تصورت روز الحياة التي عاشتها فلو لأبعد من ذلك الحد؛ حياة مليئة بالأحداث وأسطورية، مع أغنية «باربارا آلين» ووالد بيكي تايد، بكل ما اختلط فيها من نوبات الغضب والحزن. •••
الضرب الملكي. كيف بدأ؟
تخيل أحد أيام السبت في فصل الربيع؛ أوراق الأشجار لم تنبت بعد، لكن الأبواب مفتوحة ليتخللها ضوء الشمس، والديوك تعلو أصواتها في الأجواء، والمياه تملأ المجاري المائية. طقس يبعث الأمل في النفوس. اعتادت فلو أيام السبت ترك المتجر في رعاية روز - كان ذلك منذ بضعة أعوام من الآن، عندما كانت روز في التاسعة أو العاشرة أو الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمرها - بينما كانت تعبر هي الجسر إلى هانراتي (كانت هانراتي تسمى الجزء الأعلى من المدينة) للتسوق ورؤية الناس والاستماع إليهم. ومن بين الأشخاص الذين استمعت إليهم فلو، السيدة ديفيس زوجة المحامي، والسيدة هينلي سميث زوجة الكاهن الإنجليكاني، والسيدة ماكاي زوجة طبيب الخيول. وعند عودتها للمنزل، كانت تقلد أصواتهن الحمقاء. جعلتهن يبدين كوحوش تملؤها الحماقة والزيف والتباهي بالذات.
عندما كانت فلو تنتهي من التسوق، كانت تدخل المقهى الموجود بفندق «كوينز هوتيل» وتتناول الآيس كريم. وعند عودتها للمنزل، يسألها براين وروز: «ما كانت نكهته؟» وكانا يصابان بالإحباط إذا كان بالأناناس أو بحلوى السكر والزبد فقط، ويسعدان إذا كان بشراب الشوكولاتة والفستق أو بالشوكولاتة والفانيليا. وبعد الآيس كريم، كانت تشعل سيجارة. حملت معها بعض السجائر الجاهزة كي لا تضطر للفها أمام الناس. كان التدخين من الأمور التي كانت فلو تفعلها وتطلق عليها تفاخرا عندما يفعلها أي شخص آخر. اعتادت التدخين منذ أيام عملها في تورونتو، وكانت تعلم أنه يجلب إليها المشاكل؛ ففي إحدى المرات، وقف قس كاثوليكي على يمينها في فندق «كوينز هوتل»، وأشعل الولاعة أمامها قبل أن تتمكن من إخراج الثقاب، فشكرته، لكنها لم تدخل معه في أية مناقشة، خشية أن يحاول هدايتها.
مرة أخرى، وفي طريقها إلى المنزل، رأت فتى يرتدي سترة زرقاء ويبدو أنه ينظر في الماء عند نهاية الجسر من ناحية المدينة. ربما كان في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من عمره. لم تعرفه فلو من قبل. كان نحيفا وهزيلا وبه خطب ما لمحته فلو على الفور. هل كان يفكر في القفز من فوق الجسر؟ ما إن وصلت عنده فلو حتى استدار وأظهر نفسه لها، وقد فتح السترة والسروال. بدا وكأن ذلك من آثار ما عانى منه الفتى نتيجة للبرد في ذلك اليوم، مثل هذا الطقس الذي دعا فلو أن تطوي ياقة المعطف حول عنقها لتدفئ نفسها.
عندما رأت فلو، للوهلة الأولى، ما كان يحمله ذاك الفتى بين يديه، كل ما تمكنت من التفكير فيه هو: «ما الذي يفعله هذا الفتى هنا ممسكا بقطعة السجق هذه؟»
كان بإمكانها قول ذلك، وعبرت عنه كحقيقة وليس مزحة، فلطالما أكدت فلو أنها تكره الكلام البذيء؛ وكانت تخرج من المتجر لتصيح في الرجال كبار السن الجالسين أمامه، قائلة: «إذا أردتم البقاء هنا، فعليكم بانتقاء ألفاظكم!»
وفي أحد أيام السبت، قررت فلو لسبب ما عدم الذهاب إلى الجزء العلوي من المدينة، والبقاء في المنزل، وتنظيف أرضية المطبخ. لعل ذلك تسبب في تعكر مزاجها، وربما كان مزاجها متعكرا بالفعل بسبب عدم دفع الناس ديونهم المستحقة لها، أو لعل السبب هو تأجج المشاعر الذي يصيب الناس في الربيع. كان الشجار قد بدأ مع روز بالفعل، وهو مستمر إلى الأبد، كالحلم الذي يتداخل مرارا وتكرارا مع أحلام أخرى، ليظهر من فوق التلال وعبر الأبواب، معتما ومزدحما، مألوفا ومحيرا في نفس الوقت. كانت فلو وروز تخرجان جميع الكراسي من المطبخ استعدادا لتنظيف الأرضية، وكان عليهما أيضا أن ينقلا بعض مؤن المتجر الإضافية إلى المتجر، وبعض العلب الكرتونية التي تحوي السلع المعلبة، وصفائح شراب القيقب، وعلب زيت الفحم، وبرطمانات الخل. وكانتا تنقلان هذه الأشياء إلى السقيفة الخشبية. وكان براين، الذي بلغ من العمر خمس أو ست سنوات آنذاك، يساعدهما في جر علب الصفيح.
قالت فلو لروز، وهي تواصل حديثها الذي لم يذكر هنا: «نعم، وتلك البذاءة التي تعلمينها لبراين.» «أية بذاءة؟» «ولا يجيد سواها.»
كانت هناك درجة سلم واحدة للنزول من المطبخ إلى السقيفة الخشبية، وكانت مغطاة بقطعة من السجاد المتآكل، حتى إن روز لا تذكر النقش الذي كان مرسوما عليه في يوم من الأيام. تسبب براين في تفكك هذه السجادة بسحبه إحدى العلب الصفيح عليها.
Неизвестная страница