فإذا استغرق الفكر مفكرا، حتى لا يستعمل شيئا من الحواس بتة، فقد تناهى به الفكر إلى النوم. وصارت قوته المصورة هى أقوى ما يكون على إظهار فعالها، إذ ليس يشتغل عن إعطاء نفسه صورة معانى أفكاره الحسية، فيراها كالحس، مجردة، لا فصل بينهما بتة؛ بل مع فكره فى كل ما فكر فيه تظهر له صورة الفكر مجردة أنقى وأبين وأزكى من المحسوسة، لأن الحساسة تنال محسوساتها بآلة ثانية تعرض لها القوة والضعف من خارج وداخل معا؛ وهذه القوة المصورة تنال ما تنال بلا آلة ثانية، لتعرض لها قوة أو ضعف؛ بل إنما تنالها بالنفس المجردة. فليس يعرض فيها عكر ولا فساد، وإن كانت فى الحى مقبولة بالآلة الأولى المشتركة [بين] الحس والعقل. وهذه القوة المصورة وغيرها من قوى النفس، أعنى [فى] الدماغ، فإن هذا العضو موضوع لجميع هذه القوى النفسية؛ فأما الحس فموضوع له آلات ثوان، كالعين والسماخ والأذن والخياشيم والأنف واللسان والحنك واللهوات وجميع العصب إلا يسير؛ فأما الدماغ، وإن كان إذا دخل عليه فساد، فسد وجود القوى النفسانية المستعملة لذلك العضو من الدماغ، فإن الحس يعرض له مثل ذلك وما يعرض من هذه الآلات الثوانى فى قوتها وضعفها، فيكون إدراكه أضعف من إدراك التى لا آلات ثوانى ثوان لها، فإن الأعراض له من جهتين تعرض كثيرا، أعنى [من جهة] الآلة الأولى و[من جهة الآلات] الثوانى؛ وقد سلم أكثر ذلك فى الأولى، وتعرض له الأعراض فى الثوانى؛ فأما القوة المصورة فإنها تسلم كثيرا فى الآلة الأولى، كما يسلم الآخر وتعدم الثوانى بتة، فلا يعرض لها من جهتها عرض، فتكون أفعالها أبدا ووجوداتها مجردة متقنة؛ وأما الحس ففى كل الأحوال يعرض له الاختلاف لحال اختلاف هذه الآلات الثوانى اختلافا دائما؛ فلذلك ما يكون وجود القوة المصورة موجوداتها التى يجدها الحس مع طينة، أتقن وأبين.
وأيضا فلأن الصورة التى فى الطينة تتبع الطينة - فإنه ليس كل طينة تقبل كل صورة؛ فإنا إن طبعنا بطابع واحد شمعا صافيا وطينا صافيا [وطينا كدرا] وحصى كدرا، خرجت الآثار فيها مختلفة على قدر الطين، فإن ألطفها أجزاء
Страница 299