قطبت جبيني، لم أشأ أن أسألها كيف؟ فهي لا تزيد الأمر إلا تعقيدا، ولما لم أرسل شيئا، أرسلت: ما عليك سوى أن تنصتي إلى ذاتك وانظري في أعماقك جيدا، واقرئي مشاعرك في كل لحظة. الآن مثلا بماذا تشعرين؟ - لا شيء. - هذا غير ممكن، حاولي مجددا، نحن بشر يا عزيزتي، ونمتلك قلوبا حية، ما يعني أننا نتقلب بين المشاعر في كل لحظة.
أعدت السكوت والتفكير بم أشعر حقا، لكن وجدت أنني فارغة شعوريا؛ فلست حزينة أو سعيدة أو غاضبة أو متفائلة، لم أكن أشعر بشيء. أرسلت إليها: أنا حقا لا أشعر بشيء في هذه اللحظة. - حالما تحددين شعورك أهلا بك مرة أخرى، أما الآن فإلى اللقاء.
من يومها بدأت أتعلم كيف أحدد شعوري في كل لحظة، حتى وأنا أركب الحافلة في طريقي إلى المنزل، أو حين أتناول طعامي. تعلمت أن هناك مشاعر أخرى غير التي نعرفها من الفرح والحزن، أو الرضا والغضب؛ هناك الاضطراب، والقرف، والأمل، والقلق، والترقب، والملل، والضجر، والأمان، والسخرية. حتى عندما لا أشعر بشيء، كما كنت أظن، فهذا يعني الارتياح أو الاطمئنان، وهي مشاعر مختلطة تتعاقب على نفوسنا بين لحظة وأخرى.
أخذت أفكر في كل شعور ما مصدره، وكيف وصل إلي، وهذا ما سهل علي قراءة نفسي وفهمها أكثر، وعلمني أيضا قوة رائعة هي قوة التركيز؛ فعندما أقوم بشيء أنصرف له بكليتي وأعطيه كل اهتمامي، وأحاول ألا تنصرف أفكاري عنه أو مشاعري إلى أمور أخرى.
لقد ساعدني ذلك في حياتي عامة، وفي الصلاة تحديدا. لاحظت أن سبب بعد الصلاة عني، هو بعدي أنا عنها؛ فأنا أفتقد التركيز فيها. تعلمت أن أقف لحظات قبل الصلاة، قد تطول أو تقصر، لكنها لحظات جوهرية بالنسبة إلي. إنها تساعدني في الدخول في «جو الصلاة»، فأراقب مشاعري وأفكاري، أبعد جانبا الأفكار والأحداث والمشاعر التي خالطت روحي خلال اليوم، لأتمكن من الوقوف صافية خالصة بين يدي الله، لأصبح أكثر استعدادا للصلاة. لا أجزم أنني تمكنت من فعل ذلك دائما، كما أنني لم أصل في صلاتي إلى المستوى الذي أنشده في استشعار الحضور الإلهي وسماع الخطاب الرباني في كل كلمة؛ لذلك فإنني كثيرا ما أترك الصلاة لأسابيع، لأعود إليها بشوق، وتجلدني ذاتي بسياط التأنيب، وب «ثعبان الشجاع الأقرع» الذي قالوا لنا إنه ينتظرني بعد الموت، وبالخوف من عقاب الله. وبدلا من أن يحثني ذلك على الالتزام بالصلاة في وقتها، فإنه يبعدني مرة أخرى عنها أكثر، فأتشاغل عن خوفي ولوم الذات بأمور حياتي المختلفة.
مساء أحد الأيام اتصلت بي صديقتي، أخبرتني أنها تحتاجني في موضوع مهم جدا، وأن علي أن أقدم لها خدمة. وافقت على الفور؛ فهي أختي وصديقتي ولا أنسى وقوفها إلى جانبي، ومحبتها الصادقة لي. التقيتها في اليوم التالي، كانت مختلفة، ربما مضطربة أو مريضة، لا أعرف تحديدا، في عينيها شيء من حماسة وخوف.
ذهبنا إلى «مقصف العمارة» التابع لكلية الهندسة المعمارية، أنا وهي وأخوها الصغير سائر. لم ندخل المقصف بل بقينا في الخارج، وطلبت من أخيها ذي الثلاثة عشر عاما أن يجلب لنا العصير من الداخل، وفور ابتعاده قالت لي: اليوم سألتقيه. - مستحيل! كيف؟ ولماذا تركك؟ ماذا قال لك؟ لكن ... لكن أنت مجنونة! سيعرف أهلك وستوقعين نفسك في المشاكل مرة أخرى. - سأحكي لك كل شيء فيما بعد، لكن الآن قد يأتي في أية لحظة، وسائر قد يرانا ماذا علينا أن نفعل؟ - الآن تقولين ذلك؟ - لا أعرف، أرجوك سما ساعديني. - طيب ابقي هنا، سأتصرف.
ودخلت إلى المقصف مباشرة باتجاه سائر، كان مهذبا جدا وخجولا، قلت له: «ما رأيك أن نتناول فطورنا حتى تعود أختك؟ علينا أن ننتظرها هنا، فقد اضطرت للذهاب إلى دورة المياه، ولا توجد واحدة قريبة، عليها الذهاب بعيدا ، ربما ستبحث في إحدى الكليات، وقد تتأخر. بالله عليكم ماذا أكلتم البارحة؟» اضطرب الولد وراح يتذكر ثم قال: «لا بد أنها العجة، لقد كانت سيئة، أنا لا أحبها أيضا.»
طلبت فطورا، وحرصت على المماطلة في الحديث معه والتأخر في الطلب، جلسنا نأكل ونتحدث وأنا لا أكف عن طرح الأسئلة، كنت سعيدة بما عملته، الآن أخيرا بعد كل هذا الوقت يلتقيان؟ إنهما يشبهان جدو نور ورندة، كيف سيكون لقاؤهما يا ترى؟ لا أعتقد أنهما سيتعانقان! كلا فهذا لا يليق بها، إنها لن تفعل ذلك، ثم إن هذا لا يجوز، كما أن عليها أن تعاتبه، لا أن ترتمي فورا بين يديه. إنهما الآن معا، كم هذا رائع! ترى كيف يبدو؟ هل هو وسيم؟ طويل أم لا؟ استبد بي الفضول لألقي نظرة، لكن كيف؟
قلت لسائر: «أعتقد أني أوقعت أوراقا لي في الخارج، سأعود بعد لحظات، إياك أن تتحرك، لا أريد أن أضيع عنك.» لم أنتظره ليجيب، قمت على الفور وخرجت، ذهبت حيث كنا واقفتين، لم أجدها، أين ذهبت؟ استدرت حول المقصف، وعلى بعد مسافة وجدتهما جالسين على مقعد تحت شجرة، كانت تحجبه عني بظهرها، فلم أر سوى رجليه، إنه أنيق يرتدي سروالا فاتحا وحذاء بنيا. آه لو تتحركين قليلا لأرى وجهه! وكأنها سمعت ما يجول في خاطري، فانحنت إلى الأمام، ورأيته.
Неизвестная страница