جسدان خلفتهما قوانين حياة لا تقهر، قوانين أكثر تعقيدا وهولا من كل نزعات الإنسانية للتخلص منها، قوانين غريبة سارية تحيل الفراغ بينهما، إن كان قد بقي فراغ، إلى جحيم من الانفعالات المكبوتة، والقاهرة المنطلقة، والمناطق المحرمة التي شيئا فشيئا تستباح، وهي مستميتة تتشبث بخط دفاعها الأخير كأم لأولاد مقربين ناجحين متعلمين، تستحضرهم بكل ما لديها من يأس لتمنع بهم المشهد القائم، أو توقف التحرك إلى المشهد الفاجع التالي؛ لينقذوها على الأقل من كهارب وتيارات وأحاسيس تشل إرادتها شيئا فشيئا، وتعمق لديها إحساس الأم؛ ليوقفوا الحفر الدائب داخله وداخل قدرتها على العطاء، حتى لا تبلغ هذه القدرة على العطاء والمنح أقصى مداها، بحيث - أعوذ بالله، أعوذ بالله - تنقلب بفعل أي دفعة أخرى بسيطة إلى رغبة في الأخذ والاستقبال، وتمضي قدما في خط الأمومة لتصل إلى أقصاها حيث الأنثى، ومن رغبة الشاب إلى رغبة ملحة في الحصول على صفاته وملامحه، وعليه كله مصغرا، وفي حجم بويضتها المتربصة المنتظرة.
بينما تبلغ به رغبته فيها كأم إلى حد لم يعد يحتمله إلى حد يصبح كل أمله ومناه أن تكون أمه وحده، بحيث تنغلق عليه دون سواه من البشر أو الإخوة أو الزواج والأبناء، تبلغ به الرغبة حدا يجعله يحتاج إليها كأم إلى الدرجة التي لا يعود يكتفي فيها بمعالم الأمومة الظاهرة، إنما يبحث وإلى آخر رمق، حتى يصل ويستولي على كنه الأمومة فيها، على الأنثى فيها؛ فالأم دائما أكبر من أي ابن، ولكن الأنثى لا ينالها إلا رجل واحد، وتكون له وحده.
ومهما كانت الردود وفعل الردود، والإقدام مرة والخجل مرة، بحضور تاريخ طويل من النواهي والأوامر مرة، واختفائه خلف قوانين الحياة العظمى مرة أخرى، به حين يبدأ يتصرف كشاب فتنهره كأم، وبها حين تضمه مؤملة أن تسكته بأمومتها فتتحول الأمومة بفعل النار الموقدة إلى أنوثة، بالأربعة معا الابن والأنثى والأم والشاب في صراع لا رحمة فيه بين بعضهم البعض، وبينهم وبين أشباح الآخرين الحاضرة، وأشباح غابت ومقدسات لها مفعول الأزل، بهذا كله ترتفع الحرارة حتى يتشعب اللهب، وعلى لهيبها تحترق أشياء كانت لا تقبل الاحتراق، وتذوب النواهي، ويذوب كل ما كان، وكل ما سيكون، ولا يبقى سوى المرأة المحتمية بالأم فيها، والابن التائه يبحث عن أنثاه المختفية داخل المرأة الأم.
ولو الأمر أمر الأجساد وتلقائيتها لانعكس التيار الصادر عنها يعطيه الأنوثة أمومة، إلى تيار يستقبل العطاء ويحيل البنوة ذكورة.
ولكن الإنسان ليس جسدا فقط، إنه ليمتلك في جسده عضوا غريبا ساحر المفعول اسمه العقل، ودون إشراكه وموافقته فلن يصدر عن الجسد فعل أي فعل، أو يتحرك مستقلا قيد أنملة.
وباستماتة، وكأنما استجابة لدعائها الحار بالأولاد وقد استجمعتهم كالجيش «العرموم» حولها يتواثب منه أحفادها، ويستنكرون مسلك الجدة، بينما آباؤهم يتطلعون بعيون زوجاتهم إليها، حيث استحضرت المرحوم هو الآخر وسنوات الكفاح والرفض المستميت للزواج من بعده، حين حشدت التاريخ الماضي كله ليمنع لحظة فاصلة، حدثت المعجزة، واستعادت الأم والأرملة العذراء سيطرتها، وانتابتها من هول ما هي فيه رعدة وأفلتته.
ولكن ربما لقصر في تاريخه، ربما بحكم السن، لم يستطع هو أن يعود للحاضر أو يخفي عنها أو عن نفسه رجولته ولا رغبة الرجل في الأنثى، أي أنثى التي أصبحت تعميه. كان قد وصل بشعوره إلى نقطة لا عودة فيها، بنفس استحالة أن تحدث أصبح المستحيل تماما أن يعود.
المربع الثالث
المربعات التي تآكلت سطوحها، فبرزت حوافها الملتصقة، مربعات الدبش الأبيض الكبير التي تكون أرض الحجرة والشقة، المربعات التي لا يفلح «الكليم» الرقيق الرخيص في تغطية حواف الدبش وعلاماته، المربعات والكنبة الكبيرة العالية ، والمنضدة المعدنية ذات الأرجل الثلاث، ونافذة الحجرة الحافلة بغسيله المنشور، كان الشهود ليسوا شهودا على شاب في الثامنة عشرة قد جاءت معه بقدمها - ولو ملتوية - امرأة إلى حيث يقطن، حتى وإن كانت قد بلغت الخمسين، لا ولا بين طرف رافض وطرف يرغب، ربما الأدق أنها كانت معركة بين كل منهما ونفسه، معركة مبهمة غير واضحة، فثمة سحب كثيرة من خجل ذي درجات تلفها وتشمل المكان كله، درجات تبدأ بالخجل البسيط، خجل الأم أن يكتشف ابنها أنها أنثى، وخجل الابن أن تكتشف أمه أنه رجل، فجأة يثور فيه الشاب فيحتوي الرقبة، ويقبلها قبلات شابة محمومة.
وبحسم تهمس: عيب أنا زي أمك، أنا، ولادي أكبر منك، أنا جدة والله.
Неизвестная страница