quanta »، وحيثما تنبعث الطاقة أو تستوعب، ينقل كوانتم واحد أو اثنان أو مائة كوانتم، ولكن لا يكون هناك أبدا جزء أو كسر من الكوانتم؛ فالكوانتم هو ذرة الطاقة، ولكن مع ملاحظة أن حجم هذه الذرة، أي كمية وحدة الطاقة، تتوقف على طول موجة الإشعاع الذي ينقل به الكوانتم، فكلما كان طول الموجة أقصر، كان الكوانتم أكبر . وهكذا يبدو كشف بلانك نصرا جديدا للنظرية الذرية. وعندما توسع ألبرت أينشتين في تطبيق نظرية بلانك على الفكرة القائلة إن الضوء يتألف من حزم من الموجات شبيهة بالإبرة، تحمل «كوانتم» واحدا من الطاقة؛ بدا أن فكرة الذرة قد غزت أخيرا نفس ميدان الفيزياء الذي ظل طويلا بمنأى عن المفاهيم الذرية، كما كانت فكرة معادلة المادة والطاقة، التي ظهرت في السنوات الأخيرة بصورة درامية واضحة في انشطار ذرة اليورانيوم، دليلا آخر على أن الإشعاع يمكن أن يندرج تحت النظرية الذرية.
ولقد كان أهم تطبيق للكوانتم هو نظرية الذرة عند نيلز بور
Niels Bohr ؛ ففي هذه النظرية توحد أخيرا اتجاها التطور، أعني اتجاه نظرية الذرة واتجاه نظرية الإشعاع؛ ذلك لأن دراسة الذرة كانت قد أوضحت أن الذرة ذاتها ينبغي أن تعد مجموعة من الجزيئات الأصغر منها، التي تتماسك مع ذلك بقوة تجعل الذرة تسلك، بالنسبة إلى جميع التفاعلات الكيميائية، كوحدة ثابتة نسبيا. ولقد كان أول كشف اتضح فيه أن للذرة تركيبا داخليا هو ذلك الذي قام به العالم الروسي مندلييف
Mendeleieff ، الذي أدرك في أواسط القرن التاسع عشر أنه إذا رتبت ذرات العناصر الكيميائية حسب الوزن، فإن خواصها الكيميائية تتخذ ترتيبا دائريا. وربط العالم الفيزيائي الإنجليزي رذرفورد
E. Rutherford
بين هذه الكشوف الكيميائية وبين كشف الإلكترون، ووضع الأنموذج الكوكبي للذرة، وبمقتضاه تكون الذرة مؤلفة من نواة يدور حولها عدد معين من الإلكترونات، وكأنها كواكب تسير في مداراتها. وفي عام 1913م اكتشف «نيلز بور»، الذي كان في ذلك الحين مساعدا شابا لرذرفورد، أن أنموذج الذرة عند رذرفورد ينبغي أن يربط بفكرة «كم الطاقة» عند بلانك؛ فالإلكترونات لا يمكنها أن تدور إلا في مدارات تقع على مسافات محدودة معينة من المركز، وهذه المسافات محددة بحيث إن الطاقة الميكانيكية التي يمثلها كل مدار إما أن تكون كما واحدا، أو اثنين، أو ثلاثة، وهكذا دواليك. وعلى الرغم مما بدا في هذا الرأي من غرابة في نظر الفيزيائي في مبدأ الأمر، فقد أدى إلى نجاح مذهل في إيضاح الوقائع الملاحظة؛ إذ إن نظرية «بور» أتاحت تفسيرا على أعظم جانب من الدقة لوقائع القياس الطيفي
spectroscopy ؛ أي لسلسلة الخطوط الطيفية التي تميز كل عنصر. وفي السنوات الواقعة بين 1913 و1925م طبقت نظرية بور وتأيدت على نطاق واسع، كما عمقت بحيث تقدم تفسيرا للتركيب الذري لكل عنصر على حدة.
ومع ذلك فقد اتضح أن كشف الكوانتم كان، على الرغم من كل هذا النجاح، نعمة مقيدة بشروط؛ ففي مقابل قدرته التفسيرية بالنسبة إلى علم القياس الطيفي، ظهرت في مجالات أخرى تعقيدات غير قابلة للتفسير؛ ذلك لأن نفس الأسس التي يرتكز عليها مفهوم الكوانتم بدت غير متمشية مع النظرية الكلاسيكية في توليد الموجات الكهربائية، ومع ظاهرة التداخل المعروفة في مجال علم الضوء. وهكذا كانت النظرية الجديدة تهدد اتساق الفيزياء بالخطر؛ فقد كان بعض الظواهر يقتضي تفسيرا جسميا للضوء، وبعضها الآخر يقتضي تفسيرا تموجيا، وبدا أنه لا توجد وسيلة للتوفيق بين النظريتين المتناقضتين.
على أن أغرب ظاهرة في نظر المشاهد الفلسفي هي أن البحث الفيزيائي لم يتوقف نتيجة لهذه المتناقضات، بل عمل الفيزيائي على السير في طريقه، على نحو ما، بهاتين النظريتين المتناقضتين، وتعلم كيف يطبق إحداهما تارة، والأخرى تارة أخرى، وذلك بنجاح مذهل فيما يتعلق بالكشوف المبنية على الملاحظة. وأنا لا أعتقد أن هذه الحقيقة تثبت أن التناقض منقطع الصلة بالنظريات الفيزيائية، وأن النجاح المرتكز على الملاحظة هو وحده الذي يهم، أو أن التناقض، كما يعتقد الهيجليون، كامن في الفكر البشري، وهو القوة الدافعة له، وإنما أعتقد بدلا من ذلك أنها تثبت أن كشف الأفكار الجديدة يخضع لقوانين مغايرة لقوانين التنظيم المنطقي، وأن معرفة نصف الحقيقة يمكن أن تكون مرشدا كافيا للذهن الخلاق في طريقه نحو الحقيقة الكاملة، وأن النظريات المتناقضة لا يمكن أن تكون مفيدة إلا لأن هناك نظرية أفضل تشتمل على كل الوقائع الملاحظة، وتخلو من المتناقضات، وإن لم تكن معروفة في ذلك الوقت؛ ففي الوقت الذي يبحث فيه البشر، تكون الحقيقة في سبات، ولن يوقظها إلا أولئك الذين لا يتوقفون في بحثهم، حتى عندما تعترض طريقهم عقبات التناقض.
ولقد كانت نقطة التحول في تطور نظريات الضوء والمادة هي فكرة تقدم بها العالم الفيزيائي الفرنسي لوي دي بروليي
Неизвестная страница