ثم أجهش للبكاء.
فما سمع رئيس الدير هذه الحكاية المؤثرة حتى أخذته الشفقة على حافظ، فرحب به وألبسه المسوح، فغدا راهبا قبطيا اسمه الراهب غبريال إبراهيم.
وقد أقام حافظ في ذلك الدير بضعة شهور وشيمته الورع والزهد، وعمله الصلاة صباح مساء، فأجله كل من كان في ذلك الدير من رهبان وقسيسين، وقد أعانه على الظهور بمظهر المسيحي المتمكن من دينه أنه ربي في مدرسة الفرير الكبرى بالعاصمة، وتلقى فيها التعليم المسيحي أسوة سواه، فلم يرتب في نصرانيته أحد.
وكأن حافظ قد ملت نفسه الجهاد فاستسلم إلى القضاء، وعول على قضاء أيامه بعيدا عن حركة هذا العالم في ذلك الدير النائي.
ولكن ما فطر حافظ عليه من الميل إلى إتيان كل حيلة نادرة وأمر غريب لم يمكنه من البقاء على تلك الحال طويلا، فغادر ذلك الدير إلى دير أنبا بيشوي؛ لأنه لم يجد في وادي النطرون ما تطمح إليه نفسه من الآمال.
ومما لا يحتاج إلى بيان أنه قوبل في دير أنبا بيشوي بإكرام وإعزاز لا سيما بعد أن حسنت الشهادة في حقه من رئيس دير وادي النطرون، فعمد عند دخوله إلى اكتساب ثقة أسقف الدير ورئيسه وسائر من فيه من أهل الدين والدنيا، فلم يعسر ذلك على نابه قدير كحافظ نجيب.
وقد حدث عند ذاك أن المنية استأثرت بالمرحوم النابغة مصطفى باشا كامل صاحب اللواء ورئيس الحزب الوطني، فما علم حافظ بانتقاله إلى رحمة الله تعالى حتى أثار النبأ المفجع شجونه وحرك يراعه بعد أن مضت عليه سنة أو يزيد وهو ساكت هادئ، فنظم المرثية الآتية وبعث بها إلى جريدة الوطن فنشرتها في العدد الذي صدر يوم 17 فبراير سنة 1908 بالنص الآتي:
دموع الأدباء على فقيد الوطنية: دمعة راهب من داخل الدير
تحطمت الآمال وانحسم الأمر
فكل الرزايا دون خطبك يا مصر
Неизвестная страница