ولو لم أطلع على ما كتب الوطن أمس بشأني لما كتبت إليكم يا سيدي؛ إذ لم يكن بودي أن أخط شيئا تنشره صحيفة فيتحرك ساكن قوم تذهب أقلامهم كل مذهب، أغراضهم متباينة ومصالحهم متضاربة، فتأخذني الصيحات من كل فج وتحل علي اللعنات من رجال الدين وهم يسوءهم أن يرتفع صوت بصيحة حق أو يظهر امرؤ قضوا عليه بالصمت والجمود، ولكن ما ذيل الوطن عبارته به دفعني للكتابة فأنا مسوق مرغم.
كتب الوطن ما وصل إليه عن شخص محرفا أو محورا فوهم وأوهم، ونقب وظن، ولو تروى صاحبه فطلب مقابلتي قبل أن يكتب ما عن له لأحسن، ولكنه متحفز وثاب يهب للصغيرة والكبيرة، شغوف بجلاء الغوامض، فليسمح لي أن أذكره بأن كل خبر لا يستقى من مصدر محقق كان إذا أذيع أكثر ضررا من كتمانه، وربما آذى امرأ يود له الخير والفلاح. وليسامحني الفاضل إن رأى في كلماتي ما يمس رقيق عواطفه أو يجرح صدره، فإنني لم أقرأ رسالته إلا بعد أن تركت الرهبنة وتركت الدير، ولو كان حقيقة نقب كما ادعى واستسقى الأخبار من مصادرها لكان في علمه أنني حضرت إلى القاهرة من نحو شهر، وطلبت إلى نيافة أسقف الدير المحرق أن يجردني من شعار الرهبنة بعد أن كتبت إليه من أشهر رسائل بريدية وبرقية أكرر فيها نفس الطلب، ليس في وسعي أن أصرح بسبب ترك الدير حرصا على سمعته ومراعاة لعواطف نيافة الأسقف الذي لا أذكر له إلا كل حسنة.
قرأت كلمات الوطن أمس ليلا بعد أن حضرت بأمر نيافته فرابني الأمر، وتبادر لذهني أن اليد التي أرغمتني على ترك الدير والترهب هي التي تحرك اليوم الوطن مستترة عنه أو متحدة معه، ولكن ليهنأ بال الجميع فقد أخليت لهم المكان حيث لم أجد فيه الهدو المنشود وراحة الضمير والفكر التي ابتغيتها، والأرض واسعة الفضاء لا تضيق بمثلي، وأبواب العمل مفتوحة في وجه المجد.
وحذرا من تخبط الأفكار لاستنادها على المنقول، أرى من اللزوميات أن أجمل ما تهم معرفته عني مؤجلا زيارة الوطن لأيام ريثما يهدأ فكري وأرتب أعمالي وأثبت مركزي.
أنا شاب في بدء الحلقة الرابعة، تيتمت من والدي في صبوتي، درست كل أيامي بتولوز ولبثت بها ثلاثة عشر عاما، خرجت بعدها فنقبت عن رزقي وكفاف فتاتين كانتا أملي في الحياة ورجائي منها، وغالبت الشقاء تسعة أعوام كنت فيها ميسورا، وادخرت من كسبي ما يعين على المضض ويدفع الفاقة ويقضي الحاجة. واختطف الموت عزيزتي فشق الخطب وسئمت العيش، فالتجأت إلى الدير فلم أجد ما أنشده من الهدو والسكينة.
وخلق الحسد ووجد التنافس، فأزعجتني الدسائس وأحاقت بي إهانات توالت، فطلبت إلى نيافة الأسقف السماح لي بترك الدير فماطل وسوف ووعد وأمهل وخمن وفصح ووعظ، ولكن سواه غمز ولمز ودس وحرك الفتن، فتركت باختياري وسطا عيشه نكد ونعيمه شقاء وهدؤه جلبة، وحضرت أمس ليلا طوعا لأمر نيافة الأسقف وأنا أجله وأحترمه، ورأيت كلمة الوطن فعزوتها لغرض مهم، وفضلت الانزواء في داري عن مقابلة ربما تلجئني لما لا أحب، وكتبت للوطن الأغر أطمنه وأهدي روعه وأسكن جأشه، ولي معه كلمات ومقابلات ورسائل ربما كانت للصالح العام إن كان حقيقة ينشده، وأرجو منه أن يفسح لكلماتي مكانا في وطنه كما أفسحت لنفسي فنزعت رداء الرق والعبودية، وتركت واسع الأكمام لألبس زيي الإفرنكي غير حامل اسمي في البريد.
فيلوثاؤس
ولو شئت أن أورد في هذا الجزء كل ما حصل لحافظ في الأديرة القبطية، أو بالحري كل ما أتاه هذا المحتال القدير من الحيل المدهشة والأعمال الغريبة لاضطررت إلى جزء آخر غير هذا على الأقل، ولذلك أقف بالقلم إلى عند هذا الحد واعدا حضرات القراء الكرام بتفصيل تلاعبه المدهش مع حضرات نيافة الأنبا باخوميوس أسقف الدير المحرق والقس إيذيروس رئيس ذلك الدير وكاتبه المعلم إبراهيم وسائر رجال دير أنبا أنطونيوس ورؤسائه العظماء وغيرهم مما يضيق عن ذكرهم هذا المقام.
وسيكون لهذه الحكايات وقع غريب وتأثير عجيب على القارئين لا سيما لمناسبة ما حدث أخيرا من فرار نفر رهبان دير المحرق، مما ذاع وشاع وعرف به القاصي والداني من جمهور القارئين .
ومن غريب النوادر أنه كان لحافظ نجيب في فرار أولئك الرهبان اليد الطولى كما أثبتت ذلك جريدة الوطن الغراء في عددها الصادر يوم السبت 20 نوفمبر سنة 1909.
Неизвестная страница