Навха Закийя
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
Жанры
المطلب الأول في الدولة العباسية
أقامت هذه الدولة في الخلافة الإسلامية مدة 524 سنة (132-656ه) جلس في أثنائها على كرسي الخلافة سبعة وثلاثون خليفة، أولهم أبو العباس الملقب بالسفاح الذي تغلب على بني أمية وأخذ منهم الخلافة، وبظهورها ابتدأ عصر التمدن والعلوم والمعارف والآداب والفنون والصناعة والتجارة عند الأمة العربية؛ فإنه وإن كان عندما ظهرت هذه الدولة ابتدأ تجزؤ مملكة العرب، فاستقلت إسبانيا بنفسها لتباعدها عن كرسي المملكة بدون أن تجد مقاومة من العباسيين، ولم تلبث بلاد المغرب أن قام فيها مستقلا: الدولة الأغلبية بالمغرب الأوسط، ثم الدولة الإدريسية بالمغرب الأقصى؛ اللتان قامت على أثرهما الدولة الفاطمية، إلا أن أوائل عصرها كانت أعظم أزمان العرب في الشرف رونقا ورفعة، وقد ابتدأ مجدها من أيام أبي جعفر المنصور ثاني خلفائها الذي أسس مدينة بغداد على شاطئ الدجلة سنة 145 هجرية، فصارت عاصمة المملكة من عهده، ومنها انتشرت جميع العلوم والمعارف في سائر البلاد الإسلامية، ووصلت هذه الدولة إلى أعلى درجة المجد والشوكة في أيام هارون الرشيد خامس خلفائها وابنه المأمون سابعهم؛ فقد كانا من أعظم رجال العصر همة وذكاء وعدلا وحبا للترقي والتمدن والعلوم ونشر المعارف وحماية الصنائع وكل ما يئول لعمار البلاد.
ومن بعدها لم تبق شوكة المملكة إلا مدة يسيرة ثم وقعت الخلافة في الفوضوية، وابتدأ زمن انحطاطها من عهد المتوكل على الله عاشر خلفاء هذه الدولة؛ فإن المماليك الأتراك الذين كان أدخلهم في الحرس الملوكي المعتصم ثامن خلفائها كانوا قد كثروا في بغداد، وقويت سلطتهم فاستولوا على المملكة، وصار بيدهم الحل والعقد والولاية والعزل، ثم زادت شوكتهم فاستضعفوا الخلفاء وسطوا عليهم، فكان الخليفة في يدهم كالأسير؛ إن شاءوا أبقوه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه، حتى ضعف أمر الخلفاء عند ولاة الأقاليم، فنبذوا طاعتهم واستبدوا بالأحكام فتجزأت المملكة حينئذ ، وظهرت فيها العائلات المستقلة شرقا وغربا؛ فقام في الشرق: الدولة الطاهرية بخراسان، ثم الدولة الصفارية بسجستان وخراسان وطبرستان، ثم الدولة السامانية بخوارزم وما وراء النهر، حتى خرجت جميع آسيا الشرقية من يد الخلفاء. وقام في الغرب: الدولة الطولونية بمصر والشام، حتى عم الاضطراب داخلا وخارجا؛ فكان لا ينقطع من داخل بغداد لوجود الأتراك، ولا من خارجها لكثرة ظهور تلك الإمارات الصغيرة حولها، إما على التعاقب أو في آن واحد، حتى إنه لم تكن أيام الراضي بالله الخليفة العشرين من هذه الدولة إلا وقد أحيطت بغداد من جميع الجهات بإمارات مستقلة؛ فكانت بلاد فارس في يد بني بويه، وأرض الجزيرة وديار بكر في يد بني حمدان، وخراسان وما وراء النهر في يد بني سامان، ومصر والشام في يد الإخشيد، وغير ذلك، ولم يبق في يد الراضي إلا بغداد وما والاها؛ هذا فضلا عن وجود دولتين أخريين يدعيان الحق في الخلافة؛ وهما الدولة المروانية بالأندلس والدولة الفاطمية بالمغرب؛ فكان هاتان الدولتان ينازعانها الإمامة الدينية، والإمارات المذكورة تنازعها السلطة الإدارية التي فقدها الخلفاء كلية حتى في بغداد من عهد الراضي؛ فإنه لخوفه من الأتراك ابتدع وظيفة أمير الأمراء؛ وهي وظيفة وزير أعظم يلقب أمير الأمراء، سلمه الراضي رئاسة الجيوش وإدارة الأموال، حتى صار مطلق التصرف، بيده جميع أمور المملكة، وكان يضاف اسمه إلى اسم الخليفة في الخطبة، فتنازع هذه الوظيفة الأمراء أيضا، فلم تلبث أن وقعت في يد بني بويه، فأقاموا فيها أكثر من مائة سنة، وكانوا هم الحكام في الدولة العباسية حقيقة، ولهم فضل الاستمرار على تنشيط العلوم والمعارف.
وأما الراضي ومن خلفه فتركوا أمور المملكة واقتصروا على قصورهم، فصارت الخلافة إمامة دينية ليس للخلفاء منها إلا الاسم فقط، حتى إنه عندما قامت الدولة الفاطمية بمصر فيما بعد كانت دولة العرب في الشرق تشتمل على ثلاث ممالك مستقلة: الدولة الفاطمية، وهي تدعي الإمامة أيضا، والدولتان البويهية والسامانية، وهما يعترفان بالإمامة للخلفاء العباسيين الذين حفظوا تلك الإمامة الدينية في بغداد إلى مجيء التتار ، وتركوا السلطة الإدارية إلى هاتين الدولتين، ثم إلى الأولى منهما، والدولة الغزنوية التي خلفت الدولة السامانية في آسيا الشرقية، وامتدت من منابع نهر الكنك ونهر السند إلى بحر الخرز ثم إلى الدولة السلجوقية التي خلفتهما وامتدت من حدود الهند إلى بوغاز القسطنطينية ثم تجزأت إلى سلطنات مستقلة، فكان منها سلطنة أيقونية التي صارت تركية آسيا، ونتج عن تجزئها أن حكام الولايات التي كانت تابعة لها المدعوين أتابك؛ أي أمراء استقلوا بولاياتهم، فكان منهم الأتابك عماد الدين زنكي صاحب الموصل أبو نور الدين، فلما قصد بغداد هولاكو أخو مابخوخان ملك التتار والمغول في أيام المستعصم آخر الخلفاء العباسيين ببغداد، وتملك عليها عنوة في صفر سنة 656 هجرية انقرضت الخلافة العباسية من بغداد كلية، وأما بنو العباس فقد انتقلوا إلى مصر واستقروا بها نحو الثلاثة قرون تحت رعاية المماليك، وكان لهم الإمامة وما يتعلق بالأمور الدينية حتى تملك العثمانيون على مصر، فأفضت الخلافة إليهم ولم تزل لسلاطينهم إلى الآن.
المطلب الثاني
في الكلام على تمدن العرب من عهد الدولة العباسية
قد عرفنا ما وصلت إليه دولة العرب من الامتداد والقوة والشوكة في القرن الأول من الهجرة، والآن نتكلم على ما وصلت إليه هذه الأمة من التمدن والمعارف والثروة والرفاهية في القرن الثاني منها، فإن العرب بعد أن فتحوا تلك البلاد الشاسعة، وتحصلوا منها على الأموال الوافرة فترت عندهم تلك الحماسة الأولى فأبطلوا همتهم في الحروب والفتوحات واستعاضوها بمطالعة العلوم ونشر الفنون والصنائع، وصاروا يؤثرون الشغل والتجارة والتمتع بأتعابهم، والسكنى بسلام على الحروب وفتح الممالك، فإن الثروة التي تحصلوا عليها والأموال الوافرة التي صارت بأيديهم عودتهم على الترف ونضارة العيش، فارتاحوا للحياة الرافهة ونعيم الدنيا حتى أسرفوا في التمتع بهما؛ فإن الملكة زبيدة زوجة هارون الرشيد ما كانت تلبس إلا ملابس الحرير، ولا تستعمل إلا أواني الذهب مرصعة بالجواهر النفيسة وأقمشة منسوجة بخيوط من فضة، ويقال: إنه كان يوجد في قصر المأمون من الفرش ثمانية وثلاثون ألف قطعة؛ منها اثنا عشر ألف قطعة وخمسمائة مطرزة بالذهب واثنان وعشرون ألف بساط وسبعة آلاف خصي؛ منهم ثلاثة آلاف من السودان، وغير ذلك من الخدم والمستحفظين، وقد أمر بإقامة شجرة مسمطة من الذهب مرصعة باللؤلؤ على شكل الفاكهة في صالة المقابلة عند مقابلته لسفير الروم.
وهكذا صاروا ينفقون الملايين من الدنانير في بناء المدن اللطيفة والقصور المشيدة والجوامع المزخرفة ويكثرون البذل في عطاياهم وفي حجهم؛ فقد فرق المأمون يوما على خواصه أكثر من أربعمائة ألف دينار، وصرف المهدي في حجة واحدة ستة ملايين دينار. غير أنهم أخذوا ينشطون مع ذلك العلوم والفنون والتجارة، فأول من اعتنى بذلك منهم أبو جعفر المنصور الخليفة الثاني من الدولة العباسية التي بظهورها انقضى عصر الفتوحات، وابتدأ عصر التمدن عند الأمة العربية، ثم حرص على دوام هذه الحركة العلمية خلفاؤه من بعده، حتى إنه لما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم عبد الله المأمون أعظم الخلفاء في المعارف وعلو الفكرة اعتبر المعارف أنها أعظم شيء في سلام الأمة وسعادتها، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، وأكثر من فتوح المدارس وتأسيس الكتبخانات، وجعلها عمومية لكل أحد، وجمع العلماء من يونان وفرس وقبط وكلدان، واستحضر الكتب من سائر البلدان، حتى صارت بغداد مقر المعارف ومركز العلوم، فكان يدخل إليها كل يوم مئات من الجمال محملة بالكتب من جميع الأقطار، وكانوا يترجمون أحسنها إلى اللغة العربية، فترجموا جملة مؤلفات يونانية في الفلسفة والفلك والرياضيات، حتى تقدمت عندهم تلك العلوم واكتشفوا فيها اكتشافات مهمة، وبنوا الرصدخانات، ووضعوها فيها الآلات العظيمة المدهشة للعقول، وقد اجتهدوا كثيرا في تقدم علم الطب، فأسسوا الإسبتاليات، وصاروا يمتحنون الأطباء قبل التصريح لهم بالعلاج، وأسسوا معامل للأجزخانات، واكتشفوا كثيرا من النباتات الطبية، وابتدءوا علم الكيمياء، وقد اهتموا أيضا بالعمارة وفن الموسيقى، وكانوا يشرفون الزراعة.
وأما الصناعة فقد تقدمت عندهم تقدما عظيما؛ خصوصا صناعة الآلات الميكانيكية، كما يعلم ذلك من الساعة التي أرسلها هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا، وقد استخرجوا كثيرا من المعادن والأحجار، فاستخرجوا معادن الحديد من خراسان ومعادن الرصاص من كرمان وغير ذلك، واشتهرت عندهم صناعة الأقمشة اللطيفة بالموصل وحلب ودمشق من مدن العراق والشام، وأما صناعة النقش والتصوير، فلم تتقدم عندهم كثيرا لآباء الشريعة لها. غير أنهم أكثروا من وجود الآثارات اللطيفة في المدن الشهيرة مثل بغداد والبصرة والموصل والرقة وسمرقند، حتى فاقوا جميع الأمم المعاصرة لهم في العلوم والفنون والصنائع، فأخذوا في أسباب التجارة، وسعوا في إحداث محطات تجارية في ممالكهم، فكان ذلك سببا لانتشارهم فيما بعد في آسيا وأفريقيا وتقدم قوافلهم شمالا إلى بلاد التتار والمغول على حدود سيبرية وشرقا إلى بلاد الصين وجزائر السوندبالا وقيانوسية، وجنوبا إلى بلاد السودان والزنجبار وموزنبيق ومداغشقر.
المطلب الثالث
Неизвестная страница