ولكن في الحياة اليومية الجارية إلى ساحل الأبدية لا تجد الروح أثرا لهذه العناصر التي تلهب الحمية، وتسعر الوجدان، وترسل وقدة النار في المشاعر، بل تجد الإرادة العارية نفسها وجها لوجه أمام تلك الواجبات الصغيرة، التي لا يحمل الإنسان على تأديتها غير ضميرة الحي، وغير إدراكه بمكانه من المجموع، وغير استماعه إلى ذلك الصوت الذي يبلغ سمعه من جوف المجتمع الذي يعيش فيه، ويهيب به. «إنك حر، ولكني أنا التي حبوتك بهذه الحرية التي تنعم بها، بفضل جهادي المستمر الذي ظللت أجاهده عدة الأجيال الماضية، وإن زهوك بنفسك، وبقوتك، ومالك، وذكائك، وعلمك إنما أخذته عني، وعاد إليك مني؛ فقد جعلت منك مخلوقا اجتماعيا قويا، فماذا فعلت لأجلي؟ وماذا رددت إلي؟ أيتها الذرة الصغيرة التي نمت في حقلي، والشجرة التي غابت أصولها في صدري، واستمدت غذاءها من عصارتي ... أية أثمار أخرجت؟ وأي نتاج كان منك؟»
هذا صوت الوطن يعهد إلى كل فرد من بنيه بفريضة من فرائضه، فأين أولئك الذين رفعوا وطنهم هذا مملكة محترمة، سيدة نفسها في العالم؟ وأين أولئك الذين جاهدوا وناضلوا لتكون مصرهم في الصف الأول من صفوف الأمم الحرة؟ فإنني أدور بعيني فلا أرى أحدا.
ولكن كلا، إنهم موجودون، إنهم متحركون، يغدون على أعيننا ويروحون، إنهم أحياء لم يموتوا، ولكنهم يعيشون عيشة الأنانية، وينعمون بحياة المسرة والغرور، ويحملون شبابهم وحميتهم إلى حيث يجدون نعمة أنفسهم، ولذاذة مشاعرهم، ولا يستمعون إلى صوت هذه الأرض المتألمة التي تحملهم فوق صدرها. •••
في هذه النهضة العامة التي جاشت بنفوس هذه الأمة، تبطل كثيرون، وظلوا على سكونهم كأن لم تكن هناك نهضة حولهم، ولا عصفت عاصفة في حيهم، ولا سمعوا أنات إخوة لهم، وما دام في الدنيا حان، وفي الحان شراب، وما دام في الشارع ملهى ومغدى للحيوانية ومراح، فإنهم بالغوها، وناعمون بها، وإن مشوا إليها تحت دوي القذائف، وفي غمرات من الحتوف، وفوق أشلاء من القتلى والجرحى.
بجانب هؤلاء نهض قوم، وجاهد ألوف، وفي بهرة أولئك ظهرت القادة، وتجلت العظماء، حملوا في ضلوعهم روح مصر، وصرخوا صرخة الحق في وجه القوة، وضربوا الخيانة بسوط الحب، وقد تشعبت المسالك، وتناوحت السبل، وفي وسط تلك الجموع كان رجل يعمل في سكون، ويجاهد لأمته في صمت، غير مستعجل القدر، ولا حاشد الطبول حوله، تجمع الناس إليه ليروا ما عمل، ولا متخذ صنائع له يدسون في الجماهير دسيستهم، ويتمدحون فعاله، ويرسلون القصيد تلو القصيد في الثناء على عمله، وإنما يستمد وسائل الجهاد من عصارة ذلك الحب المقدس، ومن روح تلك الوطنية التي تلهم النفوس الإخلاص للأرض التي تغتذي كالزهر من هوائها، وما كان حب الرجل العظيم لوطنه ليبدو للناس إلا في وجوه من الصدق، وثبات الخلق، وفي مظاهر فعالة عملية؛ لأن الرجل العظيم لا يحتمل أن يدخل مادة الشعر في مادة العمل؛ فيجعل وطنيته «ديوانا»، ويغرق وقدة ضميره في «بحور» من الشعر الوطني، بل لا يرضيه إلا أن يعمل ويضع وطنيته القوية كلها فيما يعمل، ثم لا يرضيه بعد أن يعمل إلا أن يتألم ويحس، ومعنى الألم والإحساس في وطنية الرجل العظيم الشعور بويلات وطنه، والآلام التي يعانيها في سبيل قضيته، وهو ذلك الحزن العميق الجياش الذي يأبى إلا أن يجد سبيله إلى تضميد جراح الوطن، وإصلاح وجوه الفساد فيه، ومحاولة الانتصار على كل ما يتهدد بلاده، ويرسل روح اليأس في نفوس عشيرته، ثم هو يأبى أخيرا إلا أن يبذل كل شيء من نفسه لينقذ نفس أمته.
وإن أكبر ما تتجمل به وطنية الرجل الكبير الذهن، احترامه للقوانين، وطاعته للنظام، ولن يكون في العالم حب حتى تكون بجانبه طاعة، وكلما تمادى الحب نمت الطاعة بجانبه، والرضى بسلطانه.
ولكن لا تزال لهذه الطاعة حدود تحد بها، وإلا كانت طاعة عمياء لا تبصر، وطائشة لا تعقل، ومجنونة لا تعي، وإن القوانين أو الشرائع التي لا يكون منها إلا إضعاف الروح الوطنية، وسلب حق من الحقوق، وابتعاث اليأس يمشي في صفوف الجماهير، لا تصيب من وطنية الرجل العظيم إلا السخط، ولا تثير إلا الغضب والألم، وإنه ليقف في رأس الخارجين عليها، ويثب إليها فيهدمها من أصولها، أو ينهزم دونها، وما هو بمستنيم حتى يزيلها من الحياة، ويعفي على آثارها في الأمة. •••
إذا تدبرت كل هذا فإنك ولا ريب تدرك أن صاحب هذه الترجمة هذا الرجل الذي ظل شبيبته كلها يعيش على القانون، ويستن قانونا، ويهدم قانونا، لا يزال عظيما في وطنيته؛ لأنه يحترم القانون ما دام القانون منزويا في حدوده، ثم هو بعد ذلك أشد الناس خروجا عليه، وتمردا على بنوده، إذا تعدى القانون سننه، وتمادت به سلطته، وقد رأينا أقرب مثال لذلك، وأجل حجة يوم شهدنا ما كان منه إذ انبرى تشمبرلين في مجلس النواب، واللورد في قصر الحاكم العام؛ حيث النيل يلتقي أبيضه بأزرقه، فجعلا يحدثان الناس عن السودان، وأنه قطعة من الأرض ستظل متصلة بلندن آخر الدهر، وأن مصر ليس لها إلا المال تأخذ منه ما تشاء، وتعطي منه ما فيه الغناء، فقد خرج المترجم به من هدوئه الطبيعي، واستنفرته تلك التصريحات الكواذب، فلم يلبث أن سعى سعيه، فإذا نحن مصبحون، وقد قررت لجنة الدستور أن السودان كما كان ضمن حدود مصر، وأن هذه البلاد تجري مع النيل حيث جرى.
هذه وطنية جريئة، قوية الأعصاب، تمشي فاتحة صدرها للعالم، لا تخشى إذا أخطأت في عمل من أعمالها أن تعود عنه إلى ما هو أصلح؛ إذا قيل أخطأت وضلت، والجرأة في الوطنية عنصر قوي يشدها، ويحرك نبضها، ويسوقها إلى سبل صالحة، ويغريها بأحداث ما كانت لتعجز عنه لو أنها كانت وطنية خجلة منزوية، لا تستطيع أن تواجه حرارة الشمس؛ ولذا كانت وطنية هذا الرجل العظيم هي التي غيرت نظام الحكم في هذا البلد، وأحالت تاريخ هذه المملكة من صفحات سود في ظل حماية أليمة مخجلة لشعب حر ناهض إلى صفحات بيض تحت ملكية ديموقراطية، وأنفذت في بضعة أشهر ما عجزت كل تلك الضحايا التي سالت دماؤها نجيعا فوق أديم هذه الأرض في جنة الثورة، وسورة النهضة، وما خابت تلك البعوث والوفود والبرد والمفاوضات في تحقيقه في أعوام ثلاثة، مررن طوالا صاخبة مرتفعة الصوت، كثيرة الغيوم، متجهمة الطلعة، وهذه الوطنية التي أملت شروطها على أكبر أمة في العالم، وكتبت رغائبها، وأصرت على مطالبها ، واستمع لها الناس حتى أعداؤها، ووضعت مستقبل هذه الأمة في يدها، فوضع الله عونه في يدها الأخرى، مشت بنا من وهدة كنا لا نجرأ أن نرفع فيها رؤوسنا، أو أن نذكر في العالم اسمنا وجنسيتنا، حتى يقال هذا طفل من أطفال الإنسانية يعيش في أحضان دولة أجنبية ترعاه، وتقوم على حراسته وكفالته، فأصبحنا بفضل ما أسدت إلينا هذه الوطنية الجسور الرابطة الجأش في وجه الزوبعة، الساكنة الأعصاب حيال العاصفة الهوجاء، نمشي في الدنيا أهل كرامة لا بالأذلاء المتطامنين، ولا بالمحكومين، ولا بالمحميين.
ومن أكبر مميزات وطنية العظيم صراحتها، وسعة صدرها، وقبولها كل ما يقال عنها، من نقد أو شر؛ لأنها مؤمنة بنفسها، مطمئنة إلى كل عمل تؤديه، وكل حركة تتحركها، وهي إن لم تنقد أو تعب تسأل الناس نقدا، وتطلب إليهم تعييبا، حتى تستريح إلى نفسها، وحتى تعلم مبلغ أثرها فيما حولها، وكيف عمركم الله لا تكون كذلك، وهي مضطلعة بخطوب كبار، متحملة أعباء ثقالا، وهي في الرأس والطليعة، والناس من ورائها في الساقة والمؤخرة، وقد يرى أحقر جندي في المعركة ما لا يراه القائد، ولا يدركه ضابطه الأعلى، وكم جندي صغير ضئيل المرتبة أجدى على معركة كبرى، وأرشد قائدا خطيرا، ودله على موضع الفوز من الحومة.
Неизвестная страница