تلك نهاية علمية لا بد - في رأي «كونت» - أن ينتهي إليها الإنسان نتيجة محتومة لتطوره الفكري؛ ذلك أن الفكر الإنساني لا مندوحة له عن السير في مراحل ثلاث تستطيع أن تراها في تاريخ أي علم شئت . على أنه كلما ازداد العلم من العلوم تعقدا وتركيبا، طال الأمد الذي يحتاجه ليقطع أطواره الثلاثة في مجري تاريخه؛ فكلما أمعن موضوع العلم في التجريد كان أقرب إلى الوصول إلى مرحلة التحديد العلمي، وكلما هبط إلى المواقف ذوات الحوادث المفصلة المعقدة المركبة كان أبطأ في وصوله إلى تلك المرحلة. ولما كان علم الاجتماع - عند «كونت» - هو أدنى العلوم من حيث درجة التجريد، وأقربها إلى مستوى المواقف ذوات التفصيلات الجزئية، فقد آن الأوان أن نبلغ به مرحلة التحديد العلمي، ولو فعلنا لتم للإنسان بناؤه الفكري على الوجه الأكمل.
وأولى مراحل التطور الفكري مرحلة لاهوتية، لا يكون لدى الإنسان عندها من مشاهدات عن الطبيعة إلا عدد قليل، ومن ثم تراه يكمل الصورة لنفسه بخياله؛ فهو لا يجد في هذه المرحلة الأولى بدا من تعليل الظواهر الطبيعية، لا بما تشهده حواسه ويقع له في تجربته، بل بما يسعفه به خياله المتوقد النشيط. وليس أقرب إلى الخيال في مثل هذه المرحلة من أن يفترض لكل شيء ذاتا كذات الإنسان ونفسا كنفسه، فإذا نمت شجرة فهي إنما نمت كما ينمو الإنسان نفسه بدافع ذاتي من باطنه، وهكذا قل في النجوم إذا عبرت السماء، وفي النهر إذا تدفق، وفي المطر إذا نزل؛ هكذا عمر الكون في خيال الإنسان عندئذ بالكائنات الحية ذوات الأرواح والأنفس. ولم يكن في وسع الإنسان بالطبع أن يغير من مجرى الأمر شيئا، وما عليه إزاء الظواهر الطبيعية سوى أن يستسلم لفعلها، فلكل منها ما له هو نفسه من إرادة وتصميم، والغلبة للأقوى. ولا عجب أن تسود الناس عندئذ فكرة السلطة المطلقة في السياسة والحكم، انعكاسا لاعتقادهم إذ ذاك في قوى مطلقة لا راد لها في حكم الطبيعة.
وتأتي بعد المرحلة اللاهوتية في تفسير الطبيعة وظواهرها مرحلة ثانية ميتافيزيقية؛ فها هنا يكون التفسير لا بافتراض كائن روحاني وراء الظاهرة المراد تفسيرها، بل برد الظاهرة إلى مبدأ أو إلى فكرة أولى أو إلى قوة غير مشخصة في ذات؛ وهنا كذلك لا يكتفي الإنسان برد كل ظاهرة على حدة إلى مبدأ خاص بها، بل يحاول أن يضم شتى ظواهر الكون كله تحت مبدأ واحد أو فكرة واحدة. وإذا ما بلغ الفيلسوف الميتافيزيقي مبدأ واحدا يطوي تحته كل ظاهرات الوجود، كان بمثابة اللاهوتي في المرحلة الأولى حين بلغ به السير نقطة الإيمان بإله واحد يعلو على سائر الآلهة والقوى؛ فكلتا المرحلتين - اللاهوتية والميتافيزيقية - تحاولان حل جميع المشكلات بأداة واحدة، والفرق بينهما هو أن الأداة الواحدة في الحالة الأولى أداة مشخصة ذات إرادة، وهي في الحالة الثانية فكرة مجردة، وأن الوسيلة لبلوغ تلك الأداة الواحدة في الحالة الأولى هي الخيال، وهي في الحالة الثانية حجاج منطقي يعلو من النتيجة إلى مقدمتها أو يهبط من المقدمة إلى نتيجتها.
ومن رأي «كونت» أن المرحلة الميتافيزيقية من مراحل الفكر الثلاث إن هي إلا مرحلة انتقال مهمتها أن تفكك أوصال التفكير الروحاني الذي ساد المرحلة الأولى، تمهيدا للمرحلة الوضعية العلمية التي هي نهاية الشوط؛ وذلك لأن استخدام الحجة المنطقية في مرحلة التفكير الميتافيزقي من شأنه أن يكشف عما كان كامنا في الأفكار الدينية من تناقض، ومن شأنه كذلك أن يحل أفكارا ثابتة محل ما قد كان قائما من كائنات كثيرة ذوات إرادة تتصرف إشباعا لنزوة أو هوى؛ فالطبيعة في المرحلة الدينية الأولى كانت خاضعة لقوى لا راد لسلطانها، ولم يكن للإنسان قدرة على تصريف شئون نفسه، أما وقد جاءت المرحلة الثانية، مرحلة التفكير الميتافيزيقي، فماذا تركت للناس بعد أن أزالت عنهم العقيدة في سلطان غيبي نافذ الكلمة فعال الإرادة؟ إن من رأي «كونت» أن المرحلة الميتافيزيقية من تاريخ البشر جاءت لتهدم مصادر قوة دون أن تقيم مقامها شيئا إيجابيا يفعل فعلها؛ ولذلك ساد خلالها الشك وقويت الفردية، وأوشكت أن تتمزق الروابط التي تصل الفرد بجماعته. ولئن كان العقل الإنساني قد شحذ وأرهف في تلك المرحلة، فذلك على حساب الشعور الذي غاض معينه بعد خصوبة وفيض، وانعكست لذلك كله صورة على صفحة السياسة؛ إذ أصبح السلطان في أيدي أفراد الشعب باعتبارهم أفرادا لا ينطوون تحت حاكم يمحوهم في شخصه محوا؛ فإذا كانت المرحلة اللاهوتية الأولى عصر الحاكم الفرد المستبد، فقد كانت المرحلة الميتافيزيقية الثانية عصر الشعب، وأصبحت السيادة مستمدة من تعاقد الأفراد بعضهم مع بعض بعد أن كانت مستمدة من حق إلهي للأباطرة والملوك.
وثالثا وأخيرا جاءت المرحلة «الوضعية» حيث حلت مشاهدات الحواس وتجارب العلماء محل خيال اللاهوتي وحجاج الفيلسوف الميتافيزيقي؛ ها هنا بات حتما على من يتكلم عن الطبيعة جادا أن يصل كلامه بالوقائع المحسوسة، بحيث تكون المطابقة بين العبارة الكلامية من جهة والواقعة المحسوسة التي جاءت العبارة لتتحدث عنها من جهة أخرى، هي علامة الصدق ومعيار الصواب. وها هنا أيضا لم يعد الإنسان يبحث عن «علل أولى» يرد إليها الطبيعة وما فيها، بل يبحث عن «قوانين» تصور الاطراد الملحوظ في الظواهر الطبيعية؛ أي إنه يبحث عن «العلاقات» الكائنة بين الظواهر الملحوظة، والتي تجعل منها مجموعات من حوادث يطرد وقوعها كلما تحققت ظروف معينة. ولا فرق عنده بين أن يكون موضوع البحث أفكار الإنسان ومشاعره، أو قطع المادة من حيث الوزن والصلابة؛ لأنه ينظر إلى كل ما يعرض له نظرة موضوعية تحاول أن ترى على أي نظام يطرد حدوثه.
كان جهد الإنسان الفكري في المرحلتين الأولى والثانية منصرفا إلى الكشف عن مبدأ واحد يضم تحت جناحيه كل ما في الوجود على اختلاف نوع هذا المبدأ الواحد في كل من المرحلتين عنه في المرحلة الأخرى؛ فهو كائن روحاني واحد مطلق في المرحلة اللاهوتية الأولى، وهو مبدأ عقلي واحد مطلق في المرحلة الميتافيزيقية الثانية. أما في المرحلة الوضعية الثالثة والأخيرة، فما دام الاعتماد كله على الحواس وما يقع لها من خبرات، فقد أصبح محالا أن يتطلب الإنسان للكون كله مبدأ واحدا مهما يكن نوعه؛ لأن الخبرة الحسية التي هي مرجعه تقتضي أن يكون مجال البحث دائما محصورا في دائرة الحوادث التي يمكن أن تقع في مجال تلك الخبرة الحسية، ومهما اتسع هذا المجال فهو محدود على كل حال، ولن يسع الكون كله؛ فقصارانا أن نقف عند حدود خبراتنا، وكلما توافرت لنا مجموعة من ملاحظات في نوع معين من الظواهر، أمكننا أن نبني منها علما قائما بذاته، له قوانينه الخاصة، دون أن يكون في مستطاعنا - هكذا يرى أوجيست كونت - أن ندمج قوانين علم في قوانين علم آخر بحيث يكونان معا علما واحدا، فضلا عن أن ندمج قوانين العلوم كلها على اختلافها بحيث ترتد جميعا إلى قانون واحد كما كان الأمل الذي راود الإنسان في مرحلتيه الأوليين. وكل ما يستطيعه الإنسان في توحيد العلوم هو أن يجعل منها وحدة ذاتية؛ بمعنى أن يضم الإنسان معارفه المختلفة بعضها إلى بعض داخل ذاته هو، ولا يكون معنى ذلك أن قوانين الظواهر الطبيعية المختلفة قد اتحدت كلها في شيء واحد موضوعي كائن خارج ذواتنا.
في هذه المرحلة الوضعية الأخيرة من مراحل التفكير الإنساني، اقتربت المعرفة النظرية من تطبيقها العملي اقترابا جعلهما وجهين لحقيقة واحدة، وأصبح علمنا بقانون معين من قوانين الظواهر الطبيعية معناه أن في مستطاعنا أن نتحكم في مصيرنا بالنسبة إلى الظاهرة الطبيعية التي هي موضوع ذلك القانون؛ إننا اليوم نعلم من الطبيعة ما نعلمه لا لنقف عند هذا الحد، بل لنتسلف العلم بما عساه أن يقع في المستقبل. وأمل الإنسان في هذه المرحلة العلمية من حياته الفكرية هو أن يمد من نطاق علمه هذا بحيث يشمل الإنسان فردا ومجتمعا إلى جانب الظواهر الطبيعية الخارجية، وعندئذ يصبح مصيره ومصير الطبيعة في يديه.
تلك هي «وضعية» أوجيست كونت التي مدت أطرافها حتى بلغت إنجلترا، حيث ترعرعت على أيدي «جون ستيوارت مل» و«هربرت سبنسر»، وهي وضعية قوامها - كما رأيت - جوانب ثلاثة؛ فجانبها الأول المميز هو نظرتها التاريخية عند تقديرها لقيمة الفكرة؛ فالفكرة المعينة في العصر اللاهوتي قد تكون صالحة في مرحلتها، لكنها لا تعود صالحة في المرحلتين التاليتين، والفكرة المعينة في العصر الميتافيزيقي لم تكن لتصلح في المرحلة اللاهوتية الأولى ولن تكون صالحة في المرحلة العلمية الثالثة وهكذا. وجانبها الثاني هو حصر المعرفة النافعة في حدود الخبرات التجريبية ، وكل علم لنا اليوم عما يجاوز تلك الحدود قد يكون خطأ أو صوابا، ولكنه على كل حال علم لا يفيد. وجانبها الثالث هو تقريبها بين الفكرة النظرية وتطبيقها العملي؛ فليس علما ما ليس يمكن استخدامه في التحكم في مجرى الطبيعة ومصير الإنسان.
ويسود عصرنا الراهن - منتصف القرن العشرين - فلسفة وضعية جديدة لا تمت إلى وضعية كونت إلا بصلة واحدة، وهي أن كلتيهما ترتكزان على الخبرة الحسية وحدها إذا ما كان المجال مجال حديث عن الطبيعة وما فيها، ثم تفترق الحركتان بعد ذلك افتراقا بعيدا. على الرغم مما يخيل للذين يأخذون الدراسات الفلسفية أخذ المستهتر من أنه ما دامت كلمة «الوضعية» مشتركة فلا بد أن يكون الاتجاه واحدا بكل حذافيره،
5
Неизвестная страница