وشم روائح تلك الأزهار. فقال: يا جعفر، ما تميل نفسي إلى شيء من ذلك.
فقال: يا أمير المؤمنين، افتح الشباك الذي يطل على دجلة حتى تتفرج على تلك المراكب والملاحين، فهذا يصفق، وهذا ينشد موالي. فقال الرشيد: ما تميل نفسي إلى شيء من ذلك. قال جعفر: قم يا أمير المؤمنين حتى ننزل إلى الاصطبل الخاص، وننظر إلى الخيل العربيات، ونتفرج على حسن ألوانها ما بين أسود كالليل إذا أظلم، وأشقر، وأحمر، وأبيض، وأصفر، وألوان تحير العقول. فقال الرشيد: ما تميل نفسي إلى شيء من ذلك.
فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، ما بقي إلا ضرب عنق مملوكك جعفر؛ فإني والله قد عجزت عن إزالة هم مولانا. فضحك الرشيد، وطابت نفسه، وزال عنه الضجر. «مباهج الطبيعة تشرح صدر المؤمن بقدرة الله.» (3) مسلمة بن عبد الملك ونصيب الشاعر
قال مسلمة بن عبد الملك لنصيب الشاعر: هل مدحت فلانا؟ وذكر له اسم أحد أقاربه. فقال نصيب: لقد فعلت. فقال مسلمة: وهل حرمك من الجزاء؟ فقال نصيب: نعم، يا أمير المؤمنين. قال مسلمة: فهل هجوته؟ فقال نصيب: لا، يا أمير المؤمنين.
قال مسلمة: ولماذا لم تفعل وقد حرمك الجزاء؟ فقال نصيب: لأني كنت أحق بالذم منه؛ لأني ظننته يستحق مدحي. فأعجب به مسلمة، وقال: اسألني يا نصيب. فقال نصيب: إن كفك بالعطاء أجود من لساني يا أمير المؤمنين. «من مدح من لا يستحق المديح كان الأولى بلوم نفسه.» (4) المأمون والصائغ
حدث سليمان الوراق قال: ما رأيت أعظم حلما من المأمون، دخلت عليه يوما وفي يده فص مستطيل من ياقوت أحمر، له شعاع قد أضاء له المجلس، وهو يقلبه بيده ويستحسنه، ثم دعا برجل صائغ وقال له: اصنع بهذا الفص كذا وكذا، وأحلل فيه كذا وكذا، وعرفه كيف يعمل به، فأخذه الصائغ وانصرف.
ثم عدت إلى المأمون بعد ثلاثة أيام، فتذكره فاستدعى بالصائغ، فأتي به وهو خائف وقد اصفر لونه، فقال المأمون: ما فعلت بالفص؟ فارتبك الرجل ولم ينطق بكلام، ففهم المأمون بالفراسة أنه حصل فيه خلل، فولى وجهه عنه حتى هدأ باله.
ثم التفت إليه وأعاد القول، فقال: الأمان يا أمير المؤمنين. قال: لك الأمان. فأخرج الفص أربع قطع، وقال: يا أمير المؤمنين، سقط من يدي على السندان، فصار كما ترى. فقال المأمون: لا بأس عليك، اصنع به أربع خواتم. وألطف في الكلام، حتى ظننت أنه كان يشتهي الفص على أربع قطع، فلما خرج الرجل من عنده قال: أتدرون كم قيمة هذا الفص؟ قلنا: لا. قال: اشتراه الرشيد بمائة وعشرين ألفا. «الحلم سيد الأخلاق.» (5) المأمون وراثي البرامكة
1
قال خادم المأمون: طلبني أمير المؤمنين ليلة، وقد مضى من الليل ثلثه، فقال لي: خذ معك فلانا وفلانا - وسماهما لي؛ أحدهما علي بن محمد، والآخر دينار الخادم - واذهب مسرعا لما أقول لك؛ فقد بلغني أن شيخا يحضر ليلا إلى آثار دور البرامكة، وينشد شعرا يذكرهم ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف، فامض أنت وعلي ودينار حتى تصلوا إلى تلك الخربات فاستتروا وراء بعض جدرانها، فإذا رأيتم الشيخ قد جاء وندب وأنشد أبياتا فأتوني به.
Неизвестная страница