فدنت منه، وقالت بصوت خافت: «أواه! ليت ذلك ممكنا!» وأجهشت في البكاء، ثم عادت، فقالت بصوت متهدج: «أنا أتعس بنات جنسي؛ لأنه قدر لي أن أحب من لا أستطيع أن أبادله الحب وأشاطره حلو الحياة ومرها، جرح قلبي وهو لا يعلم بما فعل وتملك فؤادي وهو لا يبالي بي.»
لم يعد سليم يستطيع السكوت، فقال: «بل هو يهواك بكل جارحة في الفؤاد، وهيهات أن ينساك وإن يكن نصيبه منك البعاد.» ثم فتح يديه كأنه يحاول أن يضمها إليه، ثم تذكر مركزه فعاد إلى الوراء قليلا ورآها ترتعش وقد ارتسمت على محياها دلائل المسرة والابتهاج ممتزجة بالخوف والحذر، ثم قالت: «أواه! لقد تطوحت كثيرا وما كان يليق بي أن أفوه بمثل هذا الكلام وأنت غريب عني للآن، ولكنني أرى أن قلبينا قريبان، ويكاد ما نفتكر به أن يكون واحدا، والفكر والمبدأ إذا اتفقا في اثنين يجعلانهما أكثر قرابة من بعضهم البعض، ممن تربطهم القرابة والنسب إذا كانوا مختلفين في المبادئ والأذواق والأفكار. والآن قل لي بربك ماذا أعمل وكيف أنجو مما أنا فيه، فأنت أكبر مني عمرا وأكثر اختبارا، ولقد فتحت لي قلبك فلا تستطيع أن تغلقه فيما بعد، وإذا لم يكن لنا سبيل للاتحاد في هذه الحياة، فليكن حبنا الطاهر خير رابطة تربط القلبين برابطة الذكرى المفرحة، واعلم أينما سرت أن لك في العمروسة أختا تسر بنجاحك وتبتهج بسعادتك، وتغتبط إذا سمعت عنك خيرا.» وهمت بالانصراف فلم تقو رجلاها على حملها، ثم سمعت نقرا على البوابة الخارجية فأسرعت من داخل العلية الكبيرة إلى داخل البيت، ثم سارت من الجهة المقابلة ففتحت للطارق، فإذا به الشيخ صالح.
وكان أبوها يشتغل في مناظرة فعلة يعملون في حقل له قريب من البيت، فبادرت هيفاء إلى حيث كان ونادته ثم عادت إلى حجرتها تتأمل فيما جرى.
دخل الشيخ صالح على سليم فوجده جالسا على المقعد قلقا، فطيب خاطره حاسبا أنه متضايق من الإقامة في تلك القرية، ثم جاء يوسف الهلالي فأقام الثلاثة يتكلمون في شئون مختلفة، وبعد قليل قال الشيخ ليوسف: «إذا كان لديك شغل يوجب التفاتك للعمال فاذهب للحقل، وأنا أقيم هنا مع سليم أفندي قليلا ريثما تعود.» فقال: إذن أترككما ساعة ثم أعود.
الشيخ الفاضل والشاب العاقل
افتتح الشيخ صالح الحديث ، فقال: «إن قلبي يطفح بشرا يا بني كلما شاهدتك، فأنت مثال للشبان في أخلاقك وآدابك العالية واجتهادك؛ ولهذا جئت الآن لكي أراك وأباحثك في أمر هام.» - هذا فضل منك يا سيدي، والشاب العاقل هو من يحترم آراء الشيوخ ويعمل بنشاط الشباب. - يا بني، إن التكتم ليس إلا مكرا مضرا، فأنا أمقت التكتم والتستر، وسوف أفتح لك قلبي وأود أن تصارحني الكلام. - سمعا وطاعة سأكون عند إرادتك يا مولاي. - ربما علمت بما كان من أمر العصابات واتهام محمد الهلالي وغيره، ولقد قدر لهذا العاجز أن يخدم بلاده وبني جنسه خدمات إذا لم تثمر كثيرا، فأقل ما يقال فيها إنها كانت صادرة عن إخلاص.
تذكر يا بني ما جرى لنا من الحديث في العام الماضي، ولقد قلت حينئذ: إن الاتحاد لا يكون إلا متى توفرت الوسائل وزالت أسباب النفور والاختلاف، فهاك ما جرى في هذا العام من الحوادث، ألم يأت كله مصداقا لما قلت؟ ألم تكن أعمال العصابات دليلا على فساد الأخلاق ووجود التعصب الذميم؟ ومن هو الذي ينفخ في بوق التعصب، هل من مصلحة أولئك الفقراء الصعاليك الذين ليسوا إلا آلات مسخرة، أم هو من مصلحة الناس الآمنين في بيوتهم العاملين بجد ونشاط، أن يكون مثل هذا الخلاف المستفحل والشر الذي استعصى داؤه ودواؤه؟ إذن أنا منبئك بشيء لست تعرفه.
كاد محمد الهلالي أن يقع في فخ بعض الزعماء ولولا تدخلي في الأمر قبل استفحال الشر، لكان الآن أكبر زعيم للصوص وقطاع الطرق والأشرار، وكانت آخرته إما صريعا من يد شقي آخر أو طريحا في السجون مكبلا بالحديد، ولكنني تمكنت من إقناعه بالعدول عن هذه الخطة، فثاب إلى رشده وعاد أبناء قريتنا كل إلى عمله، وإنني واثق - كل الثقة - أن قريتنا الصغيرة أفضل قرى البقاع حالا، وأوفرها غنى وأكثرها مواشي، والفضل في ذلك عائد إلى انصراف الأهالي لأعمال الزراعة بهمة ونشاط، وأصبح أهل القرية الآن أكثر الناس كراهية للصوص، ألم تر كيف نكلوا بالأشقياء الذين حاولوا سلبكما أنت ووالدك؟ وهنالك أمر لا أعرف إذا كنت عرفت حقيقته، وهو أن اثنين من شبان القرية كانا يحاولان ترصدكما وأنتما عائدان إلى زحلة، وسلبكما مالكما وإيقاع الأذى بكما؛ اعتقادا منهما أنهما بذلك يخدمان الإسلام والمسلمين، ويحفظان هيبة الطائفة وينتقمان من أعدائهما بإيذاء مسيحيين، فلما علمت بأمرهما دعوتهما ووبختهما، فندما على ما فرط منهما وأصبح أهل القرية اليوم بعد أن جمعتهم وشرحت لهم ما نالني في أسفاري وغربتي مدة عشرين سنة في أكثر بلدان الشرق، وبعض بلدان المغرب من غير الدهر وعبره، وما رأيت من فضل الاتحاد وشر التحزب والتفرق أشد الناس تمسكا بالاتحاد، واعتقادا بأن الناس إخوان وأن كل إنسان يجب عليه أن يعمل على قدر طاقته في سبيل الإصلاح لا متواكلا معتمدا على سواه.
وقد بينت لأهل القرية أن إيواء اللصوص ومساعدة الأشرار إذا كانوا من طائفتنا لا خير فيهما؛ لأن ذلك يشجع غيرهم على الانضمام إليهم، وبالتالي يكثر المجرمون والأشرار في الطائفة ويبعث في نفوس الطوائف الأخرى على الكراهية والمقت، فضلا عن الخوف منا، فيؤلفون العصابات مثلنا لمقاومة أشرارنا، فنكون أكبر معوان على الشر وفساد الأخلاق، وهدم ما قام به السلف الصالح من المدنية والعمران، بيد أننا لو كنا حربا على الأشرار لما تجرأ شرير أن يعتدي على بريء، ولعاش الناس سعداء أحرارا يعاون الواحد الآخر، ويعمل الكل على استجرار المنفعة لنفسه ولأخيه، ثم تمثلت بكما، إذ قلت: هاكم سمعان إلياس وابنه فإنهما أحب إلي من أهلي، فهما أكثر الناس نفعا لقريتنا الصغيرة مع أنهما مسيحيان لا تربطنا بهما رابطة قرابة ولا علاقة طائفية، ولكن الناس إخوان والدين المعاملة، فهل رأى أحد أهل قريتنا في هذا التاجر إلا الخير والنفع؟ هل قصده أحد لأمر إلا وساعده؟ وهل رأيتم في نجله إلا فتى كبير الهمة، صحيح العقل، ماضي العزيمة، يسير على خطوات أبيه في حبه للخير وخدمة الناس، وهو مع حداثة سنه ملم بالعلوم العقلية والنقلية إلماما يجعله مستعدا لتقلد أكبر المناصب، فهل تعلمون السبب في ذلك؟ فسكت الحاضرون، وقلت: إن ما جعل هذين الرجلين كما هو أخلاقهما العالية، والعلم الذي جعلهما عاملين شريفين يعملان لتحصيل المال وإنفاقه في أقوم السبل، والله إنني لم أر أكرم منهما نفسا ولا أقل منهما ادعاء، ولقد استفز هذا الكلام صاحب الدار، فقال: وما قولك في إرسال محمد إلى المدرسة وهو الآن في الثانية والعشرين من عمره؟ فقلت: لا كبير على العلم، ثم قال: وابنتي، وهي في الرابعة عشرة، هل تظن أن التعليم ينفعها؟ قلت: إن تربية الأمة لا تكون إلا بتربية بناتها وتدميث أخلاقهن، وتعليمهن العلوم التي تؤهلهن لتربية رجال الأمة. والآن ما رأيك يا بني فيما قلت؟ وهل تعرف مدرسة تناسب محمد وأخرى تناسب هيفاء بنت صاحب الدار؟ ولقد بلغني أنها تحسن القراءة والكتابة، وقد اطلعت على كتاب كتبته لأبيها مرة يدل على استعداد فطري نادر.
فأبرقت أسرة سليم، وقال: إن ما يراه الشيخ هو خير ما أراه، ولقد تفضلت يا مولاي فجعلت لنا مقاما لا نستحقه، وأنت البادئ بالفضل والإحسان، فما فعله والدي كان لمصلحته الخاصة، وأما أنت فقد صنعت جميلا لأهل قريتك وأحسنت الظن بنا حبا بالخير، ولو كان يوجد كثيرون مثلك في هذه الديار لما كنا كما نحن الآن، ولكنني أرى أن آمالنا أصبحت قريبة المنال بفضل من هم مثلك علما وفضلا واختبارا.
Неизвестная страница