وبينما كان نابوليون في معامع القتال وصل إليه من التقارير عن جوزفين ما هاج غيرته وزاد قلقه، فكتب إلى أخيه جوزيف كتابا قال فيه: «إن أحزانا بيتية كثيرة ترهق فؤادي، فأعد لي منزلا في ضواحي باريس أو في بورجون لأعتزل فيه مدة الشتاء، فقد مللت الطبيعة البشرية وصرت أود العزلة وأمل العظمة ...»
وقال أوجين ابن جوزفين في مذكراته: «إن الحزن كان يخامر قلب القائد العام بسبب استياء جانب من الجيش وبسبب الأخبار التي كانوا يرسلونها من فرنسا لتكدير صفائه العائلي، وكان الجنرال نابوليون يثق بي مع صغر سني ويطلعني على حزنه فأحاول تعزيته وتلطيف حزنه بقدر ما يسمح لي عمري واحترامي له.»
ولا شك في أن نابوليون لم يلق بسره إلى ابن زوجته وهو لم يكن يتجاوز الثامنة عشرة؛ إلا لأن قلبه كان طافحا بالحزن والأسى.
وحدث في شهر فبراير سنة 1799 - أي يوم كان نابوليون وأركان حربه في العريش - أن جونو أوقفه على أمور تميز منها غضبا، فقال لبوريين وكان يحسبه واقفا على أحوال جوزفين: «إنك لو كنت تحبني لأخبرتني بما أخبرني به جونو ... هذا هو الصديق ... جوزفين، جوزفين ... خانتني! ... إنها إذا كانت حقيقة مذنبة فلا بد من الطلاق، أنا لا أريد أن أكون أضحوكة العاطلين من الباريسيين، وسأكتب إلى جوزيف في طلب الطلاق.»
أما الأساس الذي بنيت عليه تلك الشبهات وأضرمت نار الغضب في قلب نابوليون في بيداء الصحراء، فهو على ما روى جوهييه أن «جوزفين لقيت لسوء طالعها الضابط هيبوليت شارل - الذي عزله نابوليون من جيش إيطاليا لشدة تزلفه إليها - وكان لا يزال شابا لطيفا قوي الجاذبية، فسعت لإدخاله في شركة لويس ليبون، وبعد حصوله على هذا المركز فرش منزلا جميلا، ثم أخذ يزور جوزفين في ماليزون، وانتهى الأمر بأن نزل بمنزلها وصار السيد الآمر»، فتواترت الإشاعات السيئة عنها في العاصمة الفرنسوية وجازت البحر المتوسط إلى أذن نابوليون ، فتولاه ذاك الغضب الشديد، ونفر قلبه منها حتى بات يتمنى الطلاق، ويمكننا أن نقول على صواب أن ضرام الغرام في صدر نابوليون خمد من ذاك الوقت، فانصرف فؤاده في مصر إلى بولين فوريس زوجة أحد الضباط، واشتهر أمر هذا الحب الجديد بين رجال الجيش حتى لقبوها ب «سيدتنا في الشرق»، وما كان نابوليون نفسه يحاول إخفاء علاقته بتلك المرأة الجميلة، بل كان يتنزه معها في مركبة واحدة، وبلغ به الأمر أن أبعد زوجها عن مصر، ولقد وصفها المؤرخون بأنها كانت شقراء حسناء لعوبا ظريفة لطيفة. •••
وبينما كان نابوليون يعزي النفس بالمحبوبة الجديدة، ويضمر الطلاق للمحبوبة القديمة، كان جوهييه رئيس الديركتوار يسبغ النصائح لجوزفين في باريس ويحاول أن يرجع بها إلى الطريق القويم أو يقنعها بوجوب الطلاق خوفا من ازدياد الفضائح، وهاك ما قاله لها يوما بتهكم لاذع: «أنت تقولين أنه ليس بينك وبين هيبوليت شارل إلا صداقة خالصة، ولكن الصداقة إذا كانت بحيث تحملكما على ترك اللائق المتبع بين الناس أصبحت كالغرام، وهي إذا كانت صداقة منزهة إلى ذاك الحد كما تقولين يمكنها أن تقوم لديك مقام كل شيء، فطلقي، وثقي بأن ما تفعلين يجلب لك الأكدار والأحزان.»
ولكن جوزفين أبت أن تسمع تلك النصيحة الحكيمة؛ لأنها كانت تريد أن تبقى زوجة الفاتح العظيم، وتحصل على جميع الحقوق المقررة لها بدون أن تؤدي جميع الواجبات، وربما كانت تعتقد أن شدة حب نابوليون لها يصرفه عن طلب فراقها.
ولما اشتدت الزوبعة حولها وتلقت بعض الكتب التي تدل على تميز نابوليون غضبا وسخطا عليها وتشير إلى قرب رجوعه من مصر إلى باريس، أخذت تكثر من الزيارات لمنزل الموسيو جوهييه وتتحبب إلى زوجته على أمل أن يكون امتزاجها بأسرة جوهييه مخففا للشكوك، ولما علمت بقرب وصول نابوليون قالت لمدام جوهييه: «إني سأذهب لملاقاته، ومتى علم أنكم عشرائي الأخصاء يصبح لكم شاكرا وبصحبتكم مفاخرا.»
ولما بلغ جوزفين نزول نابوليون وخلاصه من البوارج الإنكليزية التي كانت تسود البحر المتوسط أسرعت إلى ليون لتلاقيه، ولكن نابوليون قدم من طريق بوربونيه - اسم ولاية فرنسية قديمة معظم بلادها داخل اليوم في مقاطعة إلييه - فلما وصل نابوليون إلى منزله ورآه خاليا من زوجته تعاظم غضبه، وبعد وصوله بثمان وأربعين ساعة عادت جوزفين إلى باريس فأبى نابوليون أن يقابلها وأبلغها عزمه على الطلاق، فعندئذ خاب أمل جوزفين، ورأت الوهدة العميقة التي بينها وبين ذاك البطل الذي شرفها وأحبها إلى حد العبادة.
فيا لله! ما كان أحرج موقف نابوليون في ذاك الوقت! فقد كان يرى من جهة أن الخطر الداخلي مهددا بلاده والحالة فيها تتدرج من سيئ إلى أسوء منه، وتقضي بإسقاط الهيئة الانتخابية، ولا يخفى ما في إبدالها من المصاعب التي لا تذللها إلا همة أرسخ من الرواسي، ثم يرى من جهة أخرى عرضه مضغة في الأفواه فلا يجد سبيلا إلى صونه إلا سبيل الطلاق الأليم.
Неизвестная страница