ـ[النشر في القراءات العشر]ـ
المؤلف: شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى: ٨٣٣ هـ)
المحقق: علي محمد الضباع (المتوفى ١٣٨٠ هـ)
الناشر: المطبعة التجارية الكبرى [تصوير دار الكتاب العلمية]
عدد الأجزاء: ٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Неизвестная страница
[مقدمة]
- ب -
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي يسر أَسبَاب السَّعَادَة لمن أَرَادَ الْخَيْر لَهُ، وخف باللطف من شَاءَ من عباده ولقصد الْخَيْر والإرشاد أهَّله، فاهتدى لمناهج الْفَلاح، وَرفعت لَهُ ألوية الْقبُول والنجاح، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد سَنَد كَافَّة الْفَضَائِل، وعَلى آله وَأَصْحَابه الَّذين نالوا بِصُحْبَتِهِ مَا سعدت بِهِ الْأَوَاخِر والأوائل.
(أما بعد) فَإِن كتاب «النشر فِي الْقرَاءَات الْعشْر» سفر جلّ قدره، وفاح بَين الْأَنَام عطره، وَعز على الزَّمَان أَن يَأْتِي بِمثلِهِ. وعجزت الأقلام عَن حصر فَضله، فَهُوَ كتاب حقيق أَن تشد إِلَيْهِ الرّحال، لما حواه من صَحِيح النقول وفصيح الْأَقْوَال، جمع فِيهِ مُؤَلفه رَحمَه الله تَعَالَى من الرِّوَايَات والطرق مَا لَا يعتوره وَهن، وَلَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ شكّ وَلَا طعن، على تَوَاتر مُحكم، وَسَنَد مُتَّصِل معلم، فَهُوَ الْبَقِيَّة الْمُغنيَة فِي الْقرَاءَات، بِمَا حواه من مُحَرر طرق الرِّوَايَات. وَهُوَ الْبُسْتَان الْجَامِع وَالرَّوْضَة الزاهية، والإرشاد النافع والتذكرة الواقية.
هَذَا إِلَى مَا انطوى فِي ثناياه من عُلُوم الْأَدَاء، الْجَارِيَة فِي فقه اللُّغَة الْعَرَبيَّة مجْرى الأساس من الْبناء، فَمن علم مخارج الْحُرُوف وصفاتها، إِلَى علم الْوُقُوف وأحكامها، إِلَى بحوث فِي الإدغامين، والهمزات واليائين، وَالْفَتْح والإمالة والرسم، وفني الِابْتِدَاء والختم، إِلَى غير ذَلِك من:
معانٍ يجتليها كل ذِي بصر ... وروضة يجتذبها كل ذِي أدب
فَهُوَ سفر يحْتَاج إِلَيْهِ كل نَاظر فِيهِ: من قَارِئ وأديب ومؤرخ وفقيه.
المقدمة / 2
- ج -
وَلما كَانَ هَذَا الْكتاب مجمع الطّرق المتواترة عَن رُوَاة الْقرَاءَات الْعشْر: كَانَ حَقًا على الْمُسلمين عُمُوما وجماعات حفاظ الْقُرْآن خُصُوصا من أهل هَذَا الْعَصْر. أَن يبادروا إِلَى حفظ هَذِه الْبَقِيَّة الْبَاقِيَة. ويسعوا إِلَى اقتناء هَذِه الدرة الصافية.
وَلما عرف الشهم الْهمام الأمجد (الْحَاج مصطفى مُحَمَّد) صَاحب المكتبة التجارية الْكُبْرَى بِالْقَاهِرَةِ المعزية/ مَا لهَذَا السّفر من عزة وجلال. وَأَن سَنَده لَا زَالَ على اتِّصَال، بَادر إِلَى طبعه، رَجَاء تَعْمِيم نَفعه. فجزاه الله عَن الْقُرْآن وَأَهله خيرا آمين.
المقدمة / 3
- د -
نبذة يسيرَة للتنويه بمؤلف هَذَا الْكتاب
لَئِن كَانَ الْكتاب كَمَا قيل يقْرَأ من عنوانه وَدَلَائِل تباشيره تبدو من جداول بَيَانه: إِن فِي كتاب النشر فِي الْقرَاءَات الْعشْر لأصدق التباشير وأوضح الْأَدِلَّة على نباهة مُؤَلفه وعلو شَأْنه وسمو مرتبته فِي هَذَا الْفَنّ الْجَلِيل حَتَّى لقب بِحَق إِمَام المقرئين وخاتمة الْحفاظ المحقيين. فَهُوَ الإِمَام الْحجَّة الثبت الْمُحَقق المدقق شيخ الْإِسْلَام سَنَد مقرئي الْأَنَام: أَبُو الْخَيْر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن يُوسُف الجرزي.
ولد ﵀ بِدِمَشْق الشَّام فِي لَيْلَة السبت الْخَامِس وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَخمسين وَسَبْعمائة هجرية. وَنَشَأ بهَا وَأتم حفظ الْقُرْآن الْكَرِيم فِي الرَّابِعَة عشرَة من عمره. ثمَّ أَخذ الْقرَاءَات افرادًا على الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب ابْن السلار. وَالشَّيْخ أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الطَّحَّان. وَالشَّيْخ أَحْمد بن رَجَب. ثمَّ جمع للسبعة على الشَّيْخ إِبْرَاهِيم الْحَمَوِيّ. ثمَّ جمع الْقرَاءَات بمضمن كتب عَليّ الشَّيْخ أبي الْمَعَالِي مُحَمَّد بن أَحْمد بن اللبان. ثمَّ فِي سنة ٧٦٨ هـ حج وَقَرَأَ على إِمَام الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وخطيبها أبي عبد الله مُحَمَّد بن صَالح الْخَطِيب بمضمن التَّيْسِير وَالْكَافِي.
ثمَّ رَحل فِي سنة ٧٦٩ إِلَى الديار المصرية. فَدخل الْقَاهِرَة المعزية وَجمع الْقرَاءَات للإثني عشر على الشَّيْخ أبي بكر عبد الله بن الجندي. وللسبعة بمضمن العنوان والتيسير والشاطبية على أبي عبد الله مُحَمَّد بن الصَّائِغ. وَأبي مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن الْبَغْدَادِيّ. وَلما وصل إِلَى قَوْله تَعَالَى (إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان) توفى ابْن الجندي. وَورد عَنهُ رَحمَه الله تَعَالَى أَنه استجازه فَأَجَازَهُ وَأشْهد عَلَيْهِ قبل وَفَاته. وَلما أكمل على الشَّيْخَيْنِ الْمَذْكُورين رَجَعَ إِلَى دمشق. ثمَّ رَحل ثَانِيَة إِلَى مصر وَجمع ثَانِيًا على ابْن الصَّائِغ للعشرة بمضمن الْكتب الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة والمستنير والتذكرة والإرشادين والتجريد. ثمَّ على ابْن الْبَغْدَادِيّ للأربعة عشر مَا عدا
المقدمة / 4
- هـ -
اليزيدي ثمَّ عَاد إِلَى دمشق فَجمع بهَا الْقرَاءَات السَّبع فِي خَتمه على القَاضِي أبي يُوسُف أَحْمد بن الْحُسَيْن الكفري الْحَنَفِيّ. ثمَّ رَحل ثَالِثَة إِلَى الديار المصرية. وَقَرَأَ بمضمن الإعلان وَغَيره على الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الْقَرَوِي. وَسمع كثيرا من كتب الْقرَاءَات وأجيز بهَا.
وَقَرَأَ الحَدِيث وَالْفِقْه وَالْأُصُول والمعاني وَالْبَيَان على كثير من شُيُوخ مصر مِنْهُم الشَّيْخ ضِيَاء الدَّين سعد الله الْقزْوِينِي. وَأَجَازَهُ بالإفتاء شيخ الْإِسْلَام الْمُقْرِئ الْمُحدث المؤرخ أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن كثير قبيل وَفَاته سنة ٧٧٤ هـ وَكَذَلِكَ أذن لَهُ الشَّيْخ ضِيَاء الدَّين سنة ٧٧٩ هـ وَكَذَلِكَ شيخ الْإِسْلَام البُلْقِينِيّ سنة ٧٨٥ هـ.
وَجلسَ للإقراء تَحت قبَّة النسْر بالجامع الْأمَوِي سِنِين.
وَأخذ الْقرَاءَات عَنهُ كَثِيرُونَ. فَمن كمل عَلَيْهِ الْقرَاءَات الْعشْر بِالشَّام ومصر ابْنه أَبُو بكر أَحْمد. وَالشَّيْخ مَحْمُود بن الْحُسَيْن بن سُلَيْمَان الشِّيرَازِيّ. وَالشَّيْخ أَبُو بكر بن مصبح الْحَمَوِيّ. وَالشَّيْخ نجيب الدَّين عبد الله بن قطب بن الْحسن الْبَيْهَقِيّ. وَالشَّيْخ أَحْمد بن مَحْمُود بن أَحْمد الْحِجَازِي الضَّرِير. والمحب مُحَمَّد بن أَحْمد بن الهائم. وَالشَّيْخ الْخَطِيب مُؤمن بن عَليّ بن مُحَمَّد الرُّومِي. وَالشَّيْخ يُوسُف بن أَحْمد بن يُوسُف الحبشي. وَالشَّيْخ عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الصَّالِحِي. وَالشَّيْخ عَليّ بن حُسَيْن بن عَليّ اليزدي. وَالشَّيْخ مُوسَى الْكرْدِي. وَالشَّيْخ عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ نَفِيس. وَالشَّيْخ أَحْمد بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم الرماني.
وَولي قَضَاء الشَّام سنة ٧٩٣ هـ. ثمَّ دخل الرّوم لما ناله بالديار المصرية من أَخذ مَاله فَنزل مَدِينَة بروسة دَار السُّلْطَان الْعَادِل بايزيد العثماني سنة ٧٩٨ هـ فأكمل عَلَيْهِ الْقرَاءَات الْعشْر بهَا كَثِيرُونَ: مِنْهُم الشَّيْخ أَحْمد بن رَجَب. وَالشَّيْخ سُلَيْمَان الرُّومِي. وَالشَّيْخ عوض عبد الله والفاضل عَليّ باشا، وَالْإِمَام صفر شاه، والولدان الصالحان مُحَمَّد ومحمود أَبنَاء الشَّيْخ الصَّالح الزَّاهِد فَخر الدَّين الياس بن عبد الله، وَالشَّيْخ أَبُو سعيد بن بشلمش بن منتشا شيخ مَدِينَة العلايا وَغَيرهم.
المقدمة / 5
- و-
ثمَّ لما كَانَت فتْنَة تيمورلنك سنة ٨٥٥ هـ الَّتِي انْتَهَت بِمَوْت السُّلْطَان بايزيد احتشد تيمورلنك المترجم لَهُ مَعَه وَحمله إِلَى مَا وَرَاء النَّهر وأنزله بِمَدِينَة كش فأقرأ بهَا الْقرَاءَات وبسمرقند أَيْضا. وَمِمَّنْ أكمل عَلَيْهِ الْقرَاءَات الْعشْر بِمَدِينَة كش الشَّيْخ عبد الْقَادِر ابْن طلة الرُّومِي. والحافظ بايزيد الْكشِّي. والحافظ مَحْمُود بن الْمقري شيخ الْقرَاءَات بهَا.
ثمَّ لما توفى تيمورلنك سنة ٨.٧ هـ خرج مِمَّا وَرَاء النَّهر فوصل خُرَاسَان وأقرأ بِمَدِينَة هراة جمَاعَة للعشرة أكمل بهَا جمال مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الشهير بِابْن افتخار الْهَرَوِيّ.
ثمَّ قفل رَاجعا إِلَى مَدِينَة يزدْ فأكمل عَلَيْهِ الْعشْر جمَاعَة مِنْهُم الْمُقْرِئ الْفَاضِل شمس الدَّين بن مُحَمَّد الدّباغ الْبَغْدَادِيّ. ثمَّ دخل أَصْبَهَان فَقَرَأَ عَلَيْهِ جمَاعَة أَيْضا. ثمَّ وصل إِلَى شيراز فِي رَمَضَان سنة ٨.٨ هـ فأمسكه بهَا سلطانها بير مُحَمَّد بن صَاحبهَا أَمِير عمر فَقَرَأَ عَلَيْهِ بهَا جمَاعَة كَثِيرُونَ للعشرة مِنْهُم السَّيِّد مُحَمَّد بن حيدر المسبحي. وَإِمَام الدَّين عبد الرَّحِيم الْأَصْبَهَانِيّ. وَنجم الدَّين الْخلال. وَأَبُو بكر الجنحي. ثمَّ ألزمهُ صَاحبهَا بير مُحَمَّد بِالْقضَاءِ بهَا وبممالكها وَمَا أضيف إِلَيْهَا كرها فَبَقيَ فِيهَا مُدَّة وتغيرت عَلَيْهِ الْمُلُوك فَلم تطب لَهُ الْإِقَامَة بهَا فَخرج مِنْهَا مُتَوَجها إِلَى الْبَصْرَة وَكَانَ قد رَحل إِلَيْهِ الْمُقْرِئ الْفَاضِل المبرز أَبُو الْحسن طَاهِر بن عرب الْأَصْبَهَانِيّ فَجمع عَلَيْهِ خَتمه بالعشر من الطّيبَة والنشر ثمَّ شرع فِي خَتمه للكسائي من روايتي قُتَيْبَة ونصير عَنهُ ففارقه بِالْبَصْرَةِ وَتوجه الْأُسْتَاذ وَمَعَهُ الْمولى معِين الدَّين بن عبد الله بن قَاضِي كازرون فوصلا إِلَى قَرْيَة عنيزة بِنَجْد وتوجها مِنْهَا قَاصِدين الْبَيْت الْحَرَام فَأَخذهُمَا أَعْرَاب من بني لَام بعد مرحلَتَيْنِ فنجاهما الله تَعَالَى ورجعا إِلَى عنيزة ونظم بهَا الدرة المضيئة فِي الْقرَاءَات الثَّلَاث حَسْبَمَا تضمنه كتاب تحبير التَّيْسِير لَهُ، ثمَّ تيَسّر لَهما الْحَج وَأقَام بِالْمَدِينَةِ مُدَّة قَرَأَ عَلَيْهِ بهَا
المقدمة / 6
- ز -
شيخ الْحرم الطواشي وَألف بهَا فِي الْقرَاءَات كتاب نشر الْقرَاءَات الْعشْر ومختصره التَّقْرِيب وَغَيرهمَا.
وَبعد ذَلِك عَاد إِلَى شيراز وَبهَا كَانَت وَفَاته فِي ضحوة الْجُمُعَة لخمس خلون من ربيع الأول سنة ٨٣٣ هـ وَدفن بدار الْقُرْآن الَّتِي أَنْشَأَهَا بهَا عَن ٨٢ سنة ﵀ وبوأه بحبوحة رِضَاهُ وَكفى بِهِ رحِيما.
آثاره (مؤلفاته)
كتاب النشر فِي الْقرَاءَات الْعشْر «وَهُوَ هَذَا» الدرة المضية فِي الْقرَاءَات الثَّلَاث المرضية. منجد المقرئين، الْمُقدمَة فِيمَا على قَارِئ الْقُرْآن أَن يعمله، تحبير التَّيْسِير فِي الْقرَاءَات الْعشْر، نِهَايَة الدرايات فِي أَسمَاء رجال الْقرَاءَات (الطَّبَقَات الْكُبْرَى)، غَايَة النهايات فِي أَسمَاء رجال الْقرَاءَات (الطَّبَقَات الصُّغْرَى)، إتحاف المهرة فِي تَتِمَّة الْعشْرَة، إِعَانَة المهرة فِي الزِّيَادَة على الْعشْرَة، التَّمْهِيد فِي التجويد، نظم الْهِدَايَة فِي تَتِمَّة الْعشْرَة، الْحصن الْحصين من كَلَام سيد الْمُرْسلين، عدَّة الْحصن الْحصين وجنة الْحصن الْحصين، التَّعْرِيف بالمولد الشريف، عرف التَّعْرِيف بالمولد الشريف، التَّوْضِيح فِي شرح المصابيح، الْبِدَايَة فِي عُلُوم الرِّوَايَة، الْهِدَايَة فِي فنون الحَدِيث (نظم)، الأولية فِي الْأَحَادِيث الأولية، عقد اللآلي فِي الْأَحَادِيث المسلسلة العوالي، الْمسند الأحمد فِيمَا يتَعَلَّق بِمُسْنَد أَحْمد، الْقَصْد الأحمد فِي رجال أَحْمد، المصعد الأحمد فِي ختم مسانيد أَحْمد، الإجلال والتعظيم فِي مقَام إِبْرَاهِيم، الْإِبَانَة فِي الْعمرَة من الْجِعِرَّانَة، التكريم فِي العمره من التَّنْعِيم، غَايَة المنى فِي زِيَارَة منى، فضل حراء، أحاسن المنن، أَسْنَى المطالب فِي مَنَاقِب عَليّ بن أبي طَالب، الْجَوْهَرَة فِي النَّحْو، الإهتداء إِلَى معرفَة الْوَقْف والإبتداء، الظرائف فِي رسم الْمَصَاحِف.
المقدمة / 7
- ح -
الْإِسْنَاد الَّذِي وصل إليَّ هَذَا الْكتاب بواسطته عَن مُؤَلفه رضوَان الله عَلَيْهِ
قَرَأت هَذَا الْكتاب من أَوله إِلَى آخِره على الْأُسْتَاذ الْجَلِيل الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن ابْن حُسَيْن الْخَطِيب الشعار سنة ١٣٣٨ هـ. وَأَخْبرنِي أَنه قَرَأَهُ على خَاتِمَة الْمُحَقِّقين شمس الْملَّة وَالدّين مُحَمَّد بن أَحْمد الْمُتَوَلِي شيخ قراء ومقارئ مصر الأسبق. وَهُوَ على شَيْخه الْمُحَقق الْعُمْدَة المدقق السَّيِّد أَحْمد الدُّرِّي الشهير بالتهامى. وَهُوَ على شيخ قراء وقته الْعَالم الْعَامِل الشَّيْخ أَحْمد سلمونة. وَهُوَ على شَيْخه السَّيِّد إِبْرَاهِيم العبيدي كَبِير المقرئين فِي وقته. وَهُوَ على سبط القطب الخضيري الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الأَجْهُورِيّ. وَهُوَ على الْعَلامَة أبي السماح البقري. وَهُوَ على شمس الدَّين مُحَمَّد ابْن قَاسم البقري. وَهُوَ على الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن اليمني. وَهُوَ على وَالِده الشَّيْخ شحاذة الييمني. وَهُوَ على شيخ أهل زَمَنه نَاصِر الدَّين الطبلاوي. وَهُوَ على شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين أبي يحيى زَكَرِيَّا الْأنْصَارِيّ. وَهُوَ على شيخ شُيُوخ وقته أبي النَّعيم رضوَان العقبي. وَهُوَ على الْمُؤلف.
تغمد الله الْجَمِيع برحمته. وأسكنهم فسيح جنته. آمين
كتبه
مُحَمَّد عَليّ الضباع
شيخ عُمُوم المقارئ: بالديار المصرية
المقدمة / 8
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ مَوْلَانَا الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، مُقْتَدَى الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، مُقْرِي دِيَارِ مِصْرَ وَالشَّامِ، افْتِخَارُ الْأَئِمَّةِ، نَاصِرُ الْأُمَّةِ، أُسْتَاذُ الْمُحَدِّثِينَ، بَقِيَّةُ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، شَمْسُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ، أَبُو الْخَيْرِ مُحَمَّدُ بْنُ الْجَزَرِيِّ الشَّافِعِيُّ ﵀ وَرَضِيَ عَنْهُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ كَلَامَهُ وَيَسَّرَهُ، وَسَهَّلَ نَشْرَهُ لِمَنْ رَامَهُ وَقَدَّرَهُ، وَوَفَّقَ لِلْقِيَامِ بِهِ مَنِ اخْتَارَهُ وَبَصَّرَهُ، وَأَقَامَ لِحِفْظِهِ خِيرَتَهُ مِنْ بَرِيَّتِهِ الْخِيَرَةِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةَ مُقِرٍّ بِهَا بِأَنَّهَا لِلنَّجَاةِ مُقَرِّرَةٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْقَائِلُ: إِنَّ الْمَاهِرَ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي صُدُورِهِمُ السَّلِيمَةِ وَصُحُفِهِ الْمُطَهَّرَةِ، وَسَلَّمَ وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ الْمَهَرَةِ، خُصُوصًا الْقُرَّاءَ الْعَشْرَةَ، الَّذِينَ كُلٌّ مِنْهُمْ تَجَرَّدَ لِكِتَابِ اللَّهِ فَجَوَّدَهُ وَحَرَّرَهُ، وَرَتَّلَهُ كَمَا أُنْزِلَ وَعَمِلَ بِهِ وَتَدَبَّرَهُ، وَزَيَّنَهُ بِصَوْتِهِ وَتَغَنَّى بِهِ وَحَبَّرَهُ، وَرَحِمَ اللَّهُ السَّادَةَ الْمَشَايِخَ الَّذِينَ جَمَعُوا فِي اخْتِلَافِ حُرُوفِهِ وَرِوَايَاتِهِ الْكُتُبَ الْمَبْسُوطَةَ وَالْمُخْتَصَرَةَ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ تَيْسِيرَهُ فِيهَا عُنْوَانًا وَتَذْكِرَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْضَحَ مِصْبَاحَهُ إِرْشَادًا وَتَبْصِرَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْرَزَ الْمَعَانِيَ فِي حِرْزِ الْأَمَانِي مُفِيدَةً وَخَيِّرَةً، أَثَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْمَعِينَ، وَجَمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ فِي عِلِّيِّينَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
وَبَعْدُ: فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَشْرُفُ إِلَّا بِمَا يَعْرِفُ، وَلَا يَفْضُلُ إِلَّا بِمَا يَعْقِلُ، وَلَا يَنْجُبُ إِلَّا بِمَنْ يَصْحَبُ، وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَعْظَمَ كِتَابٍ أُنْزِلَ، كَانَ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ ﷺ أَفْضَلَ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، وَكَانَتْ أُمَّتُهُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَفْضَلَ
1 / 1
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ مِنَ الْأُمَمِ، وَكَانَتْ حَمَلَتُهُ أَشْرَفَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقُرَّاؤُهُ وَمُقْرِئُوهُ أَفْضَلَ هَذِهِ الْمِلَّةِ.
كَمَا أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَضِرُ الْحَنَفِيُّ ﵀ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ ظَاهِرَ دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ فِي أَوَائِلِ سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ نِعْمَةَ الصَّالِحِيُّ سَمَاعًا عَلَيْهِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَالِبٍ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْقُبَيْطِيِّ فِي آخَرِينَ إِذْنًا، قَالُوا: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْمُقَرَّبِ الْكَرْخِيُّ، أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا شَيْخُنَا أَبُو عَلِيٍّ الْمُقْرِي - يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَطَّارَ -، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْفَضْلِ الْعِجْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَيُّوبَ السَّقْطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْبُرْجُمَانِيُّ - يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ -، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ الْجُرْجَانِيُّ وَكُنَّا نَعُدُّهُ مِنَ الْأَبْدَالِ، عَنْ نَهْشَلٍ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَشْرَافُ أُمَّتِي حَمَلَةُ الْقُرْآنِ.
نَهْشَلٌ هَذَا ضَعِيفٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ الْجُرْجَانِيِّ هَذَا عَنْ كَامِلٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّاسِبِيِّ عَنِ الضَّحَّاكِ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: أَشْرَفُ أُمَّتِي حَمَلَةُ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَذْكُرْ نَهْشَلًا فِي إِسْنَادِهِ، وَالصَّوَابُ ذِكْرُهُ كَمَا أَخْبَرَتْنَا سِتُّ الْعَرَبِ ابْنَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ مُشَافَهَةً فِي دَارِهَا بِسَفْحِ قَاسِيُونَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، قَالَتْ: أَنَا جَدِّي عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، أَنَا أَبُو سَعْدٍ الصَّفَّارُ فِي كِتَابِهِ، أَنَا زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ سَمَاعًا، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَافِظُ، أَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْفَارِسِيُّ إِمْلَاءً، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرَيْشٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْبُرْجُمَانِيُّ، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ الْجُرْجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا نَهْشَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَشْرَافُ أُمَّتِي حَمَلَةُ الْقُرْآنِ
1 / 2
وَأَصْحَابُ اللَّيْلِ. كَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَرُوِّينَا فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ثَلَاثَةٌ لَا يَكْتَرِثُونَ لِلْحِسَابِ وَلَا تُفْزِعُهُمُ الصَّيْحَةُ وَلَا يُحْزِنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ: حَامِلُ الْقُرْآنِ يُؤَدِّيهِ إِلَى اللَّهِ يَقْدَمُ عَلَى رَبِّهِ سَيِّدًا شَرِيفًا حَتَّى يُرَافِقَ الْمُرْسَلِينَ، وَمَنْ أَذَّنَ سَبْعَ سِنِينَ لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ طَمَعًا، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا فِي الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: خَيْرُكُمْ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَقْرَأَهُ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ﵁ وَلَفْظُهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ التَّابِعِيُّ الْجَلِيلُ يَقُولُ لَمَّا يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عُثْمَانَ: هَذَا الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا، يُشِيرُ إِلَى كَوْنِهِ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِالْكُوفَةِ يُعَلِّمُ الْقُرْآنَ وَيُقْرِئُهُ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَكَثْرَةِ عِلْمِهِ، وَحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، وَبَقِيَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِجَامِعِ الْكُوفَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَعَلَيْهِ قَرَأَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ﵄، وَلِذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ ﵏ لَا يَعْدِلُونَ بِإِقْرَاءِ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَقَدْ رُوِّينَا عَنْ شَقِيقٍ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁: إِنَّكَ تُقِلُّ الصَّوْمَ. قَالَ: إِنِّي إِذَا صُمْتُ ضَعُفْتُ عَنِ الْقُرْآنِ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إِلَيَّ.
وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَقُولُ اللَّهُ ﷿: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ جَمَعَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ الْهَمَذَانِيُّ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِي بَعْضِهَا: مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي أَنْ يَتَعَلَّمَهُ أَوْ يُعَلِّمَهُ عَنْ دُعَائِي وَمَسْأَلَتِي وَأَسْنَدَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَرُوِّينَا عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ﵄ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَفْضَلُ عِبَادَةِ أُمَّتِي
1 / 3
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَعَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمَّانِيِّ: سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنِ الرَّجُلِ يَغْزُو أَحَبُّ إِلَيْكَ أَوْ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: يُقْرِئُ الْقُرْآنَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ، وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ قَالَ: " مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا " وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ: إِلَّا الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ: " أَبْقَى النَّاسِ عُقُولًا قُرَّاءُ الْقُرْآنِ ".
وَأَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَنَّا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ الْغَنِيِّ بْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سُرُورٍ الْمَقْدِسِيَّ الْحَافِظَ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْقُوسِيَانِيُّ سَمَاعًا، أَنَا أَبُو شُجَاعٍ الدَّيْلَمِيُّ الْحَافِظُ، أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مَعْمَرٍ الْأَثْوَابِيُّ الْوَرَّاقُ، أَنَا أَبُو الْحَسَنِ طَاهِرُ بْنُ حَمَدِ بْنِ سَعْدَوَيْهِ الدِّهْقَانُ بِهَمَذَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ النَّيْسَابُورِيُّ بِهَا، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ (ح) وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّالِحِيُّ شِفَاهًا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهِ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ السَّلَامِيُّ، أَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ، أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مِقْسَمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مُحَمَّدٍ النَّهَاوَنْدِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - يَقُولُ: رَأَيْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ فِي النَّوْمِ فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، مَا أَفْضَلُ مَا يَتَقَرَّبُ الْمُتَقَرِّبُونَ بِهِ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: بِكَلَامِي يَا أَحْمَدُ، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ بِفَهْمٍ أَمْ بِغَيْرِ فَهْمٍ؟ فَقَالَ: بِفَهْمٍ وَبِغَيْرِ فَهْمٍ.
وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ فِي كِتَابِهِمْ هَذَا الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِمْ ﷺ بِمَا لَمْ يَكُنْ لِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ فِي كُتُبِهَا الْمُنَزَّلَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى تَكَفَّلَ بِحِفْظِهِ دُونَ سَائِرِ الْكُتُبِ، وَلَمْ يَكِلْ حِفْظَهُ إِلَيْنَا، قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، وَذَلِكَ إِعْظَامٌ لِأَعْظَمِ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ ﷺ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَحَدَّى بِسُورَةٍ مِنْهُ أَفْصَحَ الْعَرَبِ لِسَانًا وَأَعْظَمَهُمْ عِنَادًا وَعُتُوًّا وَإِنْكَارًا فَلَمْ
1 / 4
يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِآيَةٍ مِثْلِهِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُتْلَى آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ نَيِّفٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ مَعَ كَثْرَةِ الْمُلْحِدِينَ وَأَعْدَاءِ الدِّينِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُعَارَضَةَ شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَيُّ دَلَالَةٍ أَعْظَمُ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ ﷺ مِنْ هَذَا؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ عُلَمَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَمْ تَزَلْ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَإِلَى آخِرِ وَقْتٍ يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْحِكَمِ وَغَيْرِهَا مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مُتَقَدِّمٌ وَلَا يَنْحَصِرُ لِمُتَأَخِّرٍ، بَلْ هُوَ الْبَحْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا قَرَارَ لَهُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَا غَايَةَ لِآخِرِهِ يُوقَفُ عَلَيْهِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ تَحْتَجْ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَى نَبِيٍّ بَعْدَ نَبِيِّهَا ﷺ كَمَا كَانَتِ الْأُمَمُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ زَمَانٌ مِنْ أَزْمِنَتِهِمْ عَنْ أَنْبِيَاءَ يُحَكِّمُونَ أَحْكَامَ كِتَابِهِمْ وَيَهْدُونَهُمْ إِلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فِي عَاجِلِهِمْ وَمَآبِهِمْ، قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَوَكَلَ حِفْظَ التَّوْرَاةِ إِلَيْهِمْ ; فَلِهَذَا دَخَلَهَا بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمُ التَّحْرِيفُ وَالتَّبْدِيلُ.
وَلَمَّا تَكَفَّلَ تَعَالَى بِحِفْظِهِ خَصَّ بِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ بَرِيَّتِهِ، وَأَوْرَثَهُ مَنِ اصْطَفَاهُ مِنْ خَلِيقَتِهِ، قَالَ - تَعَالَى -: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا وَقَالَ ﷺ: إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ، قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَقَدْ أَخْبَرَتْنَا بِهِ عَالِيًا أُمُّ مُحَمَّدٍ سِتُّ الْعَرَبِ ابْنَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الصَّالِحِيَّةُ مُشَافَهَةً، أَنَا جَدِّي قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا حَاضِرَةٌ، أَنَا أَبُو الْمَكَارِمِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ اللَّبَّانُ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَصْبَهَانَ، أَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَدَّادُ سَمَاعًا، أَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بُدَيْلٍ الْعُقَيْلِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ:
1 / 5
أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُدَيْلٍ.
ثُمَّ إِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِ الْقُلُوبِ وَالصُّدُورِ لَا عَلَى حِفْظِ الْمَصَاحِفِ وَالْكُتُبِ، وَهَذِهِ أَشْرَفُ خَصِيصَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إِنَّ رَبِّي قَالَ لِي: قُمْ فِي قُرَيْشٍ فَأَنْذِرْهُمْ فَقُلْتُ لَهُ: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي حَتَّى يَدَعُوهُ خُبْزَةً، فَقَالَ: مُبْتَلِيكَ وَمُبْتَلِي بِكَ وَمُنْزِلٌ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، فَابْعَثْ جُنْدًا أَبْعَثْ مِثْلَهُمْ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ، وَأَنْفِقْ يُنْفَقْ عَلَيْكَ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إِلَى صَحِيفَةٍ تُغْسَلُ بِالْمَاءِ، بَلْ يَقْرَءُوهُ فِي كُلِّ حَالٍ كَمَا جَاءَ فِي صِفَةِ أُمَّتِهِ: " أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ "، وَذَلِكَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَهُ لَا فِي الْكُتُبِ وَلَا يَقْرَءُونَهُ كُلَّهُ إِلَّا نَظَرًا لَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِحِفْظِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِهِ أَقَامَ لَهُ أَئِمَّةً ثِقَاتٍ تَجَرَّدُوا لِتَصْحِيحِهِ وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي إِتْقَانِهِ وَتَلَقَّوْهُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ حَرْفًا حَرْفًا، لَمْ يُهْمِلُوا مِنْهُ حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا وَلَا إِثْبَاتًا وَلَا حَذْفًا، وَلَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ شَكٌّ وَلَا وَهْمٌ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ حَفِظَهُ كُلَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ أَكْثَرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ بَعْضَهُ، كُلُّ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي الْقِرَاءَاتِ: مَنْ نُقِلَ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَذَكَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَسَالِمًا، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَمُعَاوِيَةَ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّائِبِ، وَعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَذَكَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَأَبَا الدَّرْدَاءِ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَأَبَا زَيْدٍ، وَمُجَمِّعَ بْنَ جَارِيَةَ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ﵃ أَجْمَعِينَ.
1 / 6
وَلَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ﵁، وَقَاتَلَ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَهْلَ الرِّدَّةِ وَأَصْحَابَ مُسَيْلِمَةَ، وَقُتِلَ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوُ الْخَمْسِمِائَةِ، أُشِيرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ خَشْيَةَ أَنْ يَذْهَبَ بِذَهَابِ الصَّحَابَةِ، فَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَأْمُرْ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ اجْتَمَعَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِتَتَبُّعِ الْقُرْآنِ وَجَمْعِهِ، فَجَمَعَهُ فِي صُحُفٍ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ ﵁ حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ ﵁ حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ ﵂.
وَلَمَّا كَانَ فِي نَحْوِ ثَلَاثِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ ﵁ حَضَرَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَتْحَ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، فَرَأَى النَّاسَ يَخْتَلِقُونَ فِي الْقُرْآنِ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ لِلْآخَرِ قِرَاءَتِي أَصَحُّ مِنْ قِرَاءَتِكَ، فَأَفْزَعَهُ ذَلِكَ وَقَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَقَالَ: أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخْهَا ثُمَّ نَرُدَّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْهَا إِلَيْهِ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ يَنْسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدٌ فِي شَيْءٍ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَكُتِبَ مِنْهَا عِدَّةُ مَصَاحِفَ، فَوَجَّهَ بِمُصْحَفٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَمُصْحَفٍ إِلَى الْكُوفَةِ، وَمُصْحَفٍ إِلَى الشَّامِ، وَتَرَكَ مُصْحَفًا بِالْمَدِينَةِ، وَأَمْسَكَ لِنَفْسِهِ مُصْحَفًا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْإِمَامُ، وَوَجَّهَ بِمُصْحَفٍ إِلَى مَكَّةَ، وَبِمُصْحَفٍ إِلَى الْيَمَنِ، وَبِمُصْحَفٍ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ الْمَعْصُومَةُ مِنَ الْخَطَأِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْمَصَاحِفُ وَتَرْكِ مَا خَالَفَهَا مِنْ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَإِبْدَالِ كَلِمَةٍ بِأُخْرَى مِمَّا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ ثُبُوتًا مُسْتَفِيضًا أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَجُرِّدَتْ هَذِهِ الْمَصَاحِفُ جَمِيعُهَا مِنَ النُّقَطِ وَالشَّكْلِ لِيَحْتَمِلَهَا مَا صَحَّ نَقْلُهُ وَثَبَتَ تِلَاوَتُهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، إِذْ كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْحِفْظِ لَا عَلَى مُجَرَّدِ الْخَطِّ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْرُفِ الَّتِي
1 / 7
أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَكُتِبَتِ الْمَصَاحِفُ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ: كَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَعُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ﵁: لَوْ وَلِيتُ فِي الْمَصَاحِفِ مَا وَلِيَ عُثْمَانُ لَفَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ.
وَقَرَأَ كُلُّ أَهْلِ مِصْرٍ بِمَا فِي مُصْحَفِهِمْ، وَتَلَقَّوْا مَا فِيهِ عَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَلَقَّوْهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَامُوا بِذَلِكَ مَقَامَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَلَقَّوْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
(فَمِمَّنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ) ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وَسَالِمٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسُلَيْمَانُ وَعَطَاءٌ ابْنَا يَسَارٍ وَمُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ الْمَعْرُوفُ بِمُعَاذٍ الْقَارِئِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ وَابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، (وَبِمَكَّةَ) عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، (وَبِالْكُوفَةِ) عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَمَسْرُوقٌ وَعُبَيْدَةُ وَعَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَعُبَيْدُ بْنُ نُضَيْلَةَ وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ.
(وَبِالْبَصْرَةِ) عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو رَجَاءٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَمُعَاذٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ، (وَبِالشَّامِ) الْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي شِهَابٍ الْمَخْزُومِيُّ صَاحِبُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَخُلَيْدُ بْنُ سَعْدٍ صَاحِبُ أَبِي الدَّرْدَاءِ. ثُمَّ تَجَرَّدَ قَوْمٌ لِلْقِرَاءَةِ وَالْأَخْذِ، وَاعْتَنَوْا بِضَبْطِ الْقِرَاءَةِ أَتَمَّ عِنَايَةٍ، حَتَّى صَارُوا فِي ذَلِكَ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ وَيُرْحَلُ إِلَيْهِمْ وَيُؤْخَذُ عَنْهُمْ، أَجْمَعَ أَهْلُ بَلَدِهِمْ عَلَى تَلَقِّي قِرَاءَتِهِمْ بِالْقَبُولِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِمْ فِيهَا اثْنَانِ، وَلِتَصَدِّيهِمْ لِلْقِرَاءَةِ نُسِبَتْ إِلَيْهِمْ، (فَكَانَ بِالْمَدِينَةِ) أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، ثُمَّ شَيْبَةُ بْنُ نِصَاحٍ، ثُمَّ نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، (وَكَانَ بِمَكَّةَ) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ الْأَعْرَجُ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَيْصِنٍ، (وَكَانَ بِالْكُوفَةِ) يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ وَسُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، ثُمَّ حَمْزَةُ، ثُمَّ الْكِسَائِيُّ، (وَكَانَ
1 / 8
بِالْبَصْرَةِ) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، ثُمَّ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ، ثُمَّ يَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ، (وَكَانَ بِالشَّامِ) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ وَعَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلَابِيُّ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، ثُمَّ يَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ الذِّمَارِيُّ، ثُمَّ شُرَيْحُ بْنُ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيُّ.
ثُمَّ إِنَّ الْقُرَّاءَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كَثُرُوا وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَانْتَشَرُوا وَخَلْفَهُمْ أُمَمٌ بَعْدَ أُمَمٍ، عُرِفَتْ طَبَقَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفَتْ صِفَاتُهُمْ، فَكَانَ مِنْهُمُ الْمُتْقِنُ لِلتِّلَاوَةِ الْمَشْهُورُ بِالرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ، وَمِنْهُمُ الْمُقْتَصِرُ عَلَى وَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَكَثُرَ بَيْنَهُمْ لِذَلِكَ الِاخْتِلَافُ، وَقَلَّ الضَّبْطُ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ، وَكَادَ الْبَاطِلُ يَلْتَبِسُ بِالْحَقِّ، فَقَامَ جَهَابِذَةُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَصَنَادِيدُ الْأَئِمَّةِ، فَبَالَغُوا فِي الِاجْتِهَادِ وَبَيَّنُوا الْحَقَّ الْمُرَادَ، وَجَمَعُوا الْحُرُوفَ وَالْقِرَاءَاتِ، وَعَزَوُا الْوُجُوهَ وَالرِّوَايَاتِ، وَمَيَّزُوا بَيْنَ الْمَشْهُورِ وَالشَّاذِّ، وَالصَّحِيحِ وَالْفَاذِّ، بِأُصُولٍ أَصَّلُوهَا، وَأَرْكَانٍ فَصَّلُوهَا، وَهَا نَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْهَا وَنُعَوِّلُ كَمَا عَوَّلُوا عَلَيْهَا فَنَقُولُ:
كُلُّ قِرَاءَةٍ وَافَقَتِ الْعَرَبِيَّةَ وَلَوْ بِوَجْهٍ، وَوَافَقَتْ أَحَدَ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَلَوِ احْتِمَالًا وَصَحَّ سَنَدُهَا، فَهِيَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ رَدُّهَا وَلَا يَحِلُّ إِنْكَارُهَا، بَلْ هِيَ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَى النَّاسِ قَبُولُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، أَمْ عَنِ الْعَشْرَةِ، أَمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ، وَمَتَى اخْتَلَّ رُكْنٌ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ أُطْلِقَ عَلَيْهَا ضَعِيفَةٌ أَوْ شَاذَّةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنِ السَّبْعَةِ أَمْ عَمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمْ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَئِمَّةِ التَّحْقِيقِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَمَّارٍ الْمَهْدَوِيُّ، وَحَقَّقَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي شَامَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافُهُ.
(قَالَ أَبُو شَامَةَ) ﵀ فِي كِتَابِهِ " الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ ": فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُغْتَرَّ بِكُلِّ قِرَاءَةٍ
1 / 9
تُعْزَى إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الصِّحَّةِ وَإِنْ هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِلَّا إِذَا دَخَلَتْ فِي ذَلِكَ الضَّابِطِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَنْفَرِدُ بِنَقْلِهَا مُصَنِّفٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِنَقْلِهَا عَنْهُمْ، بَلْ إِنْ نُقِلَتْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقُرَّاءِ فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهَا عَنِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى اسْتِجْمَاعِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ لَا عَمَّنْ تُنْسَبُ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمَنْسُوبَةَ إِلَى كُلِّ قَارِئٍ مِنَ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَالشَّاذِّ، غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ لِشُهْرَتِهِمْ وَكَثْرَةِ الصَّحِيحِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهِ فِي قِرَاءَتِهِمْ تَرْكَنُ النَّفْسُ إِلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فَوْقَ مَا يُنْقَلُ عَنْ غَيْرِهِمْ.
(قُلْتُ): وَقَوْلُنَا فِي الضَّابِطِ وَلَوْ بِوَجْهٍ نُرِيدُ بِهِ وَجْهًا مِنْ وُجُوهِ النَّحْوِ، سَوَاءٌ كَانَ أَفْصَحَ أَمْ فَصِيحًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، أَمْ مُخْتَلَفًا فِيهِ اخْتِلَافًا لَا يَضُرُّ مِثْلُهُ إِذَا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ مِمَّا شَاعَ وَذَاعَ وَتَلَقَّاهُ الْأَئِمَّةُ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ، إِذْ هُوَ الْأَصْلُ الْأَعْظَمُ وَالرُّكْنُ الْأَقْوَمُ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِي رُكْنِ مُوَافَقَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَكَمْ مِنْ قِرَاءَةٍ أَنْكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ النَّحْوِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يُعْتَبَرْ إِنْكَارُهُمْ، بَلْ أَجَمَعَ الْأَئِمَّةُ الْمُقْتَدَى بِهِمْ مِنَ السَّلَفِ عَلَى قَبُولِهَا كَإِسْكَانِ (بَارِئْكُمْ) وَ(يَأْمُرْكُمْ) وَنَحْوِهِ، وَ(سَبَأْ) وَ(يَا بُنَيْ)، (وَمَكْرَ السَّيِّئْ) وَ(نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ فِي تَاءَاتِ الْبَزِّيِّ وَإِدْغَامِ أَبِي عَمْرٍو (وَاسْطَّاعُوا) لِحَمْزَةَ وَإِسْكَانِ (نِعْمَّا وَيَهْدِّي)، وَإِشْبَاعِ الْيَاءِ فِي (نَرْتَعِي، وَيَتَّقِي وَيَصْبِرْ) وَ(أَفْئِيدَةٌ مِنَ النَّاسِ)، وَضَمِّ الْمَلَائِكَةُ اسْجُدُوا، وَنَصْبِ (كُنْ فَيَكُونَ)، وَخَفْضِ (وَالْأَرْحَامِ)، وَنَصْبِ (لِيُجْزَى قَوْمًا)، وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْمُضَافَيْنِ فِي الْأَنْعَامِ، وَهَمْزِ (سَأْقَيْهَا)، وَوَصْلِ (وَإِنَّ الْيَاسَ)، وَأَلِفِ (إِنَّ هَذَانِ)، وَتَخْفِيفِ (وَلَا تَتَّبِعَانِ)، وَقِرَاءَةِ (لَيْكَةَ) فِي الشُّعَرَاءِ وَ" ص " وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ) فِي كِتَابِهِ " جَامِعِ الْبَيَانِ " بَعْدَ ذِكْرِ إِسْكَانِ (بَارِئِكُمْ) وَ(يَأْمُرُكُمْ) لِأَبِي عَمْرٍو وَحِكَايَةِ إِنْكَارِ سِيبَوَيْهِ لَهُ فَقَالَ أَعْنِي الدَّانِيَّ: وَالْإِسْكَانُ أَصَحُّ فِي النَّقْلِ وَأَكْثَرُ فِي الْأَدَاءِ وَهُوَ الَّذِي أَخْتَارُهُ وَآخُذُ بِهِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ نُصُوصَ رُوَاتِهِ قَالَ: وَأَئِمَّةُ الْقُرَّاءِ لَا تَعْمَلُ فِي شَيْءٍ مِنْ حُرُوفِ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَفْشَى فِي اللُّغَةِ
1 / 10
وَالْأَقْيَسِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ عَلَى الْأَثْبَتِ فِي الْأَثَرِ وَالْأَصَحِّ فِي النَّقْلِ وَالرِّوَايَةِ إِذَا ثَبَتَ عَنْهُمْ لَمْ يَرُدَّهَا قِيَاسُ عَرَبِيَّةٍ وَلَا فُشُوُّ لُغَةٍ ; لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يَلْزَمُ قَبُولُهَا وَالْمَصِيرُ إِلَيْهَا.
قُلْنَا: وَنَعْنِي بِمُوَافَقَةِ أَحَدِ الْمَصَاحِفِ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ كَقِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) فِي الْبَقَرَةِ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ بِزِيَادَةِ الْبَاءِ فِي الِاسْمَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْمُصْحَفِ الشَّامِيِّ، وَكَقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فِي الْمَوْضِعِ الْأَخِيرِ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ بِزِيَادَةِ (مِنْ)، فَإِنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْمُصْحَفِ الْمَكِّيِّ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ بِحَذْفِ (هُوَ)، وَكَذَا (سَارِعُوا) بِحَذْفِ الْوَاوِ، وَكَذَا (مِنْهُمَا مُنْقَلَبًا) بِالتَّثْنِيَةِ فِي الْكَهْفِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فِي الْقُرْآنِ اخْتَلَفَتِ الْمَصَاحِفُ فِيهَا فَوَرَدَتِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَئِمَّةِ تِلْكَ الْأَمْصَارِ عَلَى مُوَافَقَةِ مُصْحَفِهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ لَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِذَلِكَ شَاذَّةً لِمُخَالَفَتِهَا الرَّسْمَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ، (وَقَوْلُنَا) بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوِ احْتِمَالًا نَعْنِي بِهِ مَا يُوَافِقُ الرَّسْمَ وَلَوْ تَقْدِيرًا، إِذْ مُوَافَقَةُ الرَّسْمِ قَدْ تَكُونُ تَحْقِيقًا وَهُوَ الْمُوَافَقَةُ الصَّرِيحَةُ، وَقَدْ تَكُونُ تَقْدِيرًا وَهُوَ الْمُوَافَقَةُ احْتِمَالًا، فَإِنَّهُ قَدْ خُولِفَ صَرِيحُ الرَّسْمِ فِي مَوَاضِعَ إِجْمَاعًا نَحْوَ: (السَّمَوَاتُ وَالصَّلِحَتُ وَالَّيْلِ وَالصَّلَوَةَ وَالزَّكَوَةَ وَالرِّبَوا)، وَنَحْوَ (لِنَظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (وَجيءَ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَيْثُ كُتِبَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْجِيمِ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ، وَقَدْ تُوَافِقُ بَعْضُ الْقِرَاءَاتِ الرَّسْمَ تَحْقِيقًا، وَيُوَافِقُهُ بَعْضُهَا تَقْدِيرًا، نَحْوَ (مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ) فَإِنَّهُ كُتِبَ بِغَيْرِ أَلْفٍ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ، فَقِرَاءَةُ الْحَذْفِ تَحْتَمِلُهُ تَخْفِيفًا كَمَا كُتِبَ مَلِكِ النَّاسِ، وَقِرَاءَةُ الْأَلِفِ مُحْتَمَلَةٌ تَقْدِيرًا كَمَا كُتِبَ مَالِكَ الْمُلْكِ، فَتَكُونُ الْأَلِفُ حُذِفَتِ اخْتِصَارًا، وَكَذَلِكَ (النَّشَاةُ) حَيْثُ كُتِبَتْ بِالْأَلِفِ وَافَقَتْ قِرَاءَةَ الْمَدِّ تَحْقِيقًا وَوَافَقَتْ قِرَاءَةَ الْقَصْرِ تَقْدِيرًا، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ صُورَةَ الْهَمْزَةِ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ كَمَا كُتِبَ مَوْئِلًا، وَقَدْ تُوَافِقُ اخْتِلَافَاتُ الْقِرَاءَاتِ الرَّسْمَ تَحْقِيقًا نَحْوَ
1 / 11
أَنْصَارُ اللَّهِ، وَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَيَعْمَلُونَ وَهَيْتَ لَكَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ تَجَرُّدُهُ عَنِ النُّقَطِ وَالشَّكْلِ وَحَذْفُهُ وَإِثْبَاتُهُ عَلَى فَضْلٍ عَظِيمٍ لِلصَّحَابَةِ ﵃ فِي عِلْمِ الْهِجَاءِ خَاصَّةً، وَفَهْمٍ ثَاقِبٍ فِي تَحْقِيقِ كُلِّ عِلْمٍ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَعْطَاهُمْ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى سَائِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
(وَلِلَّهِ دَرُّ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ ﵁) حَيْثُ يَقُولُ فِي وَصْفِهِمْ فِي رِسَالَتِهِ الَّتِي رَوَاهَا عَنْهُ الزَّعْفَرَانِيُّ مَا هَذَا نَصُّهُ: وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ ﵎ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَسَبَقَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْفَضْلِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ، فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَهَنَّأَهُمْ بِمَا أَثَابَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِبُلُوغِ أَعْلَى مَنَازِلِ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَدَّوْا إِلَيْنَا سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَشَاهَدُوهُ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، فَعَلِمُوا مَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَامًّا وَخَاصًّا وَعَزْمًا وَإِرْشَادًا وَعَرَفُوا مِنْ سُنَنِهِ مَا عَرَفْنَا وَجَهِلْنَا وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اسْتُدْرِكَ بِهِ عِلْمٌ وَاسْتُنْبِطَ بِهِ، وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَحْمَدُ وَأَوْلَى بِنَا مِنْ رَأْيِنَا عِنْدَ أَنْفُسِنَا.
(قُلْتُ): فَانْظُرْ كَيْفَ كَتَبُوا الصِّرَاطَ وَالْمُصَيْطِرُونَ بِالصَّادِ الْمُبْدَلَةِ مِنَ السِّينِ، وَعَدَلُوا عَنِ السِّينِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ لِتَكُونَ قِرَاءَةُ السِّيِنِ وَإِنْ خَالَفَتِ الرَّسْمَ مِنْ وَجْهٍ قَدْ أَتَتْ عَلَى الْأَصْلِ فَيَعْتَدِلَانِ، وَتَكُونَ قِرَاءَةُ الْإِشْمَامِ مُحْتَمَلَةً، وَلَوْ كُتِبَ ذَلِكَ بِالسِّينِ عَلَى الْأَصْلِ لَفَاتَ ذَلِكَ وَعُدَّتْ قِرَاءَةُ غَيْرِ السِّينِ مُخَالِفَةً لِلرَّسْمِ وَالْأَصْلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْخِلَافُ فِي الْمَشْهُورِ فِي بَسْطَةً الْأَعْرَافِ دُونَ بَسْطَةً الْبَقَرَةِ ; لِكَوْنِ حَرْفِ الْبَقَرَةِ كُتِبَ بِالسِّينِ وَحَرْفِ الْأَعْرَافِ بِالصَّادِ، عَلَى أَنَّ مُخَالِفَ صَرِيحِ الرَّسْمِ فِي حَرْفٍ مُدْغَمٍ أَوْ مُبْدَلٍ أَوْ ثَابِتٍ أَوْ مَحْذُوفٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ مُخَالِفًا إِذَا ثَبَتَتِ الْقِرَاءَةُ بِهِ وَوَرَدَتْ مَشْهُورَةً مُسْتَفَاضَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يَعُدُّوا إِثْبَاتَ يَاءَاتِ الزَّوَائِدِ وَحَذْفَ يَاءِ تَسْئَلْنِي فِي الْكَهْفِ، وَقِرَاءَةَ (وَأَكُونُ مِنَ الصَّالِحِينَ) وَالظَّاءَ مِنْ بِضَنِينٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ الرَّسْمِ الْمَرْدُودِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ
1 / 12