إثبات الحقائق المفردة
لقد جمعنا كل الأصول وتذرعنا بالعلوم الموصلة إلى فهمها ونقدناها. فتثبتنا من صحتها وعينا تاريخها ومكان تدوينها. ثم تحرينا نصوصها وتوصلنا إلى فهم ظاهرها وباطنها، ودققنا في أخبار رواتها للتعرف إلى أحوالهم فتوصلنا إلى تقرير عدالتهم وضبطهم. فهل يجوز لنا بعد هذا القدر من النقد والغربلة أن نقبل ما تبقى لدينا من الروايات، فنؤلف منه التاريخ الذي نكتب؟ أم يجب علينا أن نتابع البحث ونعيد الغربلة قبل الشروع في التأليف؟
نقول: إن ما تذرعنا به من وسائل النقد والغربلة لم يثبت لنا الحقائق التاريخية، ولكنه مكننا من المفاضلة بين الرواة، وتعيين درجاتهم على الشكل التالي: راو لا تقبل روايته، وآخر ضعيف الرواية مجهول المكانة، وثالث وهو أولاهم في انتباهنا لسماع روايته، ولكنه على هذا يظل موضوعا للنظر والاختبار، وإذا فالنقد الذي تذرعنا به لم يوصلنا إلى نتيجة إيجابية، ويمكننا الاعتماد عليها للتأكد من حقيقة الماضي، ولم يقطع لنا في شيء سوى أمر واحد؛ هو إسقاط رواية من لا يعتمد عليه، وهي نتيجة سلبية.
فلا بد للمؤرخ، والحالة هذه، من متابعة البحث والتنقيب للوصول إلى طمأنينة العقل وسلامة الاستنتاج، وعليه أولا أن يبتعد كل الابتعاد عن الروايات التي انفرد بها راو واحد. فإذا كانت العلوم الطبيعية تتطلب المشاهدة والاستدلال القياسي والتحقيق بالمقابلة والتجربة، فتبتعد كل الابتعاد عن الإطلاق في النتيجة من مشاهدة واحدة. فالتأريخ أولى بذلك منها لأنه بعيد عن المشاهدة، ضعيف الاستدلال بالقياس، عديم التجربة.
وهو أمر قديم العهد بيننا، وقد اعترف به علماء الحديث فجعلوا الحديث من هذه الناحية درجات أعلاها المتواتر، وشرطوا فيه أن يبلغ عدد المخبرين مبلغا يمنع في العادة تواطؤهم على الكذب.
1
ومن ذلك أبيات الجلال السيوطي في ألفيته المشهورة. قال:
وما رواه عدد جم يجب
إحالة اجتماعهم على الكذب
فالمتواتر وقوم حددوا
Неизвестная страница