المظفّر بن الفضل العلوي
الحمد لله الباهرةِ آياتُه، القاهرةِ سَطواتُه، القديمِ إحسانُه، العظيمِ سلطانُه، السابغةِ مواهبُه، السايغةِ مشاربُه، الواسعِ جودُه، القامعِ وعيدُه، الجزيلِ حباؤُه، الجميلِ بلاؤُه، الجليلِ ثوابُه، الوبيلِ عقابُه، العزيزِ كتابُه، الوجيزِ حسابُه، لا تُحيطُ به المشاهِدُ، ولا يُدرِكُه المُشاهدُ، ولا تحجبُه الحواجز، ولا يوصَفُ بأنه عاجز. أرسلَ محمدًا نبيَّهُ، وصفوَته وصفيَّه، صادِعًا بالحق، وصادِقًا في النطق، وموضِحًا جَدَدَ الطرق وناصحًا لجميع الخَلْق. فقام َ وأعلامُ الهُدى دارسةٌ، ومعالمُ التُقى طامِسة، والجهالةُ جائلة، والضلالةُ شاملة، فصدَعَ بما أُمِر، وصدّ عمّا أُنكِر، وهَدى الى الرّشاد، وهدّ ما أسّس الكُفْرُ وشاد. صلّى الله عليه وعلى آله مصابيح الظُّلَم، ومفاتيح النِّعَم، وشآبيب الحِكَم، وجلابيبِ الكَرَم، وعلى أصحابه المُنْتَجبين، وأحزابِه المُنتَخَبين، صلاةً دائمةً الى يومِ الدين. وبعد: فإني كنتُ بعضَ الأيام بمجلس مولانا صدر صدورِ الأنام، ملِكِ وزراء الشرقِ والغربِ، النافذةِ أوامرُه في البُعدِ والقُربِ، مؤيّد الدين رضيّ أميرِ المؤمنين أبي طالب محمّد بن أحمد أيّدَ اللهُ دولتَه، وأيّد كلمتَهُ، فلقد سجَدَتْ لآدابِه جباهُ المناقبِ وقبّلت أخامِصَ هِمَمِهِ شفاهُ النجومِ الثواقب.
هِمَمٌ مُحلِّقةٌ على هامِ السُّها ... طلبًا لمركزِ عُنْصُرٍ ونِجارِ
ولكلِّ شيءٍ عُنْصُرٌ يأوي الى ... غاياتِ مركزِهِ بغيرِ نِفارِ
فأدبُه يُفرِجُ عن الفَقْر من أسْرِ الأفكارِ، ومواهبُه تسْتَخرجُ الدُّررَ من سُررِ البحارِ، وأسواق الفضائلِ لديه قائمةٌ على سوقها، وأيْنُقُ الفواضل من بين يديهِ تساقُ بوسوقِها، وغَلْوةُ خاطرِهِ لا تصل إليها غاياتُ الطّوق، وإذا قيسَ به سواهُ قيلَ: شبَّ عمروٌ عن الطّوْق، دارُه بأرَجِ الأدبِ دارِين، ومحلُه بحلولِ البركةِ قَمين.
دارٌ تَسيلُ بها سُيولُ فضائلٍ ... وفواضِلٍ لمُسائلِ أو سائلِ
فالعُذْرُ مقبوضٌ بها عن آمِلٍ ... والعِلْمُ مبسوطٌ بها للجاهِلِ
وقد جرى حديثُ الشِّعر وصِفاتِه، وتولُّجِ أبوابه وقَدْحِ صَفاتِه، وما يجوزُ فيه ويمتنعُ منه، وذِكرُ الفضيلةِ التي مُدِحَ بها والرذيلةِ التي ذُمَّ بسببِها، والبحثُ عن منافِعِه ومضاره، ونقائه وأوضاره، وهل تَعاطيهِ أصلحُ، أم تركُهُ أوفرُ وأرجَحُ. فكلٌّ من الحاضرين أتى بأغربِ ما سمعه، وأعجبِ ما ابتدعَهُ، وأطرفِ ما فَهمَهُ، وألطفِ ما علِمَهُ، فكان مع الإعذار فيه أخا تعذيرٍ، وبعد الإسهاب رَذيَّ رُزوحٍ وتَقصير.
فأمرَ مولانا، وأمرُه مُطاعٌ، وخلافُه لا يُستطاع، أن أُثْبِتَ له في ذلكَ أوراقًا، واستمطِرَ من سُحُبِ خواطرِ المتقدمين أرواقًا، ولا أحْوِجَ فيه الى الاسترشادِ بغيرِه، ولا الى الاستضاءةِ بسواه. فبادرتُ الى اتّباعِ مُرادِهِ، وانتجاعِ مَرادِه، " ولو شاءَ لكان زَنْدُهُ إذا استقدحَهُ وَرَى، والصيدُ كلُّ الصيد في جوْفِ الفَرا ".
وقدأجَبْتُ عن ذلك في خمسةِ فصولٍ، عاريةٍ من الهذَرِ والفضولِ، مائلًا الى الاختصار، وقائلًا بالاقتصار. فإن الاستيعابَ لما وردَ فيهِ، وصُنِّفَ في معانيه، يحتاجُ الى تأليفِ كُتُبٍ عدّة، وفراغٍ له في طويلٍ من المدّة، والوقتُ عن ذلك يَضيق، والعلائقُ عنه تصُدُّ وتَعوق.
وأُقسِمُ لوْ شيءٌ أتانا رَسولُهُ ... سواكَ، ولكنْ لم نَجِدْ عنكَ مَدْفَعا
وقد وَسمنا هذا الكتاب بنَضرةِ الإغريضِ في نُصْرةِ القَريض إذ أصَّلناهُ على الانتصار للشعرِ والشُّعراء، ونصّلناهُ لمناضلةِ المُناظرِ والنُّظَراء، ونرجو من الله تعالى أن نوردَ في فصولِه، ونُرْهِفَ من نصوله، ما يَكونُ للغلّةِ ناقِعًا، وللعلّةِ نافعًا، وللحاسرِ من الأدبِ مُقَنِّعًا، وللناظرِ في معانيهِ مُقْنِعًا، وإن كان ذُروةً قد فُرِعَتْ، وعُذْرةً قد افتُرعَتْ، فنحن بعونِ القديمِ ﷻ نجتهدُ أن لا نُقَصِّرَ في ذلك الرهانِ، ولا نُسْتَصْغَرَ عن مواقفِ تلكَ الفُرسان، ومنه ﷾ نستمدُّ التوفيق ونَسْتَدُّ الطريق، وهو حسْبُنا ونعم الوكيل.
الفصل الأول: في وصفِ الشعرِ وأحكامِه، وبيانِ أحوالهِ وأقسامِهِ.
1 / 1