الرسالة السادسة رسالة في نفي التشبيه

Страница 279

إلى أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي داود

بسم الله الرحمن الرحيم

أطال الله بقاءك وحفظك، وأتم نعمته عليك، وكرامته لك.

قد عرفت - أكرمك الله - ما كان الناس فيه من القول بالتشبيه والتعاون عليه والمعاداة فيه، وما كان في ذلك من الإثم الكبير والفرية الفاحشة، وما كان لأهله من الجماعات الكثيرة والقوة الظاهرة، والسلطان المكين، مع تقليد العوام وميل السفلة والطغام.

وليست للخاصة قوة بالعامة، ولا للعيلة قوة على الأراذل؛ فقد قالت الأوائل فيهم، وفي الاستعاذة بالله منهم:

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: نعوذ بالله من قوم إذا اجتمعوا لم يملكوا، وإذا تفرقوا لم يعرفوا.

وقال واصل بن عطاء: " ما اجتمعوا إلا ضروا، ولا تفرقوا إلا نفعوا " فقيل له: قد عرفنا مضرة الاجتماع، فما منفعة الافتراق؟ قال: يرجع الطيان إلى تطيينه، والحائك إلى حياكته، والملاح إلى ملاحته، والصائغ إلى صياغته، وكل إنسان إلى صناعته. وكل ذلك مرفق للمسلمين، ومعونة للمحتاجين.

وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذا نظر إلى الطغام والحشو قال: " قبح الله هذه الوجوه، لا تعرف إلا عند الشر ".

Страница 283

وقال الخريمي عند ذكره إياهم، في شعره، بالتعاوي مع المخلوع:

من البواري تراسها ومن ال

خوص إذا استلأمت مغافرها

لا الرزق تبغي ولا العطاء ولا

يحشرها بالفناء حاشرها

وقال شبيب بن شبيبة: قاربوا هذه السفلة وباعدوها، وكونوا معها وفارقوها، واعلموا أن الغلبة لمن كانت معه، وأن المقهور من صارت عليه.

وقد وصفهم بعض العلماء فقال: يجتمعون من حيث يفترقون، ويفترقون من حيث يجتمعون، لا يفل غربهم إذا صالوا، ولا تنجع فيهم الحيلة إذا هاجموا.

Страница 284

والعوام - أبقاك الله - إذا كانت نشرا فأمرها أيسر، ومدة هيجها أقصر. فإذا كان لها رئيس حاذق ومطاع مدبر، وإمام مقلد، فعند ذلك ينقطع الطمع، ويموت الحق ويقتل المحق. فلولا أن لهم متكلمين، وقصاصا متفقهين، وقوما قد باينوهم في المعرفة بعض المباينة، لم يلحقوا بالخاصة، ولا بأهل المعرفة التامة. ولكنا كما نخالفهم نرجوهم، وكما نشفق منهم نطمع فيهم.

ثم قد علمت ما كنا فيه من إسقاط شهادات الموحدين وإخافة علماء المتكلمين. ولولا الكلام لم يقم لله دين، ولم نبن من الملحدين، ولم يكن بين الباطل والحق فرق، ولا بين النبي والمتنبي فصل، ولا بانت الحجة من الحيلة، والدليل من الشبهة.

ثم لصناعة الكلام مع ذلك فضيلة على كل صناعة، ومزية على كل أدب. ولذلك جعلوا الكلام عيارا على كل نظر، وزماما على كل قياس. وإنما جعلوا له الأمور وخصوه بالفضيلة لحاجة كل عالم إليه، وعدم استغنائه عنه.

Страница 285

فلم يزل - أكرمك الله - كذلك حتى وضع الله من عزهم، ونقص من قوتهم. وليس لأمر الله مرد، ولا لقضائه مدفع. وحتى تحول إلينا رجال من قادتهم ومن أعلامهم، والمطاعين فيهم، وارتاب قوم ونافق آخرون. وحتى تحولت المحنة عليهم، والتقية فيهم. وذلك كله على يد شيخك وشيخنا بعدك - أعزه الله - بما بذل من جهده، وعرض من نفسه، وتفرد بمكروهه، وغرغر مراره، صابرا على جسيمه؛ يرى الكثير في ذلك قليلا، والإغراق تقصيرا، وبذل النفس يسيرا. على حين خار كل بطل، وحاد كل مقدم، وعرد كل رئيس، وأضاف كل مستبصر، وطاح كل نفاج، واستخفى كل مراء. وحتى صاروا هم الذين يشيرون عليه بالملاينة، ويحسنون عنده المقاربة، ويخوفونه العاقبة، ويزعمون أن لكل زمان تدبيرا ومصلحة، وأن إبعادهم أتقر لطبائعهم، وإن إطلاقها أنجع فيما يراد منهم. وحتى سموا المداهنة مداراة، وإعطاء الرضا تقية، والشدة عند الفرصة خرقا، والانحياز مع صواب الإقدام رفقا، وموالاة المخالف مخالفة، والمصافاة معاشرة، والمهانة حلما، والضعف في الدين احتمالا. كما سمى قوم الفرار انحيازا، والبخل اقتصادا، والجائر مستقصيا، والبلاء عارضا، والخطل بلاغة. فكذلك كانوا وكان. وعلى هذا افترق أمرهم؛ وذلك مشهور عنهم.

Страница 286