وروي أن نابوليون قال مرة لأحدهم: «إني سألحق بمواطنيك الفرنسويين كل ما أستطيعه من الضرر.» فبنى بعض المؤرخين على هذا الكلام علالي وقصورا، ولكن المنصف لا يوافقهم على كل ما استنتجوه، بل ينظر إلى الأحوال التي قال فيها نابوليون تلك العبارة؛ فهو لم يقلها إلا في ساعة غضب، وفي الرد على صبية أوسعوه سخرية ولقبوه بالكورسيكي فلقبهم هو بالفرنسويين، وإن هذا كله إلا زلة لسان، وكلمة طالب لا يزن ما يقوله ولا يفكر إلا في جرح خصومه.
وكان نابوليون مع ضيق ذات اليد وشدة المعاكسة مكبا على الدرس، منقطعا إلى البحث، ناجحا في كل فروع الدروس ولا سيما الرياضيات، وكان همه بعد الدرس منصرفا إلى إخوته وآله، ولما علم أن أخاه جوزيف كان يريد الانتقال إلى مدرسة بريان أو متز اهتم بالأمر، وكان عمره لا يزيد عن ثلاث عشرة سنة، فكتب إلى أبيه كتابا قال فيه: «إن أستاذي في الرياضيات - الأب بترول - لا ينوي السفر، فيمكن أخي جوزيف أن يأتي إلى هنا، وإذا أراد أن يشتغل فإنه يذهب معي للامتحان والدخول في سلك المدفعيين ...» فأي صبي في هذا العمر يظهر أفضل من تلك العواطف الأخوية؟
ولقد رمى كثيرون نابوليون بالأنانية ونكران الجميل ونسيان الأصدقاء بعد الصعود إلى ذروة المجد والعز، ولكن أهل القسط والإنصاف من المؤرخين نفوا عنه ذاك العيب، ومما قدموه من البراهين الدامغة تعيين بوريان الذي كان صديقه منذ عهد المدرسة كاتب سر خاص، ثم اهتمامه بأمر «زميله» لوريتسون الذي رقاه إلى رتبة جنرال وعينه بعد حين سفيرا له في العاصمة الروسية، فكان آخر سفير لنابوليون، وقس عليهم كثيرين من الذين كانوا زملاء أو أساتذة أو أصدقاء للبطل الكورسيكي منذ أيام المدرسة. وصفوة ما يقال أن نابوليون كان حسن العواطف في المدرسة وشديد الحرص على اتباع وصايا أمه الفاضلة، ومتجه الفكر والقلب نحو آله، ومحترما من أساتذته ومحترما لهم.
وفي 15 سبتمبر سنة 1783 امتحن الشفالييه وكيل المدارس الحربية الملكية ذاك الطالب الذي يضمر له المستقبل كل عجيبة حربية، وكتب عن نتيجة امتحانه الكلمات الآتية: «إنه سيكون بحارا بارعا، ويستحق أن ينقل إلى مدرسة باريس.»
على أن البحرية لم تقبل نابوليون؛ لأن عدد تلاميذها كان محدودا؛ ولأن كثيرين من الطلاب كانوا يتهافتون عليها ويلتمسون نفوذ الكبراء في الوصول إليها.
فاضطر نابوليون أن يبقى في مدرسة بريان، ثم رأى أن الواجب عليه لأهله يقضي بأن يترك مركزه المجاني لأخيه لوسيين؛ لأن القانون لم يكن يسمح بتعليم أخوين مجانا في وقت معا، ولما رأى نفسه مضطرا إلى العدول عن البحرية كتب إلى أبيه يسأله أن يلتمس له محلا في مدرسة المدفعية أو الهندسة.
وفي أكتوبر سنة 1784 تمكن من الدخول في مدرسة باريس الحربية، فدخل العاصمة الفرنسوية وليس عليه شيء من هيئة ذاك الذي سيدخلها فاتحا وإمبراطورا عظيما، بل دخلها غريبا تدل مشيته على حداثة وصوله، حتى وصفه دمرتيوس كومين أحد مواطنيه بأنه «كان من أولئك الذين يعرفهم المحتالون الطرارون بمجرد النظر إليهم»، وليس بعجب أن يكون نابوليون على تلك الحال؛ فقد وصل العاصمة الفرنسوية وليس له من العمر إلا خمس عشرة سنة، وعينه لم تألف منظر مدينة كباريس، وجيبه ضامر لا يسمح له بأن ينفق عن سعة كسائر تلاميذ المدرسة الحربية، وزد على هذا كله أن فقر أبويه كان ماثلا نصب عينيه وحائلا دون تمتعه بشيء من الترف والاشتراك في اللذات والحفلات، وكان صديقه برمون يشعر بما خامر نفس نابوليون فيعرض عليه أن يقرضه مبلغا من المال، فيجيبه نابوليون: «إن أعباء أمي كثيرة، فلا أريد أن أضيف إليها حملا آخر بإسرافي، ولا سيما إذا كان الباعث عليه جنون زملائي ...»
وتكلم نابوليون مرة سنة 1811 عن حالته في المدرسة فقال: «إن تلك الهموم كدرت علي صفاء الشباب، وأثرت في طبعي، وأكسبتني الرزانة قبل وقتها ...» ومما زاد حزن نابوليون وهو في المدرسة وفاة أبيه سنة 1785 وليس له من العمر إلا تسع وثلاثون سنة، وهاك ما كتبه إلى أمه:
أمي العزيزة، تعزي واصبري؛ فإن الأحوال توجب علينا العزاء والصبر، ونحن سنضاعف العناية بك والاعتراف بجميلك، فإذا تمكنا من تعويضك بعض الخسارة من فقد زوج عزيز، كنا سعداء الطالع.
وكتب إلى عمه:
Неизвестная страница