سهرت الليالي على قمة من القمم المطلة على المرج الوسيع، وفي آخر الليل جاءت الآلة البخارية فحملتني وهرولت بي نزولا إلى أن استقرت في رياق، ومن هناك سارت بي خفافا إلى بعلبك.
وما أنسى لن أنسى ليلة بيضاء كشفت لي عن مخبآت وكنوز بلادي، سرت وسط ذلك المجوف الواقع بين لبنان الشرقي ولبنان الغربي، ذلك المجوف الذي يمتد من قرب جزين جنوبا، ويتصل شمالا بسهول سوريا المخصبة.
كان القمر يتضاءل ليغيب وراء لبنان الغربي، وأوائل الفجر تسرع صعدا فوق لبنان الشرقي مرسلة خيوطا ذهبية، فتراءى لي ذلك السهل الفسيح كوجود لا قرار له يخفي في جوفه كنوز الحياة المستقبلة ودفائن الحياة الماضية ... تراءى لي كجبار فخور يهزأ بالأجيال وما تحمله من الحوادث، ويظل سكوتا صبورا يعطي باليد الواحدة لبنيه خيرات تربته، ويخفي باليد الثانية في طيات تلك التربة الكريمة الكتومة عظام وأطماع الطامعين والفاتحين.
وقفت إلى نافذة القطار وقد عراني خشوع ورعدة، وتغلغل برد الليل في مفاصلي وعظامي، ثم لمعت شهب واندلعت من فوق ذلك الجبل ألسنة لهيب سماوي، وأطلت المحسنة الأزلية لتفرق على الكائنات الحرارة والنور، فقلت في نفسي: هذه هي عليقة موسى تحترق ... ونظرت إلى السهل فإذا بي أرى من بعيد أعمدة هيكل الشمس واقفة كحجة أزلية تنطق بمجد معبودة الأقدمين وعزها القديم.
فتأملت وقد تململت في نفسي آيات العبادة فيما يحيط بي من مظاهر الحب والجمال، وفهمت لماذا أقام الأقدمون في هذه البقعة من الأرض المذابح والمحاريب.
فهمت لماذا اكتسح المصريون سوريا، وداسوا بحوافر خيولهم عروش ملوكها، فهمت لماذا سالت دماء الحيثيين والفرس واليونانيين والرومانيين، فهمت لماذا قذفت رمال الصحراء قبائل الحجاز إلى قلب بلادي، ولماذا دفعت أوروبا جيوش الصليبيين.
ولماذا بصقت لنا جبال الأناضول قبائل الأكراد والتتر.
فهمت لماذا احترقت أوروبا بالحرب العالمية.
ولماذا نجرت عروش الإمبراطورية العربية.
ولماذا غضبت سيدة البحار وغلا قلبها بالطمع، فنفثت من صدرها سموما لفحنا لهيبها وتركت في أجسامنا هذه الكلوم.
Неизвестная страница