3
في تاريخ فرنسا الحديث، قال:
إن نابوليون الذي جمع بين كفاءة القائد العسكري، ودربة الإداري، ومهارة السياسي، أدرك بثاقب فكره الخطة السياسية التي يجب اتباعها في مصر بمجرد وضع قدمه فيها، فكان عليه أن ينظف البلاد من الذين يحكمونها فعلا، وهم المماليك الذين وجبت محاربتهم سواء بالسيف أو بالسياسة، وكان ذلك من حقنا؛ لأنهم طالما أساءوا إلى الفرنسيين، وطالما عاملوهم بالظلم والاستبداد، وأما فيما يختص بالباب العالي فكان من الواجب التظاهر بعدم الرغبة في التعدي على حقوق سيادته، وإظهار احترام تلك الحقوق ورعايتها، وكيفما كانت صفة تلك السيادة فإنها لم تكن ذات تأثير مهم، وفي الإمكان الاتفاق مع الباب العالي إما على أن يتنازل عن مصر بإعطائه تعويضات عنها في مكان آخر، وإما بتوزيع السلطة فيها توزيعا لا يسوءنا؛ لأن سماحنا بإقامة الباشا في القاهرة، كما كان من قبل مقيما، مع تولينا السلطة التي كانت في يد المماليك، هو غاية مطلبنا، أما فيما يختص بالأهالي فكان أول واجب علينا لتأليف قلوبهم معنا هو أن نكسب الأغلبية، وهم المصريون المسلمون، وذلك يكون باحترام المشايخ وتمليق كبريائهم، وتوسيع دائرة نفوذهم، وبالضرب على أوتار قلوبهم الحساسة، بنغمة كالنغمة التي ضربنا عليها في إيطاليا، والتي توجد دائما في كل زمان ومكان، تلك هي نغمة إعادة مجد الوطن القديم، وذكرى الدول العربية الإسلامية، وبذلك نتأكد من التسلط على البلاد وحكمها تماما، وزيادة على ذلك، فإننا باحترامنا للحق في معاملة الناس وممتلكاتهم - عند شعب اعتاد أن يعتقد أن فتح البلاد يعطي للفاتحين الحق في القتل والسلب والنهب - مما يبعث فيهم الدهشة، ويرفع مكانة الجيش الفرنسي في عيونهم، وفوق كل هذا وذاك، فإننا بمحافظتنا على الأعراض، واحترامنا لاسم النبي
صلى الله عليه وسلم ، نستطيع أن نستولي على القلوب، كما استولينا على البلاد.
ويؤيد الاعتقاد بأن نابوليون وضع لنفسه أساس هذه السياسة، الخطاب الذي بعث به إلى إدريس بك قبودان السفن العثمانية في الميناء، وكانت ثلاث سفن فقط، وكبراهن السفينة المسماة «عقاب بحري» وهي سفينة القبودان؛ إذ كتب له في اليوم الأول من وصول العمارة الفرنسية لمياه إسكندرية يقول ما نصه:
إن البكوات أكثروا من سوء معاملتهم لتجارنا، وقد جئت للمطالبة بحقوقنا وسأكون غدا في الإسكندرية، فلا يكون ذلك داعيا لقلقك؛ لأنك تابع صديقنا العظيم، ومولانا سلطان تركيا، ولتكن خطتك تبعا لمقتضيات هذه السياسة، أما إذا بدر منك أقل معاملة عدائية للجيش الفرنسي، فإنني أعاملك معاملة الأعداء وتكون أنت السبب فيه، الأمر الذي هو أبعد الأشياء عن مرادي وفؤادي.
4
وقد روى سرهنك باشا في كتابه «حقائق الأخبار عن دول البحار» رواية أخرى، لم يذكر فيها بالطبع هذا الخطاب، ولكن قال في باب البحرية بمصر في عهد ولاة الدولة العثمانية ما يأتي: «وفي عهد السلطان سليم خان الثالث ازدادت أهمية البحرية العثمانية بما أدخل فيها من الإصلاحات ، وكانت عنايته السلطانية موجهة لزيادة قوة «الدونتمة» فعززها بالسفن الجسيمة التي أمر بتشييدها، كالملايين والفراقيط والشهدية، وغير ذلك وخصص بعضها لحماية الثغور وأرسل بعضها للديار المصرية، فكان في ثغر الإسكندرية منها ثلاث سفن حربية تحت قيادة إدريس بك قبودان السفينة المسماة «عقاب بحري» عندما فاجأ بونابرت الديار المصرية بجيوشه وأساطيله، ولما طلب بونابرت من إدريس بك أن يرفع العلم الفرنساوي بدلا من العثماني، توقف عن إجابة هذا الطلب وطلب الإقلاع عن الميناء فصرح له نابوليون بذلك، فأقلع إلى الآستانة وأخبر بما حصل، وكان أبو بكر باشا والي مصر وقتئذ قد هرب إلى غزة.»
5
وهذه الرواية مضطربة؛ لأن طلب نابوليون لرفع الراية الفرنسية بدل العثمانية لا يتفق مع روح خطابه، ولا يسير مع خطته السياسية التي شرحناها، وها هو نابوليون في منشورة الذي وزعه على أهالي مصر يسمح لهم برفع الرايات العثمانية؛ إذ يقول في المادة الثالثة «كل قرية تطيع العسكر الفرنساوية تنصب أيضا صنجاق السلطان العثماني محبنا دام بقاؤه» ... وقوله: إن أبا بكر باشا، والي مصر وقتئذ هرب إلى غزة إنما هو من باب التساهل أيضا؛ لأن أبا بكر باشا، لم يفر إلى غزة إلا بعد انهزام المماليك في واقعة إمبابة، وخذلانهم في واقعة الصالحية في مديرية الشرقية، على أنه لم يكن ثمت من داع لذكر هذه العبارة الأخيرة؛ لأن القبودان العثماني لم تكن له صلة بوالي مصر، وكانت علاقاته مع الباب العالي مباشرة.
Неизвестная страница