وذكر أيضا بونابرت أنه كان يدنو من الجنود ويخطب فيهم قائلا:
إن النيل الآن في آخر انخفاضه، وإنه بعد قليل من الزمن يفيض بالماء الكثير وسيدركون كل ما سمعوا عنه، وبعد أيام قليلة ستكون لدى الجيش الطواحين والأفران لصنع الخبز، وأن هذه الأرض التي يرونها اليوم جرداء، والتي يسيرون فوقها بصعوبة سيرونها عما قليل خضراء زاهية بالمزارع مما يذكرهم بخصوبة وادي النيل، وكانوا كلما استقر بهم المقام في نقطة على النيل خلعوا ملابسهم ونزلوا للاستحمام، ثم يأخذون بعد ذلك في الجدل والسياسة والمناقشة وإظهار الغيظ من تلك الحال فكانوا يقولون: «لأي شيء جئنا إلى هذه البلاد؟» لا شك أن حكومة «الدير كتوار» قد أبعدتنا ونفتنا من بلادنا، وفي بعض الأحيان يلتفتون إلى الجهة التي فيها قائدها «نابوليون»، وكان دائما يعسكر على ضفة النيل، ولا يتناول من الطعام أكثر مما يتناول أحقر جندي، ويظهرون نحوه علائم الانعطاف والشفقة، قائلين: لا شك أن رجال الحكومة أرادوا إبعاد قائدنا والتخلص منه، ولكن كان يلزمه بدلا من أن يقودنا إلى هنا أن يأمرنا ونحن بأقل إشارة منه، كنا نطرد أعداءه من تلك القصور التي يحكمون فيها كما سبق لنا طرد أعداء الجمهورية من مساكنهم.
وكان الجنود كلما رأوا العلماء قد ذهبوا إلى مكان أو جهة من الجهات للوقوف على بعض الآثار في الطريق، خيل لهم أن أولئك العلماء هم الذين حرضوا الحكومة على إرسال هذه الحملة، فكانوا موضع سخطهم، واحتقارهم، وكانوا يلقبونهم «حمير العلماء».
وكان الجنرال كافاريللي رئيس فرقة المهندسين، له رجل مبتورة وضع مكانها رجلا من خشب، يكثر من التنقل بين الجنود لتطمئن خواطرهم، وليذكر لهم محاسن مصر وخيراتها فالتفت إليه أحد الجنود وقال له منكتا متهمكما: أنت تقول كل هذا لتهزأ بنا، وأنت لك رجل في فرنسا، قبل أن تكون لك رجل هنا، قال الراوي فانتقلت هذه النكتة من فرقة إلى فرقة حتى امتلأت بها أفواه الجنود ضحكا وسخرية. ا.ه.
ولقد أطلنا في نقل هذه العبارات من المصادر الفرنساوية لأهميتها من حيث هي من مذكرات ذلك القائد العظيم، ولأنها توصف حالة كان عليها الجيش الفرنسي، بحيث لو أتيح لقوة منظمة، ولو صغيرة، من المماليك أو غيرهم، أن تلتقي بذلك الجيش، وهو على ذلك الحال، وفي تلك البقعة، لكان من الممكن أن تتغير صفحة مهمة من صفحات التاريخ:
وفي التاسع عشر من شهر يوليو «الخميس 5 صفر» وصل الجيش الفرنساوي إلى أم دينار، على بعد خمسة فراسخ من القاهرة، وهنا لاحت له لأول مرة مناظر الأهرامات وبعض المآذن العالية من مساجد القاهرة.
وفي اليوم التالي اصطف الجيش وصدرت له الأوامر بالاستعداد للمحاربة في الواقعة الفاصلة، التي سنفرد لها فصلا خاصا.
هوامش
الفصل السادس
القاهرة قبل الواقعة
Неизвестная страница