1
13 آب، حلب
أمامه كومة من دفاتر الامتحان، راح يرتبها بعناية فوق مكتبه الخشبي، ضغط على زر بدء التشغيل وانطلقت موسيقى «ياني» في الأجواء، ارتشف رشفة من القهوة السوداء، وسحب الدفتر الأول. هكذا يدس نفسه في طقوس خاصة حين يشرع بتصحيح دفاتر الامتحان؛ فهو عمل يحتاج كثيرا من الصبر والمهارة، خاصة مع ازدياد عدد الطلاب في السنوات الأخيرة الماضية.
الوقت لا يزال باكرا جدا، بإمكانه إنجاز مغلفين من الدفاتر قبل موعده، ثم تقافزت إلى ذهنه صورة تلك الفتاة الصغيرة. وضع القلم الأحمر جانبا، وراح يتأمل دقيقة، كيف تمكنت تلك النجيبة من إعادة الأمل بلقائي برندة من جديد بعد أن كدت أفقده؟ إنها شعلة من حماس، لقد مضى على غيابها زمان طويل، إنه لا يعرف بالضبط؛ فالزمان عنده لا يقاس بالوحدات المعروفة من أيام وشهور وسنوات. إنه زمان طويل أو قصير، وغير ذلك لا يهمه. إنه مثلا لا يمتلك أي ساعة، لا على جدران بيته ولا يرتديها في يده، لا جدوى منها، كما يصر دائما؛ فهو يحضر في مواعيده ومحاضراته في الوقت المناسب تماما أو قبله بقليل، ونادرا ما يتأخر، الوقت عنده مادة هضمها منذ زمن حتى عافها. وهو للسبب نفسه لا يهمه أن يعرف عمره بالتحديد، لكنه يعلم يقينا أنه كبير بما يكفي ليكون حكيما فينأى بنفسه عن التهور والحماقة، وهو في الوقت ذاته صغير بما يكفي ليتمسك بالحياة على الرغم من إجحافها وسوء تعاملها، ألا يحظى كل يوم بامتنانات صادقة من طلابه؟ وكلمات خالصة من محبيه؟ إن هذا كاف بالنسبة إليه.
أطرق مليا وارتشف رشفة من القهوة، وفكر: إنها فتاة ذكية، وسليمان صديق أثير، لكنهما في خطر، نعم إنهما في خطر كبير ينتظر قلب الصغيرة على أقل تقدير؛ فسليمان كبير بما يكفي، لكن ما العمل؟ شعر بحنان دافق تجاهها، رفع حاجبية، تنهد طويلا وأكمل العمل.
اقترب موعده، لكنه حدسا يعرف أنه بعيد بما يكفي لينهي شطرا من عمله قبل الموعد. بعد مدة أغلق الدفتر الذي أمامه، أكمل فنجانه الثاني، خلع نظارته، وأعاد الدفاتر إلى مكانها، لقد حان الموعد.
2 «لم لا؟ فهو مشهور وغني وله مستقبل باهر، وعلاقاته واسعة وستعيشين ملكة معززة مكرمة في بيت فخم.» هكذا راحت أم رمزي صديقة والدتي تقنعني برائد النجم المتألق الحاصل على اللقب. سألتها: «خالة، لكن رائد يكسب رزقه من الغناء، والغناء كما تعلمين حرام، أم أنك نسيت كلام الآنسة في الدروس التي كنا نحضرها؟ وبناء على ذلك فإن ثروته التي تتحدثين عنها حرام أيضا.» راقبت وجهها وهو يتلون ويتغير، أحسست كما لو أن الأمر كان بيدها لقطعت لساني.
ومن يوم وقوف رائد بباب بيتنا صرت أتلقى الرسائل والاتصالات من صديقات أعرفهن ولا أعرفهن، فهذه تريد لقاءه، وتلك تريد صورة معه، وأخرى قالت لي بكل صراحة: «إذا ما تريدينه أنا آخذه!» وظلت الأسئلة تتردد حولي: «كيف دبرتيه؟ هل عملت له عملا؟ سحرا عن بعد؟ إنه يتسلى وحسب، مستحيل أن يفكر أمثاله في الزواج، سيتركك من الشهر الأول ...» بعدها لم أرد على أي اتصال يردني مطلقا.
كانت أمي موافقة؛ فزواجي به فرصة لن تتكرر، وسعيد لم يعلق كثيرا على الموضوع، ترك حرية الاختيار لي، أما أبي فهو من كان يحيرني، لا يقول شيئا، يكتفي بالمراقبة وحسب ونظرة تأنيب أقرؤها في عينيه.
لا أنكر أنني في بادئ الأمر طرت فرحا، عادت إلى ذهني ذكريات المكتبة القديمة، والكلمات التي كان يقولها، الندبة في يده اليسرى، رحلتي ذات يوم للبحث عنه في المكتبات، ها هو الآن أتى إلي، ولكنه تغير كثيرا، صار أوسم شاب رأيته على الإطلاق، وراح يجلب لي الهدايا ويضعها على باب بيتنا ويغادر كل يومين أو ثلاثة، الأمر الذي أحرجني أمام الجيران كثيرا. كنت مترددة حائرة، لم يدخل بيتنا إلا مرة واحدة جلس فيها مع أبي، ولم يتصل بي أو يكلمني، بل أعطاني رقمه الخاص لأرسل له موافقتي، قال لي: «يكفي أن ترني رنة واحدة وستجدينني فورا أمامك مع أهلي وجيراني وأقاربي وأهل حلب كلهم لأطلب يدك للزواج!» لكنني لم أفعل. كما لم أعد أخرج من البيت خوفا من أن أصادفه أمامي، وهربا من بعض الفضوليين الذين يتطفلون بكاميراتهم لالتقاط صور للفتاة التي عاد من أجلها الفنان المشهور إلى الحرب.
Неизвестная страница