فقال له المنصور: والله لقد أحسنت ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم وأين المال؟ قلت: ها هو ذا، فقال يا ربيع امض معه فأعطه ألف درهم وخذ منه الباقي ففعل الربيع ما أمره المنصور؟ قال: ثم إن المهدي ولي الخلافة بعد ذلك وولي ابن يونان المظالم، فكان يجلس للناس بالرصافة، فرفعت إليه قصة فلما وصلت إليه قصتي ضحك، فقال له ابن يونان: أصلح الله أمير المؤمنين ما رأيتك ضحكت من شيء إلا من هذه القصة، فقال: نعم، هذه رقعة أعرف قصتها، ردوا عليه عشرين ألف درهم، فردوها إلي فأخذتها وانصرفت.
جود المهدي
خرج المهدي ذات يوم متنزها إلى الأنبار، وبينما هو في مجلسه دخل عليه الربيع ومعه قطعة من جراب فيه كتابة برماد وخاتم من طين عجن بالرماد وهو مطبوع بخاتم الخلافة فقال: يا أمير المؤمنين ما رأيت أعجب من هذه الرقعة جاءني بها أعرابي وهو ينادي: هذا كتاب أمير المؤمنين المهدي دلوني على هذا الرجل الذي يسمى الربيع، فقد أمرني أن أدفعها إليه وهذه الرقعة، فأخذها المهدي وضحك وقال: صدق وهذا خطي وهذا خاتمي، أفلا أخبركم بالقصة، قلنا: رأي الأمير أعلى منا في ذلك، قال: خرجت أمس إلى الصيد في غب سماء، فلما أصبحت هاج علينا ضباب شديد وفقدت أصحابي حتى ما رأيت منهم أحدا، وأصابني من البرد والجوع والعطش ما لا يعلمه إلا الله وتحيرت عند ذلك، فذكرت دعاء سمعته من أبي يحكيه عن أبيه قال إذا أصبح وإذا أمسى: بسم الله وبالله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقى وشفى وكفى من الحرق والغرق والفرق والهدم وميتة السوء، فلما قلتها رفع لي ضوء نار فقصدتها، فإذا بهذا الأعرابي في خيمة له يوقد نارا بين يديه، فقلت: أيها الأعرابي هل من ضيافة؟ قال: انزل، فنزلت، فقال لزوجته: هات ذلك الشعير، فأتت به، فقال: اطحنيه، فابتدأت تطحنه، فقلت له: اسقني ماء، فأتاني بسقاء فيه مذقة من لبن أكثره ماء، فشربت منها شربة ما شربت أطيب منها، وأعطاني حلسا له فوضعت رأسي عليه ونمت، ثم انتبهت فإذا هو قد وثب إلى شاة فذبحها، فإذا امرأته تقول له: ويحك قتلت نفسك وصبيتك إنما كان معاشك من هذه الشاة فذبحتها، فبأى شيء تعيش؟ فقلت: لا عليك هات الشاة فشققت جوفها واستخرجت كبدها بسكين في خفى، فشرحتها ثم طرحتها على النار فأكلت، ثم قلت له: هل عندك شيء أكتب فيه؟ فجاءني بهذه القطعة، فأخذت عودا من الرماد الذي كان بين يديه فكتبت له هذا الكتاب وختمته بها الخاتم وأمرته أن يجيء ويسأل عن الربيع فيدفعها إليه، فإذا في الرقعة خمسمائة ألف درهم، فقال: لا والله ما أردت إلا خمسين ألف درهم، ولكن جرت يدي بخمسمائة ألف درهم ولا أنقص والله منها درهما واحدا، ولو لم يكن في بيت المال غيرها احملوها معه، فما كان إلا قليلا حتى كثرت إبله وصار منزلا من المنازل ينزله كل من أراد الحج من الأنبار إلى مكة المكرمة، وسمي مضيف أمير المؤمنين المهدي.
المهدي والمختبئان
لما فرغ المهدي من بناء عيساباذ ركب في جماعة يسيرة لينظر البلد، فدخله مفاجأة وأخرج من كان هناك من الناس وبقي رجلان خفيا عن أبصار الأعوان، فرأى المهدي أحدهما وقد دهش بالعقل، فقال: من أنت؟ قال: أنا أنا، فقال: ويلك من أنت؟ قال: لا أدري، قال: ألك حاجة؟ قال: لا لا، قال: أخرجوه أخرج الله نفسك، فدفع في قفاه، فلما خرج قال لغلام له: اتبعه من حيث لا يعلم فسل عن أمره ومهنته فإني أخاله حائكا، فخرج الغلام على أثره، ثم رأى الآخر فاستنطقه، فأجاب بقلب جريء، ولسان سليط، فقال: من أنت؟ قال: رجل من أبناء رجال دعوتك، قال: من جاء بك إلى ههنا؟ قال: جئت لأنظر إلى هذا البناء الحسن فأتمتع بالنظر، وأكثر الدعاء لأمير المؤمنين بطول المدة وتمام النعمة ونماء العز والسلامة، قال: أفلك حاجة؟ قال: نعم، خطبت ابنة عم لي فردني أبوها، وقال: لا مال لك والناس يرغبون في المال، وأنا بها مشغوف ولها وامق، قال: قد أمرت لك بخمسين ألف درهم، قال: جعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين، لقد وصلت فأجزلت الصلة ومننت فأعظمت المنة، فجعل الله باقي عمرك أكثر من ماضيه وآخر أيامك خيرا من أولها، ومتعك بما أنعم به عليك وأمتع رعيتك بك، فأمر أن تعجل له الصلة ووجه بعض خاصته وقال: اسأل عن مهنته فإني أخاله كاتبا، فرجع الرسولان معا، فقال الأول: وجدنا الأول حائكا، وقال الآخر : وجدت الرجل كاتبا، فقال المهدي: لم تخف علي مخاطبة الكاتب والحائك.
المهدي وشعبة الشاعر
كان شعبة شاعرا متشاغلا بالعلم لا يكسب شيئا من الدنيا وكان له إخوة يقومون بأموره، واشترى أحد إخوته من السلطان طعاما فخسر به فحبس، فقدم شعبة على المهدي وكان له على أخيه ستة آلاف دينار، فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين، أنشد قتادة وسماك بن حرب لأمية بن أبى الصلت شعرا في عبد الله بن جدعان التيمي:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
حياؤك إن شيمتك الحياء
وعلمك بالحقوق وأنت فرع
Неизвестная страница