الحرب ورم خبيث، قلما دخل بيتا فخرج منه بسلام.
10
على حافة سريرها جلست، تتجاذبها مشاعر شتى، وتخبط بها أمواج متصارعة من غضب وحنين وانتشاء، لا يزال يتذكرني بعد عامين تقريبا! راحت تدندن في سرها: «خطرنا على باله، خطرنا يا هوى ...» ابتسمت، اتجهت إلى المرآة تلمح التماع السعادة في عينيها، ثم ذرفت دمعات سخية من القهر والظلم الذي لحق بها من أقرب الناس إليها. أسرعت إلى هاتفها النقال، ضغطت على زر الذاكرة، فظهر رقم آخر اتصال وارد. كتبته على ورقة خبأتها بعناية تحت ثيابها، وسارعت بمسح الرقم من الذاكرة، ثم أعادت الجهاز إلى مخبئه. لم تكن تستخدمه أبدا؛ فلم يكن فيه رصيد على أية حال. كانت فيما مضى تقوم فقط بالرد على الاتصالات القليلة الواردة التي كانت تطلب صاحب الرقم الأصلي «سعيد»، لكنها تغلق الخط فورا بمجرد سماع الصوت وتتأكد أنه ليس هو. ويوما بعد يوم قلت الاتصالات الواردة، حتى اختفت تماما؛ فبعد آخر مرة تحدثا فيها اكتشف أخوها الجهاز، لكنها بعد أيام ولحسن الحظ وجدت الشريحة سليمة في سلة المهملات بعد أن صادر أخوها الهاتف النقال، فوضعت الشريحة ذاتها في جهاز قديم لم يفتقده أحدهم. ومرت الأسابيع والأشهر وأملها باتصاله يذوي كشمعة بائسة، كان اليأس يقتلها والقلق أيضا. لم تكن تعلم سببا لغيابه المفاجئ رغم وعوده ومشاعره التي بدت لها صادقة جدا. سؤال واحد ظل ينهش صدرها كصرخة مكتومة، كطلقة نارية تغرس في قلبها وتحدث فيه ألما متجددا يوما بعد يوم: لماذا؟ هل حدث له مكروه؟ هل ندم؟ هل تراجع وفقد الثقة بي؟ وعلى الرغم من مشاعر الغضب والمقت وليالي البكاء الطويلة فإنها أبقت بطارية الجهاز ممتلئة على أمل أن يتصل يوما ما.
وها قد اتصل الليلة في هذه الساعة القدسية، لكنه الآن بعيد جدا! لا يهم، المهم أنه لم يتوقف يوما عن حبي! لقد كانت لعبة خبيثة أبعدته عني. كانت ترغب بشدة أن تندفع إلى أمها وتكشف لها كذبتها، أن تصرخ وتنفس عن غضبها، لكن ليالي البكاء الطويلة علمتها الصبر والتأني. أيقنت أنها بذلك ستكون الخاسرة الوحيدة مجددا، فالتزمت الصبر والانتظار؛ فأيام قليلة من الانتظار مع أمل كبير، لا تساوي شيئا أمام عامين مع يأس بائس.
الفصل الخامس
1
حل الخريف أخيرا، كنت متلهفة لقدومه، فأجواؤه الحالمة تأخذني كل مرة إلى عوالمه الجميلة، غيوم حانية تحجب قسوة الشمس، ونسائم باردة تلطف ليالينا الصيفية الحارة بلا كهرباء، وأمطار خفيفة، وبرودة لطيفة، كم أحب الخريف! لطالما حملته الكثير من آمالي، بتحسن حالتي، وانتشالي من الاكتئاب الذي بدأ ينخر في زوايا الروح. وها قد جاء تشرين، لكنه لم يقدر إلا على جر أذيال الصيف الحزين، جاء تشرين متعريا من سحره، متخليا عن بهائه، نازلا من عليائه؛ فلا غيومه ساحرة، ولا أنسامه عاطرة، ولا أمطاره إلا كأياد وقحة تطرق أبواب قلوبنا فتجرحها وتنكأ الذكريات.
دخل الشتاء دفعة واحدة، وغشي بيوتنا، وتسلل إلى عظامنا، كان قاسيا أكثر من المعتاد، أم أننا شعرنا بذلك نتيجة شح مواد التدفئة وغلائها؟ أم بسبب تواطؤ برده مع زمهرير آلامنا وفجائعنا؟ أم مما نشهده كل يوم من تكاثر ذلك السرطان المخيف الذي يتجلى في وجوه تجار الحرب وما يمارسونه علينا من ظلم لا نملك له دفعا؟ لا فرق؛ فعلى كل حال، وحيثما تقلبت بنا الدنيا كنا نلاقي القسوة.
وتحت وطأة هذه الظروف أحس بي أبي أخيرا، نظر إلي ذات صباح وألح النظر وقال: «ما لك مصفرة هكذا؟» وكأنه لا يعلم! ثم جذبني من يدي وأحاط كتفي بذراعه وقبلني على جبيني، وقال: «الله يرضى عليك، انتبهي على نفسك.» ومثل بركان خمد طويلا، راحت الدموع تنفجر من عيني وأخذ قلبي يرتعد، حتى عجب لي والدي وراح يتفحصني ويسألني: «ما بك يا بنت؟ مريضة؟» كنت عاجزة عن الكلام، والعبرات تخنقني، وقد سمحت لنفسي بالبكاء لأول مرة على صدره بعد وفاة نادر بهذا القدر من الحدة. ساقني أبي من يدي وأجلسني بجواره وظل صامتا، وأنا أتنهد مغالبة موجة جديدة من البكاء، ثم أمسك هاتفه المحمول وطلب رقما، وراح يتحدث مع جارنا «جدو نور». ابتسمت في سري فكم كنت مشتاقة للجلوس إليه في مكتبته الحانية! أنهى أبي المكالمة وقال: «أخذت لك موعدا غدا لتذهبي إليه، واستعيري منه ما شئت من الكتب. هيا هيا، قومي واغسلي وجهك، وأعدي لي القهوة.» قفزت فرحا وصفقت بيدي، وعانقته مبتهجة، فقد سمح لي بالعودة إليه بعد آخر مرة اضطررت لقضاء الليل بطوله عنده. من يومها منعني أبي من الذهاب إليه خوفا علينا أنا وفاطمة من مواقف مشابهة؛ ففي آخر الأمر، أن يصيبنا شيء ونحن في بيتنا مع والدينا وتحت نظرهما، خير من أن نكون بعيدتين عنهما.
لقد كان لموقف والدي ذلك اليوم فعل السحر في قلبي، استعدت في لحظة الكثير من الجمال، أخذ قلبي يمتلئ بالمعاني. شعرت أن علي أن أكتب، لم أنتظر، بل ذهبت على الفور وفتحت جهازي الكمبيوتر. دخلت إلى صفحتي على الفيسبوك، وجدت كثيرا من الإشعارات وطلبات الصداقة وعدة رسائل؛ فأنا لم أتصفح الإنترنت منذ خمسة أشهر تقريبا، وقبل أي شيء كتبت على صفحتي:
Неизвестная страница