ولأن نادرا يشبه جدي فقد أحبته جدتي وفضلته علينا، كانت تميزه بقبلاتها وإطرائها وتشتري له أجمل الثياب والهدايا، حتى إنها لم تسمح لوالدي بأخذه معه إلى العمل، وكان أبي يقول لها دوما: «لا تفسدي الولد يا حاجة.» لكن تنبيهاته لم تكن تجدي نفعا، فنشأ نادر مدللا متواكلا، لكنه كان متوقد الذكاء نبيها، إلى جانب وسامته وطوله مع كتفين عريضين وشعر أشقر ناعم.
كنت أتشارك مع نادر في الشغف بتربية الحيوانات وجلب مختلف أنواعها إلى البيت؛ قطط ضالة، وسلاحف صغيرة، وعصافير ملونة، وأرانب، وصيصان. وكان سعيد يوبخنا بقوله: «حرام عليكم، دعوها تعيش بحرية.» وكان يرد عليه نادر: «لو تركناها لماتت فورا، على العكس نحن نطيل أعمارها ونعتني بها.» وكنت كلما نفق أحدها وجدت نفسي أدخل في حالة من الحزن والكآبة الشديدة، وخاصة تلك السمكة الذهبية التي ما زلت إلى اليوم أذكر كيف وجدتها طافية على سطح الماء وقد فارقت الحياة. أصبت يومها بغثيان تبعه إعياء وإقياء حتى إن أمي حلفت على نادر بعدم إحضار أي نوع من الحيوانات بعدها، لكنها كفرت عن يمينها بعد أيام بالطبع.
وعلى خلاف توقعاتنا جميعا فقد أحب نادر الدراسة، وكان ذكيا ينال أعلى الدرجات بأقل مجهود، وبعد الثانوية العامة اختار نادر قسم الكيمياء الحيوية. كان رأسه مزروعا بأفكار جدتي التي طالما ذكرتنا وتظل تذكرنا أن لنادر مستقبلا علميا مرموقا، وأن العمل والتجارة لا تناسبان وجهه الجميل. وهكذا نشأ نادر طفلا مدللا وشابا مجتهدا، لا أدري كيف اجتمعا، لكنني أعلم أنه طالما أغاظني، وكنت الوحيدة التي تعانده وتتشاكل معه.
أما فاطمة أختي الصغرى، التي جاءت إلى الدنيا خطأ، بحسب رأي جدتي حين علمت بحمل أمي بها، فهي بمثابة ابنتي؛ فقد شهدت ولادتها وساهمت كثيرا في تربيتها، وكانت ولا تزال مثل فلقة القمر تفوق بجمالها أخي نادرا، وجهها مدور، وبشرتها ناصعة البياض بعينين زرقاوين وشعر أشقر مجدل. وكثيرا ما كنت أسمع جدتي تحدث عماتي بأن فاطمة سينطلق نصيبها قبلي نظرا لجمالها، ربما؛ فما كنت أملك بشرتها الناصعة، ولا شعرها الأشقر اللامع.
8
ذات مساء عدت إلى رواية «الخيميائي» أحاول أن أستعيد توازني الذاتي، استحضرت بعض عباراتها التي أثرت في أكثر من غيرها: «كل كائن على هذه الأرض يؤدي دورا أساسيا في كتابة تاريخ هذا الكون، لكنه لا يدرك شيئا من هذا الواقع.» فكرت قليلا، ربما هذا غير صحيح تماما بالنسبة إلى الناس كلهم، أما عن نفسي فأريد أن أصنع شيئا مميزا؛ فقد مللت من كل الأمور العادية التي تحدث معي ومع الآلاف غيري في هذا الزمن وفي الماضي، وستتكرر هي نفسها في المستقبل. شعرت أننا نسخ متكررة لنمط واحد، تخيلت مئات الفتيات يتزوجن بأبناء عماتهن أو أعمامهن، ينجبن، ويربين، وينجبن المزيد ويربين ويكبرن ويشخن ويمتن. كنت سأكون واحدة منهن لولا أن الشجاعة كانت حليفي في المرة الماضية، وكم أخشى أن تخونني في المرة القادمة. حسنا، وماذا بعد؟ ماذا عن أحلامي؟ عن حريتي؟ عن حبي؟ ماذا عن أسطورتي الشخصية؟ لكن ألا أريد أن أتزوج وأنجب ويكون لي بيت خاص وأسرة سعيدة؟ فتحت الفيسبوك وكتبت:
العقبات في الطريق كثيرة، واحدة تزيحها لتكمل، والأخرى تبقيها لتصعد.
شعرت برغبة كبيرة في لقاء جدو نور، لم أفكر كثيرا، هاتفته على الفور، فوافق على حضوري، جهزت نفسي وأختي، حملت الكتاب وخرجت.
كان في انتظاري خارج منزله، سلمت عليه، فناولني مفتاح بيته، وقال: «خذي، سأغيب قليلا، لن أتأخر، ادخلي المكتبة وتصرفي كأنك في بيتك، إلى اللقاء.» وقبل أن أنطق وجدته قد رحل، شيعته بنظراتي، كان يمشي بخطوات عريضة وسريعة، عجبت له بالنظر إلى كبر عمره. توجهت إلى العمارة، فتحت الباب بحذر شديد، فأصدر أزيزا مزعجا، دخلت وأغلقته خلفنا، وكأنما تملكني شعور بالحذر الشديد فأخذت أمشي بخفة على الأرض وأومئ إلى فاطمة بالسكوت. لم أسأل مرة جدو نور عن عائلته، هل زوجته نائمة الآن؟ ماذا عن أولاده؟ تذكرت أنني لا أعرف شيئا عنه، وفي المرات التي زرته فيها، لم أر يوما أحدا آخر في بيته. أخذت أتخيل كيف سيكون موقفي لو دخل علي الآن أحد أفراد عائلته، ليتني لم أقبل الدخول إلى بيته بعدم وجوده، لكن هذا لا ينفع الآن.
دخلت إلى المكتبة، كانت معتمة كالعادة، فتحت الستائر فالتمع الخشب تحت ضياء النهار. وضعت أغراضي على الطاولة المستديرة، وأعطيت أختي أوراقا وأقلام تلوين، وتوجهت ناحية المكتبة حيث قسم الروايات. كانت الأرفف نظيفة تماما، نظرت إلى الأعلى ووقفت على رءوس أصابعي، لكنني لم أستطع الوصول إلى الرفوف العليا. سحبت كرسيا ووقفت لألقي نظرة، المزيد والمزيد من الروايات لكنها قديمة وشبه مهترئة. توقف نظري عند رواية ضخمة «البؤساء» تذكرت أنها رواية مشهورة من الأدب العالمي، علي إذن أن أقرأها. سحبتها ونزلت ووضعتها على الطاولة، بدأت في قراءتها، وحين وصلت حتى الصفحة الثلاثين فكرت في أن لدي الوقت الكافي في البيت لإكمال القراءة، أما الآن فعلي أن أكتشف المزيد. استثارني الفضول لأعرف أكثر عن جدو نور، كان هناك مكتب صغير يقبع في إحدى الزوايا، عليه صدفة كبيرة، ومصباح ومنفضة والكثير من الأوراق. نظرت إلى الأسفل وإذا بثلاثة أدراج، هل أفتحها؟ سيكون ذلك تصرفا سيئا، لكن سألقي نظرة واحدة فقط، لن ألمس شيئا، وهكذا أقنعت نفسي بفتحها، فتحت الدرج الأول وإذا به المزيد من الأوراق وكتاب بلغة أجنبية، أغلقته وفتحت الثاني، وجدت علبة مخملية خضراء باهتة اللون، ومن غير تردد فتحتها، يا إلهي! ما هذا؟ لم تقع عيناي على أجمل مما أرى! كانت قلادة فضية يتوسطها حجر أزرق بلون السماء رائع الجمال، أمسكتها بيدي فأخذت تلتمع تحت أشعة الشمس، وتتوهج بأنوار مختلفة الألوان.
Неизвестная страница