عبد الحق :
أنا السبب ... أجل أنا السبب ... اذهب إذن وادع القاضي ليعقد قرانكما وليبارك الله فيكما وفي أبنائكما ويجعلهم من كبار الأدباء والأساتذة ...
سيدي الحاج
كان ذلك إبان الحرب العالمية الأخيرة، وكنت يومئذ مستقرا في مكة المكرمة، أعاني شوقا مبرحا، وحنينا عارما إلى الوطن والأهل والأصحاب. كانت أخبار الشمال الأفريقي شحيحة جدا؛ الرسائل نادرة، وحركة الحجيج منقطعة تماما عدا وفود صغيرة كانت تأتي على نفقة الحكومة في طائرة خاصة، وكانت هذه الوفود تجمع خليطا عجيبا من مختلف الطبقات والهيئات، تضم الطبيب والمفتي والتاجر والقائد، تجمع العالم والجاهل، الشباب والشيوخ، كما كانت هذه الرحلة المجانية تغري بعض الفضوليين الذي لا يهمهم الإسلام ولا مناسك الحج، وإنما يأتون للسياحة والتفرج على أرض الحجاز ... وكنت أبذل كل الجهود للاتصال بهم، وهم الصلة الوحيدة بيني وبين أرض الوطن، أتنسم من أحاديثهم رائحة البلاد وعبير الأهل والأصحاب، ولذلك كنت أستأنس بهم رغم التباين الكبير بيننا؛ تباين في النشأة والتفكير، في الثقافة والاتجاه، ولكن رابطة الوطن كانت كافية لجمعنا وإزالة الفوارق بيننا ... •••
اتصلت ذات يوم بحاج من هؤلاء الحجيج، وكان الرجل يحتل مكانا مرموقا في الإدارة الحكومية رغم أنه كان أميا لا يحسن العربية ولا الفرنسية، أما الإسلام وقواعده الأولية فلم يسمع بها طيلة حياته رغم سنه المتقدمة، وإن كانت لحيته الكثيفة وهندامه العربي يخدعان الناظر إليه، فيظنه شخصية إسلامية ممتازة من كبار رجالات الدين بالمغرب العربي. •••
زرته يوما في منزله فرغب مني أن أرافقه في جولة قصيرة بأسواق أم القرى، وطلبت منه أن يتوضأ استعدادا لصلاة المغرب حتى إذا ما أدركنا وقتها، أخذنا سبيلنا إلى الحرم دون أن نضطر إلى العودة إلى المنزل، وطلب الحاج إبريقا من الماس وجلس للوضوء، وبدأ يغسل رجليه، وكنت أنظر إليه مشدوها، لم أدر كيف ألاحظ له خطأه، ولكن الخادم الذي كان مكلفا بخدمته، والذي كان متعودا - دون شك - على هذا النوع من الحجيج، ابتدره قائلا: ما هذا الوضوء يا سيدي الحاج؟ أتتوضأ من رجليك؟
وأجابه سيدي الحاج بكل بساطة، وهو مسترسل في غسل بقية أعضائه بالجملة والتفصيل دون ترتيب: ماذا نعمل هكذا علمونا سادتنا!
وسكت الخادم، ولعله ظن أن مذهبه الفقهي يجيز هذا الوضوء الذي يبتدئ من الرجلين ... وسكت أنا أيضا، وانتهى صاحبي من وضوئه وارتدى ملابسه وخرجنا إلى الأسواق ...
كان منظرنا مضحكا: صاحبي بجثته الضخمة وعمامته الكبيرة، وقامته الفارعة الطول، ولباسه الجزائري العتيق، وأنا جنبه بلباسي الحجازي وجسمي النحيل، ولذلك كنا عرضة لتنكيت المارة ورواد السوق، وكنت أتحمل كل ذلك في سبيل النزر اليسير من أخبار البلاد التي كان صاحبي يجود بها علي ... كانت جولتنا حافلة بالمشاكل والمعارك مع مختلف الباعة والتجار؛ لأن صاحبي كان حديد الأعصاب، كلمة ونصفها، ثم يلجأ إلى قاموسه الخاص يخرج منه ما تيسر من الشتائم والسباب. ولم ينقذنا من مشاكلنا سوى أذان المغرب الذي أخذ يدوي في الفضاء، ورجال الأمر بالمعروف يصيحون: الصلاة ... الصلاة ... وهم يسوقون الناس إلى المسجد.
توجهنا لفورنا إلى المسجد، وانحنى علي صاحبي، ونحن في طريقنا، وسألني قائلا: مولانا! وهذه آش حال فيها؟
Неизвестная страница