بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. ربِّي يسّر يَا كريم.
قَالَ سيدنَا ومولانا الْفَقِيه الإِمَام الْعَالم الْوَرع الْفَاضِل، أوحد الْفُضَلَاء علما وحلمًا، أكمل الفصحاء نثرًا ونظمًا، مظهر مَعَاني الْعُلُوم استنباطًا وفهمًا، والمحتوى على عُمْدَة أُصُولهَا وفروعها حفظا وَحكما، الْفَقِيه الأجلّ نَاصِر الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الشَّيْخ الْأَجَل، الْأمين المرتضى المكين الْعدْل، وجيه الدّين أبي الْمَعَالِي مُحَمَّد بن الشَّيْخ الأجلّ السعيد السَّيِّد أبي عَليّ مَنْصُور خطيب الْإسْكَنْدَريَّة - أحسن الله جزاءه آمين -:
الْحَمد لله الْكَبِير قبل التَّكْبِير، الْخَبِير بِمَا فِي الضَّمِير، الْمُحِيط بِمَعْنى عبارَة الْمعبر ومغزى إِشَارَة المشير. الَّذِي ﴿لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير﴾ [الشورى: ١١] . أَحْمَده وَهُوَ بِالْحَمْد جدير، وأشكره ونعمه فَوق شكري بِكَثِير. وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَلَا شَبيه وَلَا نَظِير، لَهُ الْملك وَالَّذين تدعون من دونه لَا يملكُونَ من قطمير، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله البشير النذير السراج الْمُنِير ... خير ظهير. وَنَصره فَنعم الْمولى وَنعم النصير.
1 / 33
صلى ... اذْهَبْ عَنْهُم الرجس وطهرهم أفضل التَّطْهِير. وعَلى ... صَلَاة تصلنا بجواره وحبذا الْجوَار للمستجير.
أما بعد: فَالسنة هِيَ الْجنَّة الحصينة لمن تدرعها، والشرعة المنيعة لمن تشرعها، وردهَا صَاف وظلها ضاف، وبيانها واف وبرهانها شاف، وَهِي الكافلة بالاستقامة والكافية فِي السَّلامَة، وَالسّلم إِلَى دَرَجَات دَار المقامة، والوسيلة إِلَى الموافاة بصنوف الْكَرَامَة، قدوة المتنسك وَعُرْوَة المتمسك، وبحر الْبَحْث وَعلم الْعلم، ومعدن الْجَوَاهِر السّنيَّة ومنبع الْآدَاب الدُّنْيَوِيَّة، حافظها مَحْفُوظ وملاحظها ملحوظ، والمقتدى بهَا على صِرَاط مُسْتَقِيم، والمهتدى بمعالمها صائر إِلَى مَحل النَّعيم الْمُقِيم، أهل الله لخدمتها خَواص خلقه، وَسَهل عَلَيْهِم فِي طلبَهَا متوعر طرقه فَمنهمْ من حملهَا وَاقْتصر، وَمِنْهُم من هز أفنانها فاجتنى الثَّمر لما هصر.
فَمن ثمَّ كَانَ من الْحُقُوق الْوَاجِبَة نشرها على النَّاس قاطبة يحملهَا الْآخِذ إِلَى الْغَالِب، ويبلغها الشَّاهِد إِلَى الْغَائِب. وَقَالَ رَسُول [ﷺ]: نضر الله امْرَءًا سمع مَقَالَتي فوعاها، ثمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمعهَا فَرب مبلغ أوعى من سامع. فوظيفة الْحَامِل الْجَاهِل فِي هَذِه الْأَمَانَة أَن يُؤَدِّيهَا إِلَى أَهلهَا بِالْوَفَاءِ وَالتَّسْلِيم، ووظيفة الْحَامِل الحاذق أَيْضا أَن يُؤَدِّيهَا إِلَى من عساه أحذق مِنْهُ فِي الْفَهم والتفهيم، وليحذر أَن يحجب عَن الْمَزِيد باعتقاد أَنه ذَلِك الْعَظِيم. ففوق كل ذِي علم عليم،
1 / 34
وَمهما ظن أَنه لَيْسَ وَرَاء قدره مرمى، فقد حرم بركَة قَوْله ﷿ ﴿وَقل رب زِدْنِي علما﴾ [طه: ١١٤] . وَقد كَانَ الْعلمَاء الربانيون من هَذِه الْأمة على مَا وهبوه من الْقُوَّة فِي غَايَة الخزع والهلع، يتدرعون الْعَجز الَّذِي يأباه الْيَوْم لكع بن لكع، حَتَّى كَانَ مَالك ﵀ وَهُوَ الَّذِي لَا يقرى أحد كَمَا يقرى أَهْون مَا عَلَيْهِ أَن يَقُول فِيمَا لَا يدْرِي أَنه لَا يدْرِي، وَيُشِير بهَا إِلَى الأفاضل والأمائل، وَيَقُول: جنَّة الْعَالم لَا أَدْرِي فَإِذا أخطأها أُصِيبَت مِنْهُ الْمقَاتل.
وعزم أَمِير الْمُؤمنِينَ على أَن يحمل النَّاس فِي سَائِر المماليك على الإقتداء بموطأ مَالك ﵁ وإطراح مَا عداهُ، وَأَن لَا يتجاوزه أحد، وَلَا يتعداه، فَمَنعه مَالك من ذَلِك، وَيخرج من أَن يكون فِي قواصي البسيطة من السّنَن المنقولة والعلوم المحفوظة نَوَادِر مَا أحَاط بهَا وَمن أَيْن للبشر قُوَّة مُحِيطَة. وَذَلِكَ أَن الصَّحَابَة ﵃ نشرُوا الْحق فِي الْبِلَاد، ونصحوا فِي النّظر للعباد، وَقد بَث الله فَضله حَيْثُ شَاءَ، وَلَعَلَّ فِي اللحوق مَا يفوق الْإِنْشَاء، وَقد يفهم الْفَرْع مَا خَفِي عَن الأَصْل، وَكَيف لأحد أَن يحْجر وَاسِعًا من الْفضل،
وَبِهَذَا يتنزل قَوْله ﵇: " رب مبلغ أوعى من سامع " على نصابه، وَيفهم على مَا هُوَ عَلَيْهِ والمتواضع هُوَ الَّذِي يَأْتِي الْبَيْت من بَابه. والعلوم وَاسِعَة وَمَا أُوتِيَ الْخلق مِنْهَا إِلَّا قَلِيلا. وَأُولَئِكَ أَيْضا الأقلون، والزيادات المتواقعة رَحْمَة وَمن يقنط من رَحْمَة ربه إِلَّا الضالون، وَمُقْتَضى الدَّلِيل أَن بَاب الزِّيَادَة مَفْتُوح إِلَى عصرنا هَذَا الَّذِي ساءت بِهِ الظنون، وَقعد الْمُحَقق فِيهِ فِي حيّز المغبون، فَإِن الشَّرِيعَة مَضْمُونَة الْحِفْظ مَأْمُونَة الإضاعة، متكفلة فِي ذمَّة الله إِلَى قيام السَّاعَة. فَيلْزم من ذَلِك أَن يؤهل الله لَهَا فِي كل عصر قومة بأمرها وخزنة لسرها،
1 / 35
يستنيرون جواهرها ويستبينون بواطنها وظواهرها، ويعالجون إرواء كل فصل بِمَا يَلِيق بالحكمة المضبوطة فِي ذَلِك الْفَصْل، ويتنزلون الْأَحْكَام على الْمصَالح السوانح الْمُخْتَلفَة الْفُرُوع المتفقة الأَصْل.
وَإِلَى هَذِه النُّكْتَة أَشَارَ مَالك ﵀ فِي متقادم العصور بقوله: " تحدث للنَّاس فَتَاوَى بِقدر مَا أَحْدَثُوا من الْفُجُور ". وَفضل الله وَاسع فَمن زعم أَنه مَحْصُور فِي بعض العصور فقد حجر وَاسِعًا، ورضى بالهوينا، وَمَا أَفْلح من أصبح بهَا قانعًا، وَرُبمَا عقب النجيب والليالي كَمَا علمت حبالى مقربات يلدن كل عَجِيب.
وَالْمَقْصُود بِهَذِهِ الْمُقدمَة أَن الإِمَام أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ لما أودع كِتَابه من الْفِقْه الَّذِي اشْتَمَلت عَلَيْهِ التراجم مَا أودع، ورصع فِي عُقُود تِلْكَ الْأَبْوَاب من جَوَاهِر الْمعَانِي وَألْحق اللّبَاب مَا رصّع، ظَهرت من تِلْكَ الْمَقَاصِد فَوَائِد، وخفيت فَوَائِد، واضطربت الأفهام فِيمَا خفى، فَمن محوم وشارد.
فَقَائِل يَقُول: اخترم وَلم يهذب الْكتاب، وَلم يرتب الْأَبْوَاب.
وَقَائِل يَقُول: جَاءَ الْخلَل من النساخ وتجزيفهم والنقلة وتحريفهم.
وَقَائِل يَقُول: أبعد المنتجع فِي الِاسْتِدْلَال، فأوهم ذَلِك أَن فِي الْمُطَابقَة نوعا من الِاعْتِدَال.
وَبَلغنِي عَن الإِمَام أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ أَنه كَانَ يَقُول: " يسلم للبخارى فِي علم الحَدِيث، وَلَا يسلم لَهُ فِي علم الْفِقْه " ويعلل ذَلِك بِأَن أدلته عَن تراجمه متقاطعة، وَيحمل الْأَمر على أَن ذَلِك لقُصُور فِي فكرته وَتجَاوز عَن حد فطرته،
1 / 36
وَرُبمَا يَجدونَ التَّرْجَمَة وَمَعَهَا حَدِيث يتَكَلَّف فِي مطابقته لَهَا جدا، ويجدون حَدِيثا فِي غَيرهَا هُوَ بالمطابقة أولى وأجدى. فيحملون الْأَمر على أَنه كَانَ يضع التَّرْجَمَة ويفكر فِي حَدِيث يطابقها، فَلَا يعن لَهُ ذكر الْجَلِيّ فيعدل إِلَى الْخَفي، إِلَى غير ذَلِك من التقادير الَّتِي فرضوها فِي التراجم الَّتِي انتقدوها فاعترضوها.
ويقابل هَذِه الْأَقَاوِيل مَا أثرته عَن جدي ﵀ سمعته يَقُول: كِتَابَانِ فقههما فِي تراجمهما: كتاب البُخَارِيّ فِي الحَدِيث، وَكتاب سِيبَوَيْهٍ فِي النَّحْو.
فَلَمَّا قدّر لي أَن أتصفّحها وأتلمّحها، لَاحَ لي عَن قرب وكثب مغزاه فِيهَا، فألفيتها أنواعًا:
مِنْهَا مَا يتَنَاوَلهُ الحَدِيث بنصه أَو ظَاهره وَهَذِه هِيَ الجلية. وَمِنْهَا مَا يتَنَاوَلهُ أَي يصدق عَلَيْهِ بِإِطْلَاقِهِ وَالْأَصْل نفي الْقُيُود. وَمِنْهَا مَا يكون ثُبُوت الحكم فِيهِ بطرِيق الأولى بِالنِّسْبَةِ إِلَى المنصوصة. وَمِنْهَا مَا يكون حكم التَّرْجَمَة فِيهِ مقيسًا على حكم الحَدِيث قِيَاسا مُسَاوِيا. وَقد يعن لَهُ نَص التَّرْجَمَة فيعدل عَنهُ اكْتِفَاء بظهوره، ويعمد إِلَى حَدِيث آخر تتلقى مِنْهُ التَّرْجَمَة بطرِيق خَفِي لطيف فيذكره. وَمِنْهَا مَا لَا ذكر لَهُ فِي الحَدِيث الَّذِي أثْبته، لَكِن يكون الحَدِيث ذَا طرق أثْبته من بَعْضهَا لموافقة شَرط الْكتاب، وَلم يُثبتهُ من الطَّرِيق الْمُوَافقَة للتَّرْجَمَة لخلل شَرطهَا، فَيَأْتِي بِالزِّيَادَةِ الَّتِي لم توَافق شَرطه فِي التَّرْجَمَة، وَرُبمَا أَتَى بهَا فِي صِيغَة التَّعْلِيل كَحَدِيث وَقع لَهُ فِي " اللّقطَة ". وَقد بيّنه فِي بعض التراجم على مَوَاضِع الْخلاف. وَقد يترجم على صُورَة ويورد فِيهَا الْأَحَادِيث المتعارضة، ثمَّ قد بَينه على الْجمع إِن سنح لَهُ، وَقد يَكْتَفِي بِصُورَة الْمُعَارضَة تَنْبِيها على أَن الْمَسْأَلَة اجتهادية.
1 / 37
وَمِمَّا يستغربونه من تراجمه أَن يضمن التَّرْجَمَة مَا لم تجر الْعَادة بِذكرِهِ فِي كتب الْفِقْه، كترجمته على أكل الْجمار، فيظن أَن هَذَا لَا يحْتَاج إِلَى إثْبَاته بِدَلِيل خَاص، لِأَنَّهُ على أصل الْإِبَاحَة كَغَيْرِهِ، لَكِن لحظ هُوَ فِيهِ أَنه رُبمَا يتخيل أَن تجمير النّخل إِفْسَاد وتضييع لِلْمَالِ، فنبه على بطلَان هَذَا الْوَهم إِن سبق إِلَيْهِ أحد.
قلت: - رَضِي الله عَنْك! - وَقد سبق الْوَهم إِلَى بعض المعاصرين فانتقد على من جمّر نَخْلَة وَاحِدَة بعد أُخْرَى ليقتات بالجمار تحرجًا وتورعًا مِمَّا فِي أَيدي النَّاس لما عدم قوته الْمُعْتَاد فِي بعض الأحيان. وَزعم هَذَا الْمُعْتَرض إِن هَذَا إِفْسَاد خَاص لِلْمَالِ وَفَسَاد عَام فِي المَال. وَرُبمَا يلْحقهُ بنهي مَالك ﵀ عَن بيع التَّمْر قبل زهوه على الْقطع إِذا كثر ذَلِك، لِأَن فِيهِ تسببًا إِلَى تقليل الأقوات. فَمَا وقفت على تَرْجَمَة البخارى ظَهرت لي كرامته بعد ثَلَاث مائَة سنة ونيف ﵀.
وَله أَمْثَال هَذِه التَّرْجَمَة كَثِيرَة ومجموع مَا وجدت لَهُ من هَذِه الْأَنْوَاع قريب أَربع مائَة تَرْجَمَة تحْتَاج التَّنْبِيه، فأثبتّها ونبهت على كل نوع مِنْهَا فِي مَكَانَهُ بأقصى الْإِمْكَان، وأخصر وُجُوه الْبَيَان. وَكَأَنَّهُ ﵀ تحرج أَن يصنف فِي الْفِقْه على نعت التصانيف المشحونة بالوقائع الَّتِي عَسى كثير مِنْهَا لم يَقع، فَيدْخل فِي حيّز الْمُتَكَلف الَّذِي هدّد بِأَنَّهُ لَا يعان على الصَّوَاب، وَلَا يفتح لَهُ بَاب الْحق فِي الْجَواب. كَمَا نقل عَن مَالك ﵀ أَنه كَانَ يكره أَن يُجيب عَن مَسْأَلَة لم تقع ويعتقد أَن الضَّرُورَة إِلَى الْجَواب خَلِيقَة بِأَن يرحم صَاحبهَا بالعثور على
1 / 38
الصَّوَاب، وَأَن تكلّف الْجَواب عَمَّا لم يَقع تصنع أَو فِي مَعْنَاهُ، يتحرج الْخَائِف من الله من أدناه. ودعوة الْمُضْطَر لَهَا خُصُوصِيَّة بالإجابة، وَحَالَة الِاخْتِيَار تستغرب مَعهَا أَوْصَاف الْإِنَابَة.
فَهَذَا - وَالله أعلم - سر كَون البخارى ﵀ سَاق الْفِقْه فِي التراجم سِيَاقَة المخلص للسنن الْمَحْضَة عَن المزاحم المستثير لفوائد الْأَحَادِيث من مكامنها، المستبين من إشارات ظواهرها مغازي بواطنها. فَجمع كِتَابه العلمين والخيرين الجمين. فحاز كِتَابه من السّنة جلالتها وَمن الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة سلالتها. وَهَذَا عوض ساعده عَلَيْهِ التَّوْفِيق، وَمذهب فِي التَّحْقِيق دَقِيق.
[تَرْجَمَة الإِمَام البُخَارِيّ]
وسأذكر من مناقبه الدَّالَّة على علو مقَامه مَا يُوجب التَّقْدِيم لكَلَامه، والاعتقاد فِي كَمَاله وَتَمَامه. ونستتبع ذَلِك ذكر نسبه ومولده ورحلته ووفاته مِمَّا اشْتَمَل عَلَيْهِ تَارِيخ الْخَطِيب ﵀ وَقد حدّثنا بجملته وَالِدي ﵀ القَاضِي الرئيس الْعدْل الثِّقَة الْأمين وجيه الدّين أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّد بن الشَّيْخ الصَّالح أبي عَليّ مَنْصُور بن أبي الْقَاسِم بن الْمُخْتَار بن أبي بكر بن عَليّ الجذامي الجروي ﵀ وَرَحْمَة وَاسِعَة - قَالَ: حَدثنَا الإِمَام النَّاصِر لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد - صلوَات الله عَلَيْهِ وعَلى آبَائِهِ الطاهرين - وَلم تتسع مُدَّة خَليفَة
1 / 39
فِي الْإِسْلَام كاتساع مدّته، وَكَانَت نَحوا من ثَمَان وَأَرْبَعين سنة، قَالَ - صلوَات الله عَلَيْهِ - حَدثنَا الإِمَام الْحَافِظ أَبُو الْعِزّ عبد المغيث بن زُهَيْر الْحَرْبِيّ قَالَ: حَدثنَا أَبُو مَنْصُور عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الْقَزاز الْبَغْدَادِيّ قَالَ: حَدثنَا الْخَطِيب الْحَافِظ أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت الْبَغْدَادِيّ بتأريخه الْكَبِير سَمَاعا عَلَيْهِ وَبَعض مَا أوردناه مُخْتَصر اللَّفْظ وافي الْمَعْنى - إِن شَاءَ الله -.
قَالَ الْخَطِيب: " مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْمُغيرَة أَبُو عبد الله الْجعْفِيّ البخارى الإِمَام فِي علم الحَدِيث صَاحب الْجَامِع الصَّحِيح والتأريخ، رَحل فِي طلب الْعلم إِلَى سَائِر الْأَمْصَار وَكتب بخراسان وَالْجِبَال وَالْعراق والحجاز وَالشَّام ومصر، وروى عَن خلق يَتَّسِع ذكرهم.
أخبرنَا أَبُو سعيد الْمَالِينِي بِإِسْنَادِهِ إِلَى مُحَمَّد بن أَحْمد بن سَعْدَان البُخَارِيّ قَالَ: مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البخارى جدّه بردزبه، وبردزبه مَجُوسِيّ مَاتَ عَلَيْهَا، وَكَانَ زراعًا، والمغيرة ابْنه أسلم على يَد يمَان وَالِي بُخَارى - وَكَانَ جعفيًا - فنسب إِلَى من أسلم على يَدَيْهِ وَهُوَ أَيْضا مَوْلَاهُ.
وَقَالَ الْحُسَيْن البُخَارِيّ: رَأَيْت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل شَيخا نحيفًا معتدلًا، ولد يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من شَوَّال سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة، وَتُوفِّي لَيْلَة السبت غرَّة شَوَّال سنة سِتّ وَخمسين ومائتي، عَاشَ اثْنَتَيْنِ
1 / 40
وَسِتِّينَ سنة إِلَّا ثَلَاثَة عشر يَوْمًا.
وَقيل لأبي عبد الله: كَيفَ كَانَ بدؤك فِي طلب الحَدِيث؟ قَالَ: ألهمت حفظه وَأَنا فِي الْكتاب، ولي عشر سِنِين تَقْديرا، ثمَّ اخْتلفت إِلَى الداخلي وَغَيره، وَقَالَ يَوْمًا فِيمَا يقْرَأ للنَّاس: سُفْيَان عَن أبي الزبير عَن إِبْرَاهِيم، فَقلت لَهُ: ارْجع إِلَى الأَصْل، فَدخل فَنظر فِيهِ ثمَّ خرج، فَقَالَ كَيفَ هُوَ يَا غُلَام؟ قلت: هُوَ الزبير عَن عدي عَن إِبْرَاهِيم، فَأخذ الْقَلَم مني وَأَصْلحهُ، وَقَالَ: صدقت. فَسئلَ البُخَارِيّ: ابْن كم كنت يؤمئذ؟ قَالَ إِحْدَى عشرَة سنة.
قَالَ: وحفظت كتب ابْن الْمُبَارك ووكيع وَأَنا ابْن سِتّ عشرَة سنة، وَخرجت إِلَى الْحَج، وجاورت فِي طلب الحَدِيث وصنفت التأريخ وَأَنا ابْن ثَمَانِي عشرَة سنة عِنْد قبر النَّبِي [ﷺ]، وقلّ أَن يكون فِيهِ اسْم إلاّ وَله عِنْدِي قصَّة حققت بذكرها، وصنفته ثَلَاثَة مَرَّات.
وَقَالَ: أَبُو بكر الْمَدِينِيّ: كُنَّا يَوْمًا عِنْد إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه بنيسابور، والبخارى حَاضر، فَمر إِسْحَاق بِذكر عَطاء الكيخاراني فِي عد التَّابِعين، فَقَالَ لَهُ إِسْحَاق: يَا أَبَا عبد الله ايش كيخاران؟ فَقَالَ قَرْيَة بِالْيمن، كَانَ مُعَاوِيَة بعث إِلَيْهَا أحد الصَّحَابَة، فَسمع عَطاء مِنْهُ حديثين: هَذَا أَحدهمَا فَقَالَ إِسْحَاق: كَأَنَّك شهِدت الْقَوْم.
1 / 41
وروى السعداني عَن بعض إخوانه أَن البُخَارِيّ قَالَ: أخرجت هَذَا الصَّحِيح من زهاء سِتّ مائَة ألف حَدِيث.
وَعَن البُخَارِيّ أَيْضا: مَا وضعت فِيهِ حَدِيثا حَتَّى اغْتَسَلت وَصليت رَكْعَتَيْنِ لكل حَدِيث قبل أَن أثْبته. وَعَن بعض الْمَشَايِخ أَن البُخَارِيّ دوّن تراجم كِتَابه فِي الرَّوْضَة يغْتَسل وَيُصلي لكل تَرْجَمَة.
وَقَالَ الْفربرِي: سمع كتاب البُخَارِيّ تسعون ألف رجل مَا بَقِي مِنْهُم غَيْرِي.
وَقَالَ مُحَمَّد البخارى بخوارزم: رَأَيْت أَبَا عبد الله فِي الْمَنَام يمشي بأثر رَسُول الله ﷺ يتحَرَّى مَوَاضِع قَدَمَيْهِ.
وَقيل: إِن عَيْنَيْهِ ذهبتا فِي صغره، فدعَتْ أمه وابتهلت فرأت إِبْرَاهِيم الْخَلِيل ﵇ فَقَالَ لَهَا: قد ردّ الله على ابْنك بَصَره رَحْمَة لبكائك ودعائك، فَأصْبح يبصر.
وَعَن البُخَارِيّ: كتبت عَن ألف شيخ وَأكْثر، مَا عِنْدِي حَدِيث إِلَّا أحفظ إِسْنَاده.
1 / 42
[زهده وورعه]
وَمن مناقبه فِي ورعه مُطلقًا، أَنه قَالَ: مُنْذُ ولدت مَا بِعْت وَلَا اشْتريت بدرهم حَتَّى الكاغذ والحبر، كنت أوكّل من يفعل ذَلِك.
قلت: كَأَنَّهُ يُقَلّد الْوَكِيل ويخلص من عُهْدَة التَّصَرُّف مُبَاشرَة.
وَكَانَ عِنْده بضَاعَة أعْطى بهَا خمس مائَة ألف، فَلم يتَّفق لَهُ بيعهَا. فَلَمَّا كَانَ الْغَد أعطَاهُ بهَا آخر عشرَة آلَاف فَقَالَ: كنت البارحة نَوَيْت أَن أبيعها لمن أعْطى خَمْسَة فَلَا أغير نيتي وأمضاها.
وَكَانَ فِي رَمَضَان يخْتم كل لَيْلَة عِنْد الْإِفْطَار ولثلاث عِنْد السحر.
ولسعه الزنبور وَهُوَ يُصَلِّي فِي سَبْعَة عشرَة موضعا من بدنه، مَا تغير حَاله وَلَا انتقد ثَوْبه حَتَّى سلم.
وَقَالَ مُحَمَّد بن مَنْصُور: كُنَّا فِي مجْلِس البُخَارِيّ فِي الْمَسْجِد، فَأخذ أحد الْحَاضِرين من لحية البُخَارِيّ قذاة فطرحها، فَرَأَيْت البُخَارِيّ ينظر إِلَيْهَا وَإِلَى النَّاس يستغفلهم حَتَّى إِذا غفلوا فِي ظَنّه أَخذهَا وأدخلها فِي كمه، فَلَمَّا خرج من الْمَسْجِد مَدَّ يَده إِلَى كمه فَأَخذهَا وطرحها فِي الأَرْض.
1 / 43
قلت: فهم من قَوْله ﷿: ﴿وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره﴾ [الزلزلة: ٨] فِي تِلْكَ القذاة من ذرة. وَكَأَنَّهُ تورع أَن ينزه لحيته عَن شَيْء وَلَا ينزه عَنهُ الْمَسْجِد.
[حفظه]
وَمن نَوَادِر الْمَنْقُول فِي حفظه، أَن أهل بَغْدَاد امتحنوه بِمِائَة حَدِيث حولوا أسانيدها وبدلوها، ثمَّ عرضهَا عَلَيْهِ عَارض فِي المحفل، فَجعل يَقُول فِي كل حَدِيث: لَا أعرفهُ. فاستقصر النظارة حفظه، فَلَمَّا أتم الْمعَارض الْمِائَة عطف البُخَارِيّ عَلَيْهَا فَجعل يَقُول: أما الحَدِيث الأول فَهُوَ كَذَا، وَإِسْنَاده عِنْدِي كَذَا، إِلَى أَن انْتهى إِلَى آخر فجوّدها من حفظه، فَأقر الْكل لَهُ بِالْفَضْلِ وبإحراز الحصل.
قَالَ سيدنَا ﵁ قلت:
وَمن مناقبه الدِّينِيَّة ومآثره الدَّالَّة على خلوص النِّيَّة
أَنه امتحن بمناواة مُحَمَّد بن يحي الذهلي، وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا من جملَة مشايخه، ومتعينًا فِي عصره، مُتَقَدما بِالسِّنِّ، ومتخصصًا بِالْفَضْلِ، وانتصابًا للإفادة، واشتهارًا زَائِدا على الْعَادة، وأمرًا مُطَاعًا حَقًا مراعًا. وَاقْتضى لَهُ مَجْمُوع هَذِه الْأَحْوَال أَن ظهر على البُخَارِيّ، وَعبر فِي وَجه وجاهته، ووكر فِي اعْتِقَاد الْخلق صفو نزاهته، إِلَى أَن نَادَى عَلَيْهِ أَن لَا يجلس أحد إِلَيْهِ، فَأَقَامَ البُخَارِيّ بُرْهَة من الزَّمَان وحيدًا فريدًا، ثمَّ لم يكفه حَتَّى أجلاه عَن الوطن غَرِيبا شَرِيدًا، وانقسم
1 / 44
النَّاس فِي حَقه إِلَى قسمَيْنِ: أحنهما عَلَيْهِ وأدناهما إِلَيْهِ، هُوَ الَّذِي يظنّ فِيهِ الِاعْتِقَاد وَلَا يتجاسر على إِظْهَار تَعْظِيمه خشيَة الانتقاد؛ حَتَّى قيل عَنهُ ﵁ إِنَّه دَعَا فِي سُجُوده ذَات لَيْلَة دَعْوَة ورخها من كَانَ مَعَه وأجابها من قبل دعاءه وسَمعه، وَذَلِكَ أَنه قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّه قد ضَاقَتْ عليّ الأَرْض بِمَا رَحبَتْ فاقبضني إِلَيْك " فَقبض لشهر من هَذِه الدعْوَة. ثمَّ لم يكن إِلَّا أَن اجْتمع الخصمان فِي دَار الْجَزَاء، وقدما على الحكم الْعدْل الْمنصف فِي الْقَضَاء فَانْقَلَبَ خمول البُخَارِيّ ظهورًا، وظهورُ غَيره دثورًا، وَقطع النَّاس بتعظيم البُخَارِيّ أعصرًا ودهورًا وَقطع ذكر الذهلي حَتَّى كَأَن لم يكن شَيْئا مَذْكُورا، فَهُوَ إِلَى الْآن لَا يعرف اسْمه إِلَّا متوغل فِي معرفَة أَسمَاء الْمَشَاهِير والخاملين، وَلَا يمرّ ذكره على الْأَلْسِنَة إِلَّا فِي الْحِين بعد الْحِين، وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَالْعَمَل على الْخَوَاتِم وَعِنْدهَا يَزُول الشَّك بِالْيَقِينِ. وقصته مَعَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي أسْند الْخَطِيب وَهَذَا مَعْنَاهُ:
قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن يَعْقُوب حَدثنَا مُحَمَّد بن نعيم، قَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن حَامِد يَقُول سَمِعت الْحسن بن مُحَمَّد يَقُول، سَمِعت مُحَمَّد بن يحيى الذهلي يَقُول لَمَّا ورد مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ نيسابور: اذْهَبُوا إِلَى هَذَا الرجل الصَّالح الْعَالم فَاسْمَعُوا مِنْهُ، فَذهب النَّاس إِلَيْهِ وَأَقْبلُوا بِالْكُلِّيَّةِ عَلَيْهِ، حَتَّى ظهر الْخلَل فِي مجْلِس الذهلي فحسده بعد ذَلِك وَتكلم فِيهِ.
قَالَ الْفَقِيه - وَفقه الله -: قلت: تَحْسِين الظَّن يُوجب تَحْرِير هَذِه الْعبارَة وَكَأَنَّهُ أَرَادَ - وَالله أعلم -: فَعَلَ مَعَه فعل الحاسدين بِتَأْوِيل عِنْده - وَالله أعلم -.
1 / 45
قَالَ: وَأخْبرنَا أَبُو حَازِم قَالَ، سَمِعت الْحسن بن أَحْمد بن شَيبَان يَقُول، سَمِعت أَبَا حَامِد يَقُول: رَأَيْت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل فِي جَنَازَة أبي عُثْمَان والذهلي يسْأَله عَن الْأَسْمَاء والكنى والعلل، وَهُوَ يمرّ كَأَنَّهُ السهْم. فَمَا أَتَى على ذَلِك شهر حَتَّى تكلم فِيهِ وَقَالَ: من اخْتلف إِلَيْهِ، لَا يخْتَلف إِلَيْنَا، وتعلل بِأَن أهل بَغْدَاد كاتبوه بِأَنَّهُ تكلم فِي اللَّفْظ. وَكَانَ الذهلي يَقُول: من قَالَ: " لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق " فَهُوَ مُبْتَدع يزْجر ويهجر، وَمن قَالَ: الْقُرْآن مَخْلُوق فَهُوَ كَافِر يقتل وَلَا ينظر.
وَالَّذِي صَحَّ عَن البُخَارِيّ ﵀ أَنه سُئِلَ عَن اللَّفْظ، وضايقه السَّائِل فَقَالَ: أَفعَال الْعباد كلهَا مخلوقة. وَكَانَ يَقُول مَعَ ذَلِك: الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق.
وَذكر أَن مُسلم بن الْحجَّاج ﵀ ثَبت مَعَه فِي المحنة، وَقَالَ يَوْمًا الذهلي - وَمُسلم فِي مَجْلِسه -: من كَانَ يخْتَلف إِلَى هَذَا الرجل، فَلَا يخْتَلف إِلَيْنَا، فَعلم مُسلم أَنه المُرَاد، فَأخذ طيلسانه وَقَامَ على رُؤُوس الأشهاد، فَبعث إِلَى الذهلي بِجَمِيعِ الْأَجْزَاء الَّتِي كَانَ أَخذهَا عَنهُ.
وَمن تَمام رسوخ البُخَارِيّ فِي الْوَرع أَنه كَانَ يحلف بعد هَذِه المحنة، أَن الحامد والذام عِنْده من النَّاس سَوَاء، يُرِيد أَنه لَا يكره ذامه طبعا. وَيجوز أَن يكرههُ شرعا، فَيقوم بِالْحَقِّ لَا بالحظ، ويحقق ذَلِك من حَاله أَنه لم يمح اسْم الذهلي من جَامعه، بل أثبت رِوَايَته عَنهُ، غير أَنه لم يُوجد فِي كِتَابه إِلَّا على أحد وَجْهَيْن:
1 / 46
إِمَّا أَن يَقُول: " حَدثنَا مُحَمَّد " ويقتصر. وَإِمَّا أَن يَقُول: " حَدثنَا مُحَمَّد بن خَالِد ". فينسبه إِلَى جد أَبِيه.
فَإِن قلت: فَمَا لَهُ أجمله، وأنفي أَن يذكر بنسبه الْمَشْهُور؟
قلت: لَعَلَّه لما اقْتضى التَّحْقِيق عِنْده أَن يبْقى رِوَايَته عِنْده خشيَة أَن يكتم علما رزقه الله على يَدَيْهِ وعذره فِي قدحه فِيهِ بالتأويل والتعويل على تَحْسِين الظَّن، خشِي على النَّاس أَن يقعوا فِيهِ بِأَنَّهُ قد عدّل من جرحه، وَذَلِكَ يُوهم أَنه صدقه على نَفسه فيجر ذَلِك إِلَى البُخَارِيّ وَهْنا، فأخفى اسْمه وغطّى رسمه وَمَا كتم علمه، فَجمع بَين المصلحتين، وَالله أعلم بمراده من ذَلِك.
قَالَ سيدنَا ومولانا الْفَقِيه ﵁: هَذَا آخر مَا سنح لنا إثْبَاته من مناقبه، ليعظم بذلك وَقع الْعلم عِنْد طَالبه. رزقنا الله الْعَمَل بِمَا علمنَا، والعذر فِيمَا جهلنا، والتوفيق فِيمَا قُلْنَا، أَو فعلنَا، وَأَدَاء الْأَمَانَة فِيمَا حملنَا.
وَهَذَا أَوَان نفتح الْمَطْلُوب بعون الله وتيسيره، وعَلى الله قصد السَّبِيل فِي تحري الصَّوَاب وتحريره، وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل.
1 / 47
(١ -] كتاب بَدْء الْوَحْي [)
(١ - (١) بَاب كَيفَ كَانَ بدؤ الْوَحْي إِلَى رَسُول الله [ﷺ] وَقَول الله ﷿ -:
٨ - (إِنَّا أَوْحَينَا إِلَيْك كَمَا أَوْحَينَا إِلَى نوح والنبيين من بعده﴾ [النِّسَاء: ١٦٣] .
فِيهِ عمر بن الْخطاب: قَالَ: قَالَ رَسُول الله [ﷺ]: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لكل امرء مَا نوى، فَمن كَانَت هجرته إِلَى دنيا يُصِيبهَا، أَو امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا، فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ ".
قَالَ سيدنَا ومولانا الْفَقِيه ﵁: إِن قلت: مَا موقع حَدِيث عمر من التَّرْجَمَة، وَأَيْنَ هُوَ من بُدِئَ الْوَحْي؟
قلت: أشكل هَذَا قَدِيما على النَّاس فَحَمله بَعضهم على قصد الْخطْبَة والمقدمة للْكتاب، لَا على مُطَابقَة التَّرْجَمَة، وَقيل فِيهِ غير هَذَا. وَالَّذِي وَقع لي أَنه قَصده - وَالله أعلم - أَن الحَدِيث اشْتَمَل على أَن من هَاجر إِلَى الله وَحده، وَالنَّبِيّ [ﷺ] كَانَ مُقَدّمَة النُّبُوَّة فِي حَقه هجرته إِلَى الله، وَإِلَى الْخلْوَة بمناجاته، والتقرب إِلَيْهِ
1 / 48
بعباداته فِي غَار حراء، فَلَمَّا ألهمه الله صدق الْهِجْرَة إِلَيْهِ، وَطلب وجد وجد، فَهجرَته إِلَيْهِ كَانَت بَدْء فَضله عَلَيْهِ باصطفائه وإنزال الْوَحْي عَلَيْهِ، مُضَافا إِلَى التأييد الإلهي والتوفيق الرباني الَّذِي هُوَ الأَصْل والمبدأ والمرجع والموئل. وَلَيْسَ على معنى مَا ردّه أهل السّنة على من اعْتقد أَن النُّبُوَّة مكتسبة، بل على معنى أَن النُّبُوَّة ومقدماتها ومتمماتها، كلٌّ فضل من عِنْد الله، فَهُوَ الَّذِي ألهم السُّؤَال وَأعْطى السؤل، وعلق الأمل وَبلغ المأمول، فَلهُ الْفضل أَولا وآخرًا وظاهرًا وَبَاطنا ﷾.
وَلم يذكر البُخَارِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: " فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله ". وَهُوَ أمس بِالْمَقْصُودِ الَّذِي نبهنا عَلَيْهِ. وَذكر هَذِه الزِّيَادَة فِي الحَدِيث فِي كتاب الْإِيمَان، وَكَأَنَّهُ اسْتغنى عَنْهَا بقوله: " فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ " فأفهم ذَلِك أَن كل مَا هَاجر إِلَى شَيْء فَهجرَته إِلَيْهِ فَدخل فِي عُمُومه الْهِجْرَة إِلَى الله. وَمن عَادَته أَن يتْرك الِاسْتِدْلَال بِالظَّاهِرِ الْجَلِيّ، ويعدل إِلَى الرَّمْز الْخَفي. وَسَيَأْتِي لَهُ أَمْثَال ذَلِك.
(٢ -] كتاب الْإِيمَان [)
(١) بَاب الدّين يسر وَقَوله [ﷺ]: " أحب الدّين إِلَى الله الحنيفية السمحة ".
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي [ﷺ]: " الدّين يسر وَلنْ يشاد الدّين أحد إِلَّا
1 / 49
غَلبه، فسدّدوا وقاربوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بالغدوة والروحة وَشَيْء من الدلجة ".
قَالَ ﵁: إِن قَالَ قَائِل: أَيْن مَوضِع أحب الدّين إِلَى الله الحنيفية السمحة، من الحَدِيث الَّذِي ذكره فِي الْبَاب؟
قيل لَهُ: إِن لفظ التَّرْجَمَة فِي الحَدِيث لم يُوَافق شَرط البُخَارِيّ، فَلَمَّا وَافقه حَدِيث الْبَاب بِمَعْنَاهُ، نبه عَلَيْهِ فِي التَّرْجَمَة، يَعْنِي أَنه إِن فَاتَ صِحَة لَفظه، فَمَعْنَاه صَحِيح بِهَذَا الحَدِيث الَّذِي ذكره مُسْندًا. ومقصوده من التَّرْجَمَة وحديثها التَّنْبِيه على أَن الدّين يَقع على الْأَعْمَال، لِأَن الَّذِي يَتَّصِف باليسر والشدة، إِنَّمَا هِيَ الْأَعْمَال دون التَّصْدِيق. وَقد فسّر الْأَعْمَال فِي الحَدِيث بالغدوة والروحة، وَشَيْء من الدلجة. وكنى بِهَذِهِ الفعلات عَن الْأَعْمَال فِي هَذِه الْأَوْقَات، كَقَوْلِه ﴿أقِم الصلواة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل﴾ [هود: ١١٤] .
وَقَالَ: " شَيْء من الدلجة " وَلم يقل: " والدلجة " لثقل عمل اللَّيْل، فندب إِلَى حظّ مِنْهُ، وَإِن قلّ، أَو لِأَن الدلجة سير اللَّيْل كُله، وَلَيْسَ الْقيام المحثوث عَلَيْهِ مستوعبًا لِليْل، وَإِنَّمَا هُوَ أَخذ مِنْهُ على اخْتلَافهمْ فِي الْقدر الْمَأْخُوذ، وَالله أعلم.
1 / 50
(٣ - (٢) بَاب حسن إِسْلَام الْمَرْء)
فِيهِ أَبُو سعيد: قَالَ رَسُول الله [ﷺ]: " إِذا أسلم الْمَرْء فَحسن إِسْلَامه، يكفر الله عَنهُ كلّ سَيِّئَة كَانَ زلفها، وَكَانَ بعد ذَلِك الْقصاص: الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا، إِلَى سبع مائَة ضعف، والسيئة بِمِثْلِهَا إِلَّا أَن يتَجَاوَز الله عَنْهَا ".
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي [ﷺ]: " إِذا أحسن أحدكُم إِسْلَامه، فَكل حَسَنَة يعملها كتبت لَهُ بِعشر أَمْثَالهَا، إِلَى سبع مائَة ضعف. وكل سَيِّئَة يعملها تكْتب لَهُ بِمِثْلِهَا ".
إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ موقع هَذِه التَّرْجَمَة من زِيَادَة الْإِسْلَام ونقصانة؟
قيل: لما أثبت لِلْإِسْلَامِ صفة الْحسن، وَهِي زَائِدَة عَلَيْهِ، دلّ على اخْتِلَاف أَحْوَاله. وَإِنَّمَا تخْتَلف الْأَحْوَال بِالنِّسْبَةِ إِلَى الإعمال، وَأما التَّوْحِيد فواحد.
(٤ - (٣) بَاب أحبّ الدّين إِلَى الله أَدْوَمه)
1 / 51
فِيهِ عَائِشَة ﵂: إِن النَّبِي -[ﷺ] دخل عَلَيْهَا، وَعِنْدهَا امْرَأَة، قَالَ من هَذِه؟ قَالَت: فُلَانَة - تذكر من صلَاتهَا - قَالَ: " مَه عَلَيْكُم بِمَا تطيقون، فوَاللَّه لَا يملّ الله حَتَّى تملوا ". وَكَانَ أحبّ الدّين إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحبه.
قَالَ: سيدنَا الْفَقِيه ﵁: - إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ موقعها من زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه؟ .
قُلْنَا: لِأَن الَّذِي يَتَّصِف بالدوام وَالتّرْك، إِنَّمَا هُوَ الْعَمَل. وَأما الْإِيمَان فَلَو تَركه لكفر، دلّ على أَن الْعَمَل الدَّائِم هُوَ الَّذِي يُطلق عَلَيْهِ أَنه أحبّ الدّين إِلَى الله ﷿، وَإِذا كَانَ هُوَ الدّين كَانَ هُوَ الْإِسْلَام لقَوْله: ﴿إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام﴾ [آل عمرَان: ١٩] .
(٥ - (٤) بَاب زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانة)
وَقَوله تَعَالَى: ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ﴾ [الْمَائِدَة: ٣] . فَإِذا ترك شَيْئا من الْكَمَال فَهُوَ نَاقص.
فِيهِ أنس: قَالَ النَّبِي [ﷺ]: يخرج من النَّار من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَفِي قلبه وزن شعيرَة من خير، وَيخرج من النَّار من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَفِي قلبه وزن بُرّة من خير، وَيخرج من النَّار من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله، وَفِي قلبه وزن ذرة من خير ".
وَفِيه عمر: إِن رجلا من الْيَهُود قَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ آيَة فِي كتابكُمْ لَو
1 / 52