هو مكرم من الناس يتزوج بعذراء ولا يبتعد أحد عنه، وأنا مطرودة مهانة لا أجسر أن أنظر إلى السماء، ويخال للناس أن لا حق لي أن أمشي على أرضهم.
لا أفهم يا أبي ماهية هذا العدل الذي يرحم القاتل، ويجور على المقتول.
جميل لم يحفظ شيئا من نتائج فعلته، وأنا أحمل ثمرة إفساده لي، ولهذه العلة يقول الناس إن جرمي أشد فظاعة من جرمه، فكأن هذه الدنيا لا تجور إلا على الساقط تحت الظلم. - مهلا يا سلمى إذا كانت عماوة الناس لا ترى الخطيئة إلا على عاتق المظلوم التعيس، فالشريعة السماوية أرفع من أن تحدد الأمور كما يفهمها الإنسان الضال، أنت مذنبة عن ضعف، وجميل مجرم عن قوة، إذا كانت المادة تظهر للنظر أن جميل أعطى وأنت أخذت، فالعقل يرى غير هذا، أنت أعطيت قسرا وجميل أخذ جبرا، أنت مسروقة وهو سارق، ولكن شريعة الفادي لهي مبنية على المغفرة يا ولدي، اغفري يا سلمى؛ فهذه الفضيلة التي تصير الرجل عظيما ترفع المرأة إلى أوج الألوهية، انظري إلى ما فوق يا ولدي؛ فإن الفادي لم يأت الأرض لأجل الأصحاء، بل لأجل المسقومين، أتى ليرسم نقطة واحدة على الفكر البشري وتلك النقطة هي المغفرة والأمل، فلا تتركي الشكوك تتسلط على إيمانك؛ لأن المشترع الكبير قد أتى لأجلك ولأجل إخوانك في الشقاء، وهم يغطون بدموعهم وجه الأرض.
وأحنت سلمى رأسها بتعب كزهرة أضناها الذبول فلم تعد تقدر على احتمال النسيم الرطيب الذي سيحمل إليها الحياة، وبقيت برهة ساكتة ولكن قلبها الجريح لم يلبث حتى دفع الدم إلى جسمها بشدة فرفعت رأسها وقالت: لما كنت على المرفأ أذود خادعي بنظراتي الأخيرة كدت أن أصرخ: هذا قاتلي أوقفوه، ولكن قوة سرية أغلقت فمي، فرأيت أن الناس كلهم ينظرون إلي شذرا، رأيت الشيوخ يرمون علي نظرات الاحتقار، والشبان والكهول يحدجونني بلفتاتهم، فأرى على مرآة عينيهم صورة المشاهد التي يطبعها الفساد على أدمغتهم حين مرآهم فتاة مثلي يمكن التلاعب بحقارتها واغتنام الملاذ من آلامها وهوانها.
رفعت أنظاري إلى ما فوق، فردها اعتقاد الناس بي إلى أسفل، نظرت إلى البحر الحامل مجسم الطمع هاربا من وطنه وذراعي القناعة والحب المفتوحتين له، نظرت إلى هذا الأزرق البعيد الذي يسرق شباننا من بلادهم كما يقتلع حبهم من قلب فتيات لبنان، فأحببت أن أطرح بنفسي إلى اللجة، أردت أن أغرق وأموت حيث مرت سفينة قاتلي، فخفت من الناس الواقفين حولي ولم أذكر خالقي؛ لأنني لم أعد أخافه بعد أن رأيت جميلا لا يخشاه.
في تلك الساعة يا أبي حينما يصبح الإنسان مخيرا بين الحياة والموت، في تلك الدقيقة الهائلة وقف شبح وردة أمامي وقد فتحت ذراعيها العاريتين وهما مطوقتان بالأساور الذهبية التي رنت بأذني كصوت جرس مزرعتنا حين يدوي في الليل لينبي بموت صديق أو قريب ... رأيت وردة تنظر إلي وتتبسم، فأدرت لحاظي عنها إلى وجه البحر العابس المتجعد، وارتعشت معاطفي فبكيت؛ لأنني لم أر غير وردة والبحر، الحياة التي أخاف منها، والموت الذي أحبه بقلبي وأبتعد عنه بقوة لا أعرفها، وكأن نفسي المتراجعة عن موت الحياة وحياة الموت وقفت متزعزعة أمام المجهول، فشعرت بها كأكرة نور تتحول بغتة إلى ظلام منحل، سقطت على الأرض في حين ظهر لي وجهك يا أبي، رأيتك ولم أعرفك؛ لأن السراج الوحيد لا يمكنه أن يبدد ظلام حياة دخلت في الليل ولم تعد تقبل النور.
وكان صوت سلمى يرن ضعيفا في غرفة النزل الضيقة؛ لأنه كان أوهن من أن يموج دقائق الهواء الفاسد المنتشر بين الجدران الواطئة، ولكن أذن الكاهن كانت تسمع ذلك الصوت كأنه قهقهة الرعد ودوي المدفع، فكان يلتفت إلى جهة الباب خشية أن يسمع أحد ذلك الكلام الذي يجب أن يهز الكرة لترتجف له الأرض.
وبعد أن وقف الكاهن متأملا، قال لسلمى وقد وضع يده على كتفها، وقال بكل وقار خادم الله وعفاف الشيخ: لماذا لم تطالبي جميل بحقوقك، والقانون يقضي عليه بالتعويض؟ - أنا لا أعرف القانون يا أبي، ولكنني سألت، فقيل لي إن دون الوصول إلى الإثبات عقبات هائلة يستحيل على الحقيقة اجتيازها، فلا أربح سوى احتقار الناس والفضيحة والشنار، وآخر ما يصل إلي من التعويض عن حياة أصبحت لغوا هو بضعة دنانير يذهب بها العار ليسطع لامعا بدنائته أمام الألفة وقلبي المخدوع، عبثا تخرج الشرائع من مصدر الحق السامي إذا كان البشر لا يفهمون قوة العدل، ماذا يهمني إذا انتصر لي القانون وهو حين يبرز حكما على الجريمة يضحك منها الجاني وتزيد بها جراح المجني عليه؟ ماذا يفيدني حكم العدالة في المحكمة، والمحكمة الكبرى المؤلفة من الشعب كله ظالمة عمياء، لا ترى الجرم إلا على كاهل الضعيف؟
وكان الكاهن يفتكر.
في الشريعة روح سامية تتجلى على المواد لتجعلها حية تدير عنان الأحياء، والناس يقرون بوجود تلك الروح الأزلية التي أنزلها الله على أقلام المشترعين ولكنهم يخالفونها كل يوم ليس بأفعالهم فقط ، بل بمبادئهم أيضا، بكل حركة وكل رأي نرى مخالفة عادات الألفة للشرع، فهي تقر به به إقرارا ظاهريا، ولكنها تعتقد بالأمور كما تشاء، بكل شريعة وضع عقاب للرجل الجاني على العذراء ولم يوضع عقاب على المرأة الجانية على الرجل؛ لأن منذ تشكيل المحاكم البشرية حتى اليوم لم يقم رجل دعوى على امرأة اغتصبته، ذلك لأنه يكون دائما متعديا في حين أن المرأة تكون غالب الأحيان مخدوعة مهانة، ومع ذلك فالناس لا يفهمون، وإذا وجدوا خائنا وخائنة فهم يحولون كل احتقارهم إلى هذه ويجدون أعذارا لذاك!
Неизвестная страница