يشترط أن يوجد الألماس في كل مواقع الصدمات النيزكية. وعادة ما يكون الألماس الذي يتكون عن هذه العملية، دقيق الحجم، وملونا (غالبا أسود اللون) ومن ثم يصعب الحصول من الرواسب التي تتكون عن طريق الصدمات النيزكية، على بلورات كبيرة الحجم من الألماس، تصلح في صناعة الأحجار الكريمة، لكن الألماس المنتج من هذه المواقع يستغل في عدد كبير من الأغراض الصناعية، منها أدوات الحفر العميقة في القشرة الأرضية. ويرى بعض الباحثين أن الصدمات النيزكية لا تسهم في تكون ألماس الصدمة فحسب، بل تمتد لتسهم في تكون رواسب ألماس الكمبرليت واللامبرويت المعروفة، ولكن بطريقة غير مباشرة. فمن وجهة النظر هذه، تسهم الطاقة الهائلة المتولدة عن الصدمات النيزكية الضخمة على الأرض في إحداث الشروخ العميقة التي تمتد من سطح الأرض لأعماق كبيرة داخلها، مما يسهم في فتح الطريق لاندفاع ماجما الكمبرليت واللامبرويت، بسرعات كبيرة من الأعماق البعيدة حتى سطح الأرض، حاملة معها الألماس دون أن يتغير. كما يرى بعض الباحثين أن الصدمات النيزكية وراء كثير من العمليات الجيولوجية الداخلية بما تولد من طاقة كبيرة، تسهم في نشاط ما يعرف ب «البقع الساخنة» داخل الأرض، والتي تسهم بدورها في العديد من العمليات الجيولوجية، بما في ذلك عمليات انشطار القارات
33
وانجرافها. وهي العملية التي تحدث ببطء شديد خلال الزمن الجيولوجي. (6) زجاج الصدمات النيزكية
تعتبر المواد الزجاجية، التي تكونها الصدمات النيزكية بالأرض، واحدة من أهم كنوز الصدمات النيزكية. وتنتشر المواد الزجاجية التي تكونها الصدمات النيزكية، في عدد كبير من المواقع على مستوى العالم. واستغل الإنسان زجاج الصدمات النيزكية عبر العصور، بداية من العصور الحجرية حتى الوقت الراهن، في مختلف الأغراض، كأحجار كريمة. (7) التكتيت
يطلق على المواد الزجاجية التي تنشأ من جراء تأثيرات الصدمات النيزكية على صخور القشرة الأرضية في المواضع التي تشهد حوادث الارتطام؛ مسميات مختلفة. ومن بين المسميات التي تطلق على بعضها تسمية «تكتيت». وتعني تسمية تكتيت
tektites
منصهرا، وهي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتيتية «تكتوس»، في إشارة إلى أنها مواد زجاجية نشأت من انصهار مكونات معدنية أرضية، تحت تأثيرات الحرارة المتولدة من عمليات أرضية مختلفة. وأطلقت تسمية «تكتيت» أول الأمر، في عام 1900م، من قبل الجيولوجي الأسترالي «إف. إي. سويس»، في أعقاب دراسته عينات من المواد الزجاجية الطبيعية، التي تتوزع في بعض المناطق المتباعدة، مثل التشيك، وجاوا، وأستراليا.
34
وإن كان «سويس»، أول من درس هذه المواد الزجاجية بصورة تفصيلية، إلا أنه لم يكن أول من اكتشف وجود هذه الأجسام الزجاجية الغريبة؛ إذ يبدو أن عددا من الباحثين لاحظ أو وصف هذه الأجسام الزجاجية، قبل ذلك بكثير.
ومن الثابت أن عالم الطبيعيات التشيكي «جوزيف ماير» - الذي أسس في عام 1787م وأخاه الطبيب «جان ماير» جمعية العلوم التشيكية، التي تحولت الآن لأكاديمية العلوم التشيكية - أشار في عام 1786م إلى وجود معدن الزبرجد في موقع من مواقع وجود زجاج المولدفيت، بجمهورية التشيك الحالية.
35
وكانت إشارته تلك أول إشارة علمية لموضع من مواضع المولدفيت، التي تشبه الزبرجد في خصائصها الخارجية، خاصة اللون والشفافية. واعتبرها صخور بركانية، وكذلك «لينداكر» في عام 1792م، لكن ربما يكون الباحث الشهير «تشارلز داروين» في عام 1844م؛ أول من لفت انتباه الأوساط العلمية لظاهرة انتشار الأجسام الزجاجية الطبيعية؛ إذ إنه وصف أثناء رحلته الشهيرة حول العالم على ظهر السفينة «بيجل» الأجسام الزجاجية، التي توجد على ساحل «تاسمانيا»، بالقرب من «موينت داروين». وهي الأجسام الزجاجية التي يطلق عليها «تسامانيت» أو «زجاج داروين»، حيث اعتبرها بمثابة مقذوفات بركانية أو زجاج بركاني «أوبسيديان».
36
والتكتيت عبارة عن أجسام زجاجية، ذات أشكال مختلفة، بيضاوية، أو كروية، وأحجام صغيرة نسبيا تقدر ببضعة سنتمترات. وتتباين ألوانها من الأخضر والبني والأسود. وتتوزع في أماكن معينة من الكرة الأرضية؛ حيث توجد على هيئة تجمعات متناثرة على سطح الأرض، ولا توجد علاقة واضحة بينها وبين الصخور أو التكاوين الجيولوجية التي توجد عليها. وهي من هذه الوجهة تحديدا تشبه الأحجار السماوية المتساقطة على الأرض، وهو ما دعا بعض الباحثين الأوائل إلى اعتبارها نوعا من النيازك الزجاجية، التي سقطت على الأرض من أزمنة بعيدة.
ويوجد عدد من المواقع الكبيرة والمشهورة لتجمعات التكتيت على مستوى العالم، من أهمها: تكتيت نهر «مولدفيا» بإقليم «بوهيما»، بجمهورية التشيك، المعروفة باسم «مولدفيت»، وتكتيت ساحل العاج وتكتيت أستراليا، المعروفة باسم «استراليت»، وهي أكبر حقل معروف للتكتيت على مستوى العالم، وتكتيت منطقة الهند الصينية، المعروفة باسم «إندو-تشينايت»، وتكتيت جزر الفلبين المعروفة باسم «فليبينيت»، وموقع تكتيت شمال أمريكا، بالقرب من «بيدياس»، تكساس، الذي يطلق عليها «بيدياسيت». وفي جميع هذه الحالات، يصاحب تجمعات التكتيت الكبيرة الحجم، تكتيت مجهرية، في مياه المحيطات المجاورة، باستثناء «المولدفيت»، التي لم يثبت حتى الآن وجود تكتيت مجهرية بحرية مصاحبة لها. وتشبه التكتيت صخور الأوبسيديان البركانية الأرضية، إلا أنها تختلف عنها من حيث النشأة؛ حيث لا توجد أي علاقة بين التكتيت والبراكين الأرضية.
وتتكون التكتيت كيميائيا من السيلكا (ثاني أكسيد السيلكون)، التي تشكل 60-80٪ من جملة المكونات الكيميائية للتكتايت، مع الألومنيا، بنسبة تقارب 10٪، بالإضافة إلى نسب بسيطة من أكاسيد الكالسيوم، والماغنسيوم، والصوديوم ، والبوتاسيوم. ومن هذه الوجهة فإن التكتيت لا تشبه النيازك أو أي من الصخور البركانية الأرضية، لكن هذا المحتوى الكيميائي يتشابه مع بعض الصخور الأرضية، كالحجر الرملي، واللويس (صخور رسوبية مفككة).
وقد اختلف الباحثون حول أصل التكتايت؛ فمنهم من رأى أنها نشأت من عمليات البركنة «أصل بركاني»؛ وذلك نظرا للتشابه الكبير بينها وبين الصخور البركانية، مثل صخور «الأوبسيديان»، على وجه الخصوص. ولما اعترض البعض على هذا الرأي، رأى آخرون أنها من أصل بركاني، ولكن ليست من براكين أرضية، وإنما من البراكين القمرية، وهكذا نظر إليها على أنها «نيازك قمرية»، لكن الأصل البركاني الأرضي، والبركاني القمري للتكتيت، واجها اعتراضات منطقية؛ فهي لا تتشابه من حيث المحتوى الكيميائي مع الصخور البركانية الأرضية، كما أن غالبية توزيعات التكتيت المعروفة، لا توجد بجوار مواقع بركنة أرضية، يمكن الربط بينهما. أما الأصل القمري للتكتيت (أو الخارجي بصفة عامة)، فإنه يواجه مشاكل منطقية كثيرة، لعل أبسطها وأهمها هي أنها لم تشاهد وهي ساقطة مثل النيازك، وعدم انتشار الصخور الغنية بالسيلكا في قشرة القمر، التي يمكن أن تشتق منها هذه المادة التي تتكون أساسا من السيلكا، وعلى العكس من ذلك فإن الصخور السائدة في القمر صخور قاعدية. ناهيك عن الجدل الذي ثار بين الباحثين فترة طويلة من الزمن، عن صواب الرأي القائل بوجود براكين نشطة حديثة على سطح القمر أو المصادر الخارجية الأخرى. ومن الآراء الأخرى رأي يزعم أن التكتيت، هي المواد التي تنصهر على أسطح النيازك أثناء مرورها في جو الأرض، ثم تتجمع وتتصلب على هيئة مواد زجاجية. ويلقى نفس الانتقادات التي وجهت إلى الرأي القائل بأنها من خارج الأرض.
والرأي الذي يلقى القبول هو الذي أعلنه «ل. ج. سبنسر»، في ثلاثينيات القرن العشرين،
37 ،
38
ويرى من خلاله أن التكتيت مواد زجاجية، تكونت من انصهار الصخور الأرضية، بالحرارة الشديدة التي تنشأ عن ارتطام النيازك العملاقة بالأرض، ثم تصلدها على هذه الهيئة. وما يراه الباحثون مناسبا الآن هو أن التكتيت تمثل أبخرة الصخور التي تتطاير في الجو من تأثير ارتطام النيازك الضخمة بالأرض؛ فالحرارة العالية التي تولدها الصدمات النيزكية بالأرض تكون كافية لأن تصهر الصخور في نقطة الارتطام وتبخرها، لتندفع في الجو حيث تتكاثف وتتصلب، ثم تسقط ثانية على سطح الأرض في مكان قريب أو بعيد (مئات الكيلومترات) عن موقع الصدمة النيزكية التي كونتها أصلا. وعلى سبيل المثال، يرى البعض أن تكتيت «المولدفيت» الشهيرة، التي يبلغ عمر تكونها حوالي 14,8 مليون سنة، تكونت في الأراضي الألمانية، من الصدمة النيزكية التي أحدثت فوهة ال «ربس»، التي يبلغ قطرها حوالي 24كم، وانتقلت في الجو حتى موقع تساقطها، وهو الموقع الحالي الذي توجد به. ويرى البعض أن تكتيت «الاستراليت» التي تنتشر في عدد من المواقع، نتجت من صدمة نيزكية حدثت منذ قرابة 700 ألف عام، من صدمة مذنب ضخم وقعت في مكان ما بالقرب من جنوب أستراليا. ونظرا لعدم وجود حفرة أو فوهة نيزكية ظاهرة، يتوقع البعض أن الفوهة ربما تكون موجودة أسفل المياه، في المنطقة الواقعة الآن بين أستراليا والقارة القطبية الجنوبية. ويرى بعض الباحثين أن التكتيت المعروف باسم تكتيت بحر الأورال كانت مصاحبة للحدث الذي نشأت عنه صدمة فوهة «زاماتشبن»، التي يبلغ قطرها 10-15كم، والتكتيت المعروف باسم تكتيت «غانا» (عمرها 1,3 مليون سنة)، كان تكونه مرتبطا بالحدث النيزكي الذي أحدث فوهة «بوسمتاوي» النيزكية، التي يبلغ قطرها 10كم، بينما لا يصاحب زجاج «تكساس» حدثا نيزكيا أحدث فوهة معروفة أو مكتشفة حتى الآن.
ونظرا لأن التكتيت مواد زجاجية شفافة إلى نصف شفافة (خاصة في الشرائح الدقيقة السمك) ذات ألوان مختلفة، فإنها تستخدم كأحجار كريمة؛ إذ تنشر بآلات القطع الدقيقة، وتشكل على هيئة فصوص صغيرة، تصقل فتظهر عناصر جمالية مميزة، تجعلها تستغل في أغراض الزينة. واستغلت مادة «المولدفيت» في هذه الأغراض، على مدى طويل من الزمن، وحتى الوقت الحاضر. كما يبدو أن كثيرا من المواد الزجاجية الموجودة ضمن المقتنيات الأثرية؛ يبدو أنها من التكتيت، وإن كان يشار لها على أنها زجاج بركاني في التعريفات المبدئية للمواد الأثرية. (8) زجاج السيلكا
من بين أهم أنواع المواد الزجاجية التي ارتبط تكونها بالصدمات النيزكية؛ زجاج السيلكا المصري، الذي يعرف في غالبية المراجع العلمية باسم «الزجاج الليبي». وزجاج السيلكا عبارة عن مادة زجاجية طبيعية فريدة من نوعها، لا يوجد لها نظير على مستوى العالم، وإن بدت لغير المتخصصين، كما لو كانت زبرجدا حقيقيا؛ حيث غالبية كسراتها تميل إلى اللون الأخضر الداكن أو الفاتح. وتوجد على هيئة كسرات مختلفة الأحجام، متناثرة على سطح الأرض أو مدفونة جزئيا أو كلية في الرمال التي تغطي غالبية مكاشف صخور المنطقة، ومختلطة بكسرات مشتقة من الصخور التي تتكون منها المنطقة. وتوجد هذه المادة الفريدة على طرف الجزء الجنوبي الغربي من بحر الرمال العظيم، بالصحراء الغربية المصرية، وعلى بعد حوالي 50كم من خط الحدود السياسية بين مصر وليبيا، في منطقة من أشد بقاع العالم جفافا الآن. وتوصف المنطقة التي توجد بها كسرات زجاج السيلكا، على أنها عبارة عن سهل منبسط نسبيا من الحجر الرملي الذي ينتمي إلى عصر الطباشيري العلوي، ولا يوجد بها الكثير من الظواهر الطبوغرافية المميزة، سوى تل مرتفع نسبيا (96م)، عن مستوى سطح المنطقة المحيطة يعرف باسم «قارة الحنش»، وعدد قليل من التلال المتوسطة الارتفاع المتناثرة بمنتصف المنطقة ومن حولها. وتغطي المنطقة جزئيا الرواسب المفككة من حصى ورمال، والكثبان الرملية الطولية، التي تمتد عشرات الكيلومترات من الشمال إلى الجنوب، في شبه انتظام، وترتفع إلى حوالي 100 متر عن مستوى سطح الأرض، وتنفصل عن بعضها البعض بمناطق صخرية، أو مغطاة جزئيا بالرمال والحصى وسائر الرواسب المفككة، الناشئة أصلا من فعل الرياح على الصخور المكونة للمنطقة. وأقرب الواحات المصرية إلى المنطقة واحة الداخلة التي تقع على بعد حوالي 300كم إلى الشرق من منطقة توزيع زجاج السيلكا، وواحة الكفرة في ليبيا. ويمكن بصعوبة الوصول إلى المنطقة عن طريق واحة سيوة من الشمال، بقطع مسافة 400كم، خلال بحر الرمال العظيم. كما يمكن الوصول إليها من الجنوب، عن طريق الدوران والمرور إلى الغرب من هضبة الجلف الكبير.
وتوجد الغالبية العظمى من مادة زجاج السيلكا، على هيئة كسرات صغيرة الأحجام، ولا تزيد عن بضعة سنتمترات. وأكبر قطعة معروفة يبلغ وزنها حوالي 26 كيلوجراما. وتوجد قطع متوسطة الأحجام تصل أبعادها بضعة سنتمترات، وتصل أوزانها 4 كيلوجرامات. وتتكون مادة زجاج السيلكا أساسا من السيلكا (ثاني أكسيد السيليكون)، الذي تبلغ نسبتها بها حوالي 98٪. كما تحتوي على أكاسيد عناصر أخرى بنسب بسيطة، منها أكاسيد الحديد، والألومنيوم، والكالسيوم، والصوديوم، والبوتاسيوم، وهي بهذا التركيب تشبه إلى حد كبير الزجاج الصناعي. ومادة زجاج السيلكا مادة شفافة إلى نصف شفافة، تتباين ألوانها تباينا كبيرا، فمنها الأبيض ومنها الأسود والرمادي الضارب إلى الزرقة. إلا أن اللون الغالب هو الأخضر الغامق أو الفاتح أو الأخضر المائل إلى الاصفرار. ومن هنا فإن زجاج السيلكا يبدو كما لو كان زبرجدا حقيقيا. وفي التصنيف الذي أعده الدكتور درويش الفار لمجموعة زجاج السيلكا ضمن معروضات المتحف الجيولوجي، على حسب اللون، يظهر فيه قسم من زجاج السيلكا شبيه بالزبرجد.
39
وتبلغ صلابة زجاج السيلكا حوالي 6 درجات على مقياس موه للصلابة. وبذلك تقارب صلابة هذه المادة صلابة الزبرجد الحقيقي. وتحتوي بعض عينات زجاج السيلكا على فقاعات هوائية حبيسة، ومكتنفات من معادن أخرى، تبدو على هيئة بقع بيضاء. وبينت الدراسات المختلفة - التي أجريت لتحديد العمر الجيولوجي أو عمر تكوين زجاج السيلكا، بطرق عديدة، منها طريقة النظائر المشعة، وطريقة تحليل مسارات الانشطار - أنه تكون من حوالي 25 إلى 33 مليون سنة، بمتوسط عمر يقارب 28,5 مليون سنة.
40
ويعتبر أصل زجاج السيلكا من أهم المشاكل الجيولوجية، في مصر والعالم؛ ومن ثم فقد ظل السؤال عن كيفية تكون هذه المادة مطروحا، بدون وجود إجابة مقنعة عشرات السنين. ولعل السبب في ذلك اهتمام الدراسات التي أجريت بهذا الخصوص - إلى وقت قريب - على مادة زجاج السيلكا ذاته، دون اهتمام يذكر بالمنطقة التي يوجد بها، ودون الاهتمام بالظواهر الجيولوجية، أو دراسات جادة على المكاشف الصخرية. ولا حيدة عن تسجيل أن الرحلات التي كانت تنظم إلى منطقة زجاج السيلكا كانت تهدف في الأساس إلى جمع أكبر كمية ممكنة من هذه المادة، ونقلها إلى الخارج بغية دراستها، أو توزيعها على المتاحف، لكن يجب الإشارة إلى أن الدراسات التي أجريت على مادة زجاج السيلكا ذاتها أثرت المعارف الخاصة بالمواد الزجاجية التي تنتشر في بقاع عديدة من العالم. وأن هذه الدراسات كانت مفتاحا مهما لإثبات فرضية الصدمة النيزكية، التي كونت زجاج السيلكا. وقد أدى ذلك إلى ظهور عدد من الفرضيات العلمية، عن كيفية نشأته ومكان تكونه. ويمكن إيجازها في ثلاثة فروض رئيسية؛ فرضية الأصل الأرضي الخالص، وفرضية الأصل السماوي الخالص، وفرضية الأصل الأرضي السماوي.
يفترض بعض الباحثين أن زجاج السيلكا عبارة عن مادة سماوية (أي أنها ضرب من النيازك الغريبة)، مشتقة من مصادر سماوية غير معروفة. ويرى باحثون من أنصار هذه الفرضية أنها مشتقة من صخور القمر، تحديدا الزجاج البركاني القمري.
41
ولا يحظى هذا الرأي بقبول واسع بين الأوساط العلمية. كما يواجه اعتراضات منطقية، من قبيل أن مادة زجاج السيلكا تتكون من نسبة عالية من ثاني أكسيد السيلكون، لا تتناسب مع مكونات صخور قشرة القمر التي يغلب عليها الصخور البازلتية. فلو فرضنا أن مادة زجاجية اشتقت من صخور القمر، فإنها لا يمكن أن تحتوي على هذه النسبة العالية من السيلكا، بل تحتوي على عناصر أخرى تجعلها تميل إلى الصخور القاعدية، لا إلى الصخور الحمضية. كما أن هناك صعوبة في تفسير كيفية نزع كمية كبيرة من صخور القمر، ودفعها بقوة كي تفلت من جاذبية القمر. صحيح أن هناك صخورا من القشرة القمرية، تسقط على سطح الأرض على هيئة نيازك، لكنها في الواقع صغيرة الحجم.
ويرى عدد قليل من الباحثين أن زجاج السيلكا مادة أرضية خالصة، تكونت تحت ظروف جيولوجية عادية، شأنها شأن الصخور الرسوبية الأخرى كالكالسيدوني. ويرى أنصار هذا الفرض أنها تكونت من ترسيبات محاليل في مياه البرك.
42
ومنهم من يدعي أنها تكونت من نواتج بركانية، أو من تأثيرات حرارة أرضية، على صخور المنطقة، نشأت من احتراق طبقة من الفحم. ولا يحظى هذا الرأي أيضا بقبول كبير بين الأوساط العلمية؛ فرواسب البرك التي يرى البعض أن زجاج السيلكا تكون فيها أحدث في العمر الجيولوجي (هولوسين )، عن العمر المقدر لزجاج السيلكا. كما لا توجد دلائل على وجود طبقة الفحم الضخمة التي احترقت وصهرت صخور الحجر الرملي وكونت زجاج السيلكا، ولا توجد دلائل على وجود أي أنشطة بركانية في المنطقة.
وتلقى نظرية الصدمة النيزكية القبول من قبل العديد من الباحثين. ويرى أنصارها أن زجاج السيلكا تكون من تأثير الحرارة المتولدة من ارتطام جرم سماوي على كثبان رملية أو حجر رملي نقي؛ إذ الحرارة العالية صهرت الصخور، وتكون عنها مصهور تصلد سريعا مكونا هذه المادة الزجاجية، ولكن أين حدث ذلك؟ ظل هذا السؤال بدون إجابة وافية فترة كبيرة من الزمن. فعدم التعرف على وجود شواهد الصدمة بالمنطقة فتح الباب لظهور اجتهادات عديدة بين أنصار فرضية الصدمة، لا تقل غرابة عن الفروض الأخرى؛ فالبعض يرى أنها تكونت في مكان بعيد عن موقعها الحالي، خارج الحدود المصرية، خاصة في ليبيا، نظرا لوجود تراكيب دائرية تبعد حوالي150كم إلى الغرب من موقع زجاج السيلكا، لكنه لا يقدم تعليلا وافيا عن الكيفية التي انتقل بها من هذه الأماكن إلى موضعه، كفوهات ليبيا لم يثبت بالفعل تكونها بالصدمات النيزكية. وتوافرت دلائل قوية في الآونة الأخيرة، على وجود شواهد الصدمة النيزكية في المنطقة ذاتها، دون الحاجة إلى البحث عن موقع الصدمة خارج نطاق المنطقة، كما أشارت دراسات أخرى سابقة. وثبت أن زجاج السيلكا مرتبط أصلا بصخور الحجر الرملي بالمنطقة، وليس برواسب البرك كما يدعي أنصار الفرض.
إذ تم الكشف عن وجود شروخ دقيقة (مجهرية) في بنية معدن الكوارتز، الذي يكون الحجر الرملي بالمنطقة، وهذه الشروخ تتبع مستويات بلورية مميزة ولا تنشأ إلا من الصدمات النيزكية. وتم تسجيل وجود صخر البريشيا، الذي يرتبط تكونه بالصدمة النيزكية التي وقعت على المنطقة. وثبت وجود حبيبات من الحديد - كروم - نيكل ببعض عينات البريشيا من المنطقة. وهذه تشبه مثيلاتها التي اكتشفت في فوهة «الريس»، بألمانيا، واعتبرت من أقوى الدلائل على وجود صدمة نيزكية، خاصة بنيزك كربوني. إذن فوجود هذه الحبيبات الدقيقة لا يدل على الصدمة وحسب، بل يحدد نوع النيزك الذي ضرب الأرض.
43
ويرجع الاهتمام العلمي بزجاج السيلكا إلى 29 ديسمبر عام 1932م على إثر إعادة اكتشافه من قبل المستر «باتريك كليتون»، من مصلحة المساحة المصرية، أثناء قيامه بأعمال مساحية تتعلق بالظواهر الطبوغرافية، في الجزء الجنوبي الغربي من الأراضي المصرية. وأعاد هذا الكشف إلى دائرة الضوء ما ذكره (فريسنل) في عام 1850م من أن «الحاج حسين» الذي كان يقود قافلة من الجمال في عام 1846م، تحركت من واحة الكفرة (في ليبيا) قاصدة أبا منقار (واحة الفرافرة في مصر) لاحظ وجود كميات كبيرة من كسرات الزجاج على سطح الأرض، على مسافة تقدر بمسيرة يومين إلى ثلاثة أيام من الكفرة نحو أبي منقار.
44
ولم يكن «باتريك كليتون» ولا الحاج حسين أول من عرفا زجاج السيلكا؛ إذ إن زجاج السيلكا اكتشف أول الأمر من قبل إنسان العصور الحجرية، الذي كان يقطن المناطق الجنوبية الغربية، من الأراضي المصرية، والمناطق المجاورة من الأراضي الليبية، خلال زمن ما قبل التاريخ، وقت أن كان المناخ مواتيا، وكانت المياه متوفرة بتلك البقاع الجافة الآن. واستغل إنسان العصور الحجرية زجاج السيلكا في صناعة الأدوات الحجرية، بل استحسن هذه المادة، ونقلها إلى أماكن بعيدة عديدة، منها، على سبيل المثال، منطقة أبي بلاص، والجلف الكبير، والعوينات، وبالقرب من واحة الكفرة، في ليبيا. وما زالت بقايا كسرات زجاج السيلكا، المتخلفة عن أنشطة الإنسان القديم، توجد في بعض المواقع بالمنطقة ذاتها. وهي التي يحلو للباحثين إطلاق تسمية «الورش» عليها، باعتبارها تمثل مراكز تشكيل الأدوات الحجرية قديما. وتوجد قطع من الزجاج ضمن مخلفات العصور الحجرية القديمة التي عثر عليها في منطقة الخارجة، محافظة الوادي الجديد.
وعرف المصري القديم في وادي النيل زجاج السيلكا، واستغله كحجر كريم؛ إذ تم الكشف مؤخرا عن وجود فص صغير من مادة زجاج السيلكا، في قلادة ذهبية مطعمة بعدد كبير من الأحجار الكريمة الأخرى، من مقتنيات «توت عنخ آمون» (1336ق.م.) الموجودة بالمتحف المصري. ولما كانت مادة زجاج السيلكا لا توجد إلا في مكان واحد على مستوى العالم، وهي منطقة بحر الرمال العظيم بالصحراء الغربية المصرية، فإن ذلك يعني أن قدماء المصريين وصلوا إلى هذا الموقع، وجلبوا هذه المادة الفريدة، أو اتصلوا بشكل أو بآخر مع سكان التخوم الجنوبية الغربية آنذاك. ويؤكد هذا الكشف اهتمام الإنسان عبر العصور بزجاج السيلكا.
وظهرت في الفترة الأخيرة دراسة
45
تؤكد معرفة الرحالة العرب لهذه المادة الفريدة، قبل أن يكتشفها «باتريك كليتون» في عام 1932م، بألف سنة تقريبا؛ إذ ذكر الجغرافي والرحالة المعروف الإصطخري، الذي عاش في القرن العاشر الميلادي، في كتابة المعنون «المسالك والممالك»
46
وجود معدن الزبرجد في الجزء الجنوبي من مصر. وقد حدد الموقع الذي يوجد فيه الزبرجد، على الجزء الجنوبي الغربي من نهر النيل، وإلى الغرب من الواحات، على الخريطة التي رسمها لمصر، في هذا الكتاب، لكن عدم وجود معدن الزبرجد بالصحراء الغربية، أو أي مادة أخرى - غير زجاج السيلكا - يمكن أن تتشابه والزبرجد، يؤكد على أن الإصطخري يعني بالزبرجد مادة زجاج السيلكا، التي تشبه إلى حد كبير الزبرجد. وهذا من شانه أن يؤكد معرفة العرب بهذه المادة الفريدة، قبل إعادة اكتشافها من قبل باتريك كليتون في عام 1932م. (9) زجاج الداخلة
من بين كنوز الصدمات النيزكية زجاج الداخلة، الذي اكتشف حديثا بالأراضي المصرية. وهو نوع غريب من المادة الزجاجية الطبيعية، التي توجد على هيئة كسرات لا يزيد قطر أكبرها كثيرا عن 4سم، توجد ضمن رواسب البلستوسين التي تغطي عشرات الكيلومترات ، في واحة الداخلة بالصحراء الغربية المصرية. وتتباين ألوان هذا الزجاج تباينا كبيرا، من الأخضر الداكن إلى الأسود. وبعض عينات زجاج الداخلة ذات لمعان أزرق باهت. ويشبه هذا الزجاج في كثير من خصائصه زجاج الصدمات النيزكية. وفي حقيقة الأمر، فقد عرف هذا الزجاج من قبل سكان المنطقة من أزمنة بعيدة، لكن كان يشار إليه في العادة على أنه مادة زجاجية، دون الخوض في طبيعته، ولا في كيفية تكونه، لكن من فترة وجيزة أشارت إحدى بعثات الآثار الألمانية التي كانت تعمل في نطاق واحة الداخلة خلال المواسم الحقلية 2002، 2003، 2004، إلى اكتشاف ما اعتبرته حدثا كارثيا خلال العصر الحجري المتوسط (100 ألف سنة إلى 200 ألف سنة)، تمثل في سقوط جرم سماوي على واحة الداخلة، نتج عنه مواد زجاجية كثيفة، تكثر بها الفجوات، والمكتنفات الغريبة. وتتوزع قطع زجاج الداخلة في مساحات شاسعة، ضمن رواسب البحيرات العذبة التي تنتمي لعصر البليستوسين. ودرس الباحثون والمتخصصون في دراسة زجاج الصدمات النيزكية؛ قطعا من هذا الزجاج، وأعلنوا أنه ينتمي للزجاج الذي تكونه ارتطامات النيازك الضخمة بالأرض. وأكد الباحثون على التشابه الكبير بينه وبين زجاج الصدمات النيزكية. أي أن زجاج الداخلة نشأ من تأثير ارتطام جرم سماوي على المنطقة، مما أدى إلى صهر المكونات الأرضية وتبخرها في الجو ثم تكاثفها وتصلدها لتسقط ثانية على الأرض على هذه الشاكلة. ونظرا لعدم اكتشاف فوهة نيزكية بالمنطقة - حتى الآن - فإن البعض يرى إمكانية تكون زجاج الداخلة من احتراق الجرم السماوي في الجو قبل ارتطامه بالأرض، وانصهار مكوناته وتبخرها، ثم تكاثفها وتصلدها على هيئة جسيمات زجاجية صغيرة، سقطت على الأرض على هذه الشاكلة التي يوجد عليها زجاج الداخلة.
47 ،
48 ،
49
ويبدو أن زجاج الداخلة، هو الذي شغل الرحالة العرب القدامى، فأشاروا إلى وجوده في الواحات الجنوبية المصرية، باعتباره حجرا كريما يستخرج من موضعه ويحمل ليشكل ويباع في العاصمة؛ إذ ذكر بعض المؤرخين والرحالة العرب وجود مادة أطلقوا عليها لازورد في نطاق الواحات الخارجة في الصحراء الغربية. فعلى سبيل المثال، يسجل ابن عبد المنعم الحميري، المتوفى في 900ه/1495م، في كتابه «الروض المعطار في خبر الأقطار»، في معرض حديثه عن الواحات التي توجد في الصحراء الغربية المصرية، وجود معدن اللازورد، حيث يذكر:
50 «وفي أرض الواحات الخارجة جبل معترض فيها سامي الذروة، فيه معدن يستخرج منه حجر اللازورد ويحمل إلى أرض مصر فيصرف.»
الواقع أن البيئات الجيولوجية المعروفة في نطاق الواحات الداخلة والخارجة لا تشجع إمكانية تكون معدن اللازورد الحقيقي. والمكان الوحيد الذي يمكن أن يتكون فيه اللازورد هو منطقة «أبو بيان»، جنوب الواحات الخارجة، حيث تتداخل صخور نارية حامضية مع الصخور الجيرية. في هذا الموضع يمكن أن يتكون اللازورد الحقيقي. وربما يعني اللازورد المقصود في كتابات الرحالة العرب، معدنا أزرق وحسب، وفي هذه الحالة ربما يكون ذلك المعدن هو ال «لازوليت»، وهو معدن من معادن الفوسفات، لونه أزرق. وهذا يمكن أن يوجد على هيئة جيوب في صخور فوسفات هضبة «أبو طرطور»، التي تقع بين الواحات الداخلة والخارجة. وربما ينطبق هذا الوصف أيضا على زجاج الداخلة، الذي يوجد بين واحتي الداخلة والخارجة؛ فالرحالة العرب لم يفرقوا كثيرا بين الواحات الجنوبية. وربما يعني تسمية الخارجة في كتاباتهم البعد عن نهر النيل؛ فالواحات الداخلة التي تبعد أكثر عن الواحات الخارجة من نهر النيل، كانت هي بمثابة الواحات الخارجة. كما أن اللازورد يعرف أيضا بمسمى «عوهق»، وهو معدن أو مادة سوداء لها لمعان أزرق. وهذه المادة تشبه ال «أوبسيديان». وهي قريبة جدا من زجاج الداخلة.
51
وربما يكون زجاج الداخلة مصدر المواد الزجاجية الطبيعية، التي استغلت من قبل قدماء المصريين، والتي توجد في عدد من المقتنيات الأثرية؛ إذ يوجد في التماثيل المصرية القديمة قطع زجاجية طبيعية، تشكل عيون التماثيل الكبيرة على وجه الخصوص. وحير مصدر هذه المواد الزجاجية الباحثين. فلم يكن يعرف مصدر محدد لها ضمن المواد الطبيعية المعروفة في مصر؛ ومن ثم فقد افترض أنها من صخور «الأوبسيديان» البركانية الزجاجية، التي توجد في أثيوبيا، ولا توجد في مصر؛ ومن ثم فقد افترض الباحثون أن المصريين القدماء حصلوا على هذه المواد الزجاجية من مصادر تقع خارج البلاد.
الفصل العاشر
أسطورة «أطلانطس» والنيازك
قطعتان عملاقتان من ذلك الجرم هوتا في البحر، لتشكلا خندق «بورتريكو»، وأصابت قطع أخرى منه مواضع مختلفة من الأرض، منها ما أصاب قشرة الأرض في مواضع حساسة ... وهزت «أطلانطس» الزلازل المدمرة، ووقعت الجزيرة بأسرها في شرك من نار، وغاصت في قاع المحيط. ولم يترك شيء في الموضع سوى قمم البراكين التسع التي تغطيها الحمم البركانية، والتي تشكل اليوم جزر «الأزور» ... ***
تشير أسطورة «أطلانطس» التي وردت في الأدب الإغريقي (كتابات أفلاطون على وجه الخصوص)، وما تلاه من أدب؛ تشير إلى وجود حضارة قديمة متطورة، كانت موجودة منذ آلاف السنين، في المحيط الأطلنطي فيما وراء مضيق جبل طارق. وكانت تلك الحضارة - على حد اعتقاد من يعتقدون في هذه الأسطورة - أرضا فسيحة، بها حدائق «الهسبريدوس»
Hesperides ، أي الحدائق الغربية. وشغلت هذه الأسطورة الباحثين والكتاب والمؤرخين على مر العصور، فاختلفوا فيما بينهم في احتمال وجود هذه الحضارة من عدمه، واختلفوا كذلك في مكانها، وفي سبب فنائها. (1) أطلانطس كما رواها «أفلاطون»
يذكر الأستاذ محمد العزب موسى في كتابه «حضارات مفقودة»
1
أن الفيلسوف الإغريقي «أفلاطون» (يختلف في تاريخ ميلاده ما بين 428-423ق.م. وتاريخ وفاته ما بين 348-347ق.م.)، هو أول من سجل قصة هذه الحضارة المفقودة في السجلات التاريخية (أي كتبها ودونها على الورق)؛ إذ إنه في حوالي عام 350ق.م. ذكر أفلاطون قصة أطلانطس في سياق محاورتين من محاوراته الشهيرة هما «تيماوس» و«كريتياس». ويبدو أن أفلاطون كان ينوي أن يكتب ثلاثية، تحتل فيها قصة أطلانطس مكانا بارزا، ولكنه أنجز فقط محاورة واحدة منها، وجزءا من المحاورة الثانية؛ الأولى بعنوان «تيماوس» والثانية بعنوان «كريتياس» وكشأن محاورات أفلاطون الأخرى، فإن معلمه سقراط يلعب الدور الرئيسي في هاتين المحاورتين، وأما محاوروه الرئيسيون، فهم «تيماوس» وهو فلكي من البلاد الإيطالية، و«كريتياس» وهو شاعر ومؤرخ وقريب من بعيد لأفلاطون، و«هرموقراطيس» وهو قائد عسكري من «سيراكوزا». وهؤلاء الأربعة هم أنفسهم الذين أشركهم «أفلاطون» قبل ذلك بسنوات في محاورته الشهيرة عن «الجمهورية»، والتي وعد فيها بأن يكتب ثلاثية جديدة تستمر خلالها المناقشة بين الرجال الأربعة بالتفصيل حول الحكومة المثالية. وقد جعل أفلاطون هؤلاء الرجال الأربعة يجتمعون في منزل «كريتياس» في أحد أيام شهر يونيو عام 421ق.م. ومن المفروض أن تبدأ محاورة «تيماوس» في اليوم التالي لانتهاء المناقشة التي وردت في محاورة «الجمهورية». ويبدأ الرجال الأربعة بتذكر النقط الرئيسية في محاوراتهم السابقة، ثم يشير «هرموقراطيس» إلى قصة قديمة وردت في التراث القديم، ذكر أن «كريتياس» يعرفها جيدا وتحت إلحاح الرجال الثلاثة يبدأ «كريتياس» في رواية تلك القصة، فيذكر: كيف أنه حدث منذ قرن ونصف من الزمان أن زار المشرع الأثيني الكبير «صولون» مصر («صولون» شخص حقيقي زار مصر فعلا، ولكن رحلته تمت في حوالي عام 590ق.م. أي مبكرة بحوالي 20 عاما عن التاريخ الذي أعطاه أفلاطون) وأثناء وجوده في «سايس» وهي مدينة مصرية في شمال الدلتا كانت لها علاقات وثيقة بأثينا، أخبره عدد من الكهنة المصريين بقصة «أطلانطس»، وهي قصة وصفها «صولون» بأنها «حقيقة بالتأكيد بالرغم من غرابتها.» وكان «صولون» ينوي أن يسجلها في كتابه ليعرفها العالم من بعده، ولكنه لم يفعل، واكتفى بأن رواها لأحد أقربائه ويدعى «دروبيدس» الذي حكاها بدوره لابنه «كريتياس» الأكبر، وعن طريقه وصلت إلى حفيده «كريتياس» الذي يشارك في هذه المحاورة مع سقراط والآخرين.
ويحكي «كريتياس» في محاورة «تيماوس» كيف أن الكهنة المصريين أبلغوا «صولون» أنه طبقا للسجلات القديمة التي لديهم، كانت هناك إمبراطورية أثينية عظيمة منذ 9000 سنة (أي حوالي 9600ق.م.) وكانت تعاصرها في نفس الوقت إمبراطورية عظيمة أخرى تسمى «أطلانطس» تقع في جزيرة كبيرة بحجم قارة، وراء أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق حاليا). كانت هذه القارة أكبر من شمال أفريقيا وآسيا الصغرى مجتمعتين، وإلى الوراء تمتد سلسلة من الجزر عبر المحيط تصل إلى قارة ضخمة أخرى. (2) وصف «أطلانطس» كما يراها «أفلاطون»
يتابع «أفلاطون» إكمال قصة «أطلانطس» في المحاورة الثانية «كريتياس»، فيظهر وصف تفصيلي للجزيرة القارة، منذ نشأة الحضارة على الأرض، حين قسمت الأرض بين الآلهة واختص «بوسيدون» إله البحر والزلازل بجزيرة «أطلانطس»، لكنه يحب فتاة من أبناء البشر تدعى «كليتو» كانت تعيش فوق تل في «أطلانطس»، ولكي يمنع أحدا من الاقتراب منها يقوم «بوسيدون» بتطويق التل الذي تعيش فوق قمته، بحلقات متتالية من الأرض والماء «حلقتين من الأرض وثلاث حلقات من الماء.» ويمد التل بما يكفيه من الماء والغذاء «فيجعل نبعين من الماء ينبثقان من باطن الأرض؛ أحدهما ساخن والآخر بارد، ويجعل الغذاء يخرج بوفرة من تلك الأرض.» وقد أنجب «بوسيدون» من «كليتو» خمسة أزواج توائم من الذكور، قسم عليهم البلاد، فكانوا يحكمونها حكما مشتركا يرأسه الابن الأول من التوأم الأكبر ويدعى «أطلس» (والذي سميت الجزيرة باسمه). وقد أنجب هؤلاء الملوك أبناء كثيرين، واستمرت ذريتهم تحكم البلاد أجيالا متعاقبة من بعدهم. وتطورت «أطلانطس»، وأقيمت فيها منشآت هندسية وزراعية هائلة، تشمل القصور والمعابد، والموانئ والأرصفة، وازدهرت فيها الزراعة والتعدين. وكانت مدينة «أطلانطس» التي امتدت حول تل «كليتو» بحلقاته المتتالية، تقع على الشاطئ الجنوبي لجزيرة «أطلانطس»، عبارة عن مدينة مستديرة، أشبه بقلعة محيطها ثلاثة أميال. وقد أقام الملوك جسورا تربط بين الحلقات البرية المحيطة بتل «كليتو» (الذي يتوسط المدينة)، وأنفاق تمر عبرها السفن من حلقة مائية إلى أخرى. كما أقاموا أسوارا صخرية ضخمة، مطعمة بالمعادن الثمينة حول الحلقات البرية. أما المدينة كلها فيحيط بها سور ضخم. كما كانت حلقة الماء الخارجية تستخدم كميناء ترسو فيه سفن المدينة الكثيرة. (3) نهاية «أطلانطس» كما صورها «أفلاطون»
ظل سكان «أطلانطس» يحكمون جزيرتهم المركزية بالإضافة إلى عدة جزر أخرى، وأيضا أجزاء من القارة الكبيرة على الجانب الآخر للمحيط، لكنهم لم يكتفوا بما لديهم من أراض وخيرات، فقرروا ذات يوم أن يتوسعوا خارج حدودهم التي ظلوا يعيشون فيها جيلا بعد جيل، كما يذكر أفلاطون على لسان الكهنة المصريين، الذين أخبروا خبر هذه المدينة؛ إذ قالوا: «تجمعت هذه القوة الهائلة كلها وعزمت أمرها على أن تخضع بضربة واحدة بلادنا وبلادكم وكل المنطقة التي تلي المضيق.» فتقدمت جيوشهم شرقا إلى منطقة البحر المتوسط فاستولت على شمال أفريقيا حتى حدود مصر، وجنوب أوروبا حتى اليونان، ولكن أثينا التي كانت تقف وحدها تمكنت من هزيمة الأطلنطيين، ولكن دمرت العوامل الطبيعية كلا الجانبين؛ إذ حدثت بعد ذلك زلازل وفيضانات عنيفة، وخلال يوم واحد وليلة من الدمار دفن محاربوكم تحت الأرض. وكذلك جزيرة أطلانطس اختفت بنفس الطريقة في أعماق البحر؛ ولهذا السبب فإن البحر في تلك الأجزاء غير قابل للملاحة والعبور لأن هناك طينا ضحلا كثيرا في الطريق نتيجة لوجود الجزيرة تحت سطحه. ويبتهج سقراط لقصة «كريتياس» التي يصفها بأن لها «صفات كثيرة تجعل منها حقيقة لا مجرد خيال.» ومع ذلك فإن بقية محاوره «تيماوس» تدور فيما بعد حول العلم، ويظل خبر «أطلانطس» مبتورا عند هذه النقطة. وبالرغم من أن «أفلاطون» يؤكد أن قصة الحضارة المفقودة مأخوذة من السجلات المصرية القديمة، إلا أنه لم يعثر بشكل مباشر على هذه القصة في السجلات التي تم الكشف عنها في الآثار المصرية، أو غيرها من مخلفات أي شعب كان يعيش قبل زمن أفلاطون. وهكذا ظلت قصة «أفلاطون» هي المرجع الأول والوحيد لأسطورة «أطلانطس»، وكل ما كتب عنها فيما بعد من كتب ومقالات إنما يعتمد على رواية «أفلاطون» وحدها سواء بالإضافة أو التفسير.
ومن بين المؤرخين الثقات الذين تعرضوا لهذه القصة «ه. ج. ويلز». وهو ينكر القصة كما وردت في الأدب اليوناني، لكنه في نفس الوقت يتبنى رأي «ريجنالد فسندن»، الذي درس القصص التي تتعلق ب «أطلانطس»، واستنتج أن الروايات الخاصة بهذا الموضوع لا تعني بالضرورة وجود حضارة كانت قائمة في المحيط الأطلنطي، بل تشير إلى ما يعتبره حضارة كانت في وقت ما من التاريخ أهم من «أطلانطس» بكثير،
2
كانت تقوم في أصقاع بلاد القوقاز، وغمرتها المياه في يوم من الأيام. ومن بين المؤرخين الثقات أيضا الذين تعرضوا لأسطورة «أطلانطس» المؤرخ الشهير «ويل ديورانت»، الذي يرى أن هذه الروايات وإن كانت تبدو أسطورية، إلا أنها لا بد وأن تؤخذ مأخذ الجد. ويرى أنها ربما تشير إلى حضارة جزيرة الفصح في المحيط الهادي، أو ربما تشير إلى حضارة متطورة كانت في أمريكا.
وقصة «أطلانطس» صارت جزءا من التراث الإنساني الفلكلوري. ففي الوقت الذي لا يمكن أن يعترف بوجودها علم الآثار التقليدي، لا يمكن أيضا أن يتخلى عنها المعتقد الشعبوي؛ فليس كل ما لا يثبته العلم غير قائم. فحتى الأساطير تنطوي على بذور من الحقائق. وفي الوقت الذي لا يعترف فيه باحثون كبار بهذه القصة، يؤيدها على الجانب الآخر باحثون كبار أيضا. ولا ينتهي الجدل والبحث عن مكان «أطلانطس» أبدا. ومنذ وفاة أفلاطون، قام الكثيرون بالمغامرات من أجل البحث عن المدينة المفقودة، التي تتمتع بجمال طبيعي وثروة كبيرة. واختلف الباحثون في الفترة الزمنية التي كانت فيها «أطلانطس» موجودة، ما بين 12000 إلى 3500 قبل الميلاد. واختلفوا أيضا في مكانها، فاقترحت أماكن متباينة لموقع جزيرة أو مدينة أو قارة «أطلانطس»؛ فالبعض يرى وجودها في جنوب أفريقيا أو جزيرة كريت أو في جزر الباهاما، أو في «سري لانكا»، أو في إسبانيا. وربطت إحدى النظريات الحديثة بين «أطلانطس» وإحدى المناطق الواقعة في مضيق جبل طارق، كانت قد غرقت في البحر منذ 11 ألف عام ... إلخ. ومن حين لآخر، تصدر مقالة أو بحث أو كتاب عن قصة «أطلانطس»، فارتفع عدد المقالات والأبحاث والكتب التي تتحدث عن هذا اللغز لأكثر من 10 آلاف. وتترصد وسائل الإعلام الأبحاث والدراسات التي تتناول أي إشارة إلى «أطلانطس». وفي هذا الخصوص، نقلت منذ سنوات قليلة ال «بي بي سي» عن الدكتور «راينر كويهن» من جامعة «أوبرتال» الألمانية أنه ربما يكون قد اكتشف بقايا مدينة «أطلانطس» المفقودة؛ حيث كشفت صور الأقمار الصناعية، التي تم التقاطها لجنوب إسبانيا، أن الأرض هناك تطابق الوصف الذي كتبه أفلاطون عن «أطلانطس»؛ إذ يعتقد أن «جزيرة أطلانطس» تشير إلى جزء من الساحل في جنوب إسبانيا تعرض للدمار نتيجة للفيضانات بين عامي 800 و500 قبل الميلاد. وتبين الصور للمنطقة الملحية المعروفة باسم «ماريزما دو هينوخس» بالقرب من مدينة «كاديز»؛ بناءين مستطيلين في الطين، وأجزاء من حلقات ربما كانت تحيط بهما في السابق. وقال دكتور «راينر»: «كتب أفلاطون عن جزيرة تحيط بها أبنية دائرية ، بعضها من الطين والبعض الآخر من الماء. وما تظهره الصور هو نفس ما وصفه أفلاطون.» ويعتقد دكتور «راينر» أن الأبنية المستطيلة ربما تكون بقايا المعبد «الفضي» المخصص لإله البحر «بوسيدون» والمعبد «الذهبي» المخصص ل «بوسيدون» و«كليتو» كما جاء في كتاب «أفلاطون» ويضيف: «ذكر «أفلاطون» أن أطلانطس كانت مشيدة من النحاس. ويوجد نحاس في المناجم التي تقع في جبال سييرا مورينا.» (4) دمار «أطلانطس» بالنيازك
اختلفت الروايات حول الكيفية التي دمرت بها «أطلانطس» ومن ثم أحدثت اختفاءها. ووضعت فروض ونظريات كثيرة حول هذا الموضوع؛ منها ما يرى أنها غاصت بالخسف الأرضي، ومنها من يرى أنها غمرتها مياه البحر الطاغية، لكن أغرب فرضية هي تلك التي تقدم بها المهندس النمساوي «أوتوهينريك موك» (1892-1956م)، في كتابه «سر أطلانطس»، الذي نشر في عام 1976م بعد وفاة المؤلف بحوالي عشرين عاما. و«موك» مهندس بارع، أسهم في تطوير الغواصات والصواريخ، وسجل باسمه قرابة 2000 براءة اختراع. وقام ببحوث في الجيوفيزياء والتاريخ.
3
ولحسن حظ «أفلاطون» أن يرى واحد مثل «موك» أنه (أي أفلاطون) كان صادقا فيما قال عن «أطلانطس»، لا كما يرى البعض أن إشارات أفلاطون لا تعدو كونها إشارات خيالية، لا تمت للواقع بصلة؛ إذ تشيع «موك» لأفلاطون، وظن أن «أطلانطس» كانت موجودة وراء مضيق جبل طارق، كما يفهم من كلام «أفلاطون»، الذي يشير إلى أنها كانت وراء مضيق «هرقل». وبذلك يتوقع أنها كانت قريبة من جزر «الأزور»، إلى الغرب من أوروبا بحوالي 1200كم، في المحيط الأطلنطي، لكن كيف اختفت «أطلانطس» في يوم وليلة من الوجود؟
يرى «موك» أن نهاية «أطلانطس» كانت، كما يرى «أفلاطون» نفسه، في انحراف النجوم عن مسارها، ودمار كل شيء على الأرض بالنار؛ فالنجم الذي أشار إليه «أفلاطون» كان عبارة عن كويكب يبلغ قطره حوالي 10كم، وينتمي لما يعرف بكويكبات مجموعة «أدونيس»، التي تدور حول الشمس في مدارات غير متمركزة، واندفع نحو الأرض من الجانب الشمالي للسماء. ويسهب في وصف أعمدة اللهب التي اشتعلت في السماء، من جراء دخول الكويكب جو الأرض. ويضيف أن: قطعتان عملاقتان من ذلك الجرم هوتا في البحر، لتشكلا خندق «بورتريكو»، وأصابت قطع أخرى منه مواضع مختلفة من الأرض، منها ما أصاب قشرة الأرض في مواضع حساسة، وهي سلسلة الجبال الأطلنطية، فثارت البراكين، التي غطى رمادها جو الأرض، وحجب السماء بغلالات من الأتربة والدخان. وهزت «أطلانطس» الزلازل المدمرة، ووقعت الجزيرة بأسرها في شرك من نار، وغاصت في قاع المحيط. ولم يترك شيء في الموضع سوى قمم البراكين التسع التي تغطيها الحمم البركانية، والتي تشكل اليوم جزر «الأزور». ولم يكن تأثير انفجار الكويكب قاصرا على «أطلانطس» وحدها، بل امتد ليؤثر على كل الأرض. فغاص - على سبيل المثال - الجانب الشمالي الشرقي من أمريكا الشمالية في الأطلسي، بينما نهض الجانب الشمالي الغربي فوق المحيط الهادي، رافعا معه الهياكل والمدن من مستوى سطح البحر إلى مرتفعات جبال «الأنديز» الحالية. ويقدم «موك» دليلا ماديا على هذه الكارثة، ما حل بفيلة «الماموث» من انقراض فجائي. ويرى «موك» أن الاصطدام جعل الأرض تتذبذب في دورانها، فمال القطب الشمالي إلى الحد الذي جعل المناخ يتغير تغيرا كبيرا، فتحولت سيبريا - على سبيل - المثال إلى ثلاجة كبيرة قضت برودتها الشديدة على حيوان «الماموث». ويعتقد «موك» أن هذا السيناريو هو الأقرب لتفسير العصر الجليدي الذي حل بالأرض، خلال الألف العاشرة قبل الميلاد. كما يرى «موك» أن الحدث كان وراء الفيضانات الكبيرة، التي اجتاحت عموم الأرض من جراء تأثيرات الأتربة العالقة في الجو، مشكلا الطوفان الذي ورد في الكتاب المقدس. ويستشهد بالشواهد الأثرية التي تؤكد على حدوث الطوفان، من نتائج البعثات التي قامت بالحفر في منطقة «أور» بالعراق.
ومن الطريف أن السيناريو الذي قدمه «موك» حول تفسير اختفاء «أطلانطس» يمكن أن يكون منطقيا، في ظل الدراسات التي تعنى بتأثيرات الصدمات النيزكية للأرض، والكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية. بل إن «موك» يعتبر بحق رائدا في بعض الأفكار الخاصة بعلاقة الصدمات النيزكية وثورات البراكين. وقد ظهرت دراسات لاحقة تتبنى فكرة أن الصدمات النيزكية، كانت وراء نشاط البقاع الساخنة في الأرض، والتي تؤدي إلى انفجارات بركانية، بل تسهم في انشطار القارات.
المراجع والهوامش
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
Неизвестная страница