وقد حدث أنني صادفته ذات يوم والجنود عائدون به من نيابة الموسكي مع عدد ليس بقليل من المتهمين وفي يده الأغلال الحديدية فحياني مبتسما وقال لي على غفلة من رجال البوليس: «لي يا سي جورج في كل يوم شأن، وما هو إلا مظلمة جديدة من مظالم بني الإنسان. فقد اتهموني الآن بالنصب والاحتيال على راقصة طالما غمرتها بإنعامي وأغرقتها في بحر مكارمي، ولكن لا بأس فإن العصفور لا يظل في القفص طويلا.» وهو يرمي بالجملة الأخيرة إلى أن يوم فراره قريب.
وكأنه عز عليه أن يكون كاذبا في دعواه فأسرع في الهرب من أيدي البوليس متخلصا من غطرسة السجانين وعذاب التحقيق الدقيق.
وبيان ذلك أنه كان آيبا ذات يوم عند الظهر من محكمة الموسكي الجزئية حيث كان حضرة وكيل نيابتها يحقق معه وإلى جانبه عسكري يحرسه ويحافظ عليه من الهرب، فلما وصلا إلى العمارة الكبرى الكائنة على مقربة من محل «ستين» الشهير قال للجندي: أنت تعلم يا صاح أنني لست بالفقير المعدم وأن لي في النيابة العمومية مبلغا طائلا من المال وعدة مصوغات، ومن كانت حالته هكذا يصعب عليه كثيرا أن يقضي أيام التحقيق سجينا دون أن يكون معه في جيبه مال يمكنه من شراء كل ما تتوق إليه نفسه من الأكل والدخان، فإذا تفضلت علي بالانتظار قليلا ريثما أصعد إلى منزل أحد أصدقائي العظماء الساكن في هذه الوكالة، وآتى منه بخمسين جنيها أو ما يقرب من ذلك أعطيتك عشرة جنيهات لقاء لطفك ومكارم أخلاقك، وغدوت لك من الشاكرين، كما أنه يجب أن تثق أنني بعد خروجي سأكون لك نعم النصير وبك خير شفيق.
فسال عند سماع الجنيهات لعاب العسكري شوقا إليها، وقال لحافظ: «إنني أسمح لك بما أردت، على شريطة أن يظل القيد في يديك.»
فأجابه حافظ: «لا بأس في ذلك؛ لأن صديقي هذا يعلم أنني سجين ظلما، فهو لا يزدري بي إذا رآني مقيدا مثل سائر المتهمين.»
وسرعان ما أخذ يصعد الدرج أربعا أربعا تاركا الجندي بانتظاره، ناسيا هذا المسكين أنه إنما ينتظر أحد القارظين.
مضت ساعة وأخرى والعسكري التعس في انتظار حافظ وهو يعد نفسه بالجنيهات العشرة، ولكن حافظا لم يعد حتى أيقن ذلك العسكري أنه احتال على الفرار، وأن أوبته من المستحيلات، فصعد إلى المنازل التي في تلك العمارة الكبرى، وأخذ يطرق أبوابها واحدا بعد آخر فلم يجد لذلك السجين الهارب من عين ولا أثر، فأدرك إذ ذاك عظم خطئه ونتيجة إهماله، واستعد للعقاب العادل الذي سيحل به جزاء له على تهاونه.
أما حافظ فإنه خرج من باب آخر بعد أن حمل أحد الخادمين من البرابرة على حل قيوده، وسار في طريقه آمنا عيون العواذل والرقباء.
وفي مساء ذلك اليوم ذهب إلى القهوة المصرية الشهيرة باسم
Café Egyptienne
Неизвестная страница