ولحسن الحظ لا يزال قسم كبير من أوراق الحكومة في ذلك العصر محفوظا في سراي عابدين الملكية، وبإمكان المؤرخ أن يرجع إليه للتثبت مما تقدم، وبإمكاننا نحن - بعد اطلاعنا على محفوظات السراي في عابدين - أن نصرح، دون تردد، أن محمد شريف باشا كان حاكما عاما على الأقطار الشامية من أوائل سنة 1248ه حتى أواخر سنة 1256ه، ومما لا شك فيه أيضا بعد الاستناد إلى محفوظات عابدين الملكية وسجلات المحكمة الشرعية في القدس أن أحمد أغا دزدار كان قائما بأعمال المتسلمية في القدس، في شهر ربيع الأول من شهور سنة 1256ه، وأن محمد شريف باشا كان يسيطر على أعمال متسلم القدس وغيره من حكام المدن والمقاطعات في جميع الأقطار الشامية آنئذ، وأنه كان بدوره يتلقى أوامره من محمد علي باشا وابنه السر عسكر إبراهيم باشا كما تنص الوثيقة، ومما يجدر ذكره في هذا الصدد، الإشارة إلى اطلاع عزيز مصر على قضية البراق، وصدور الأمر عنه بمنع اليهود عن تبليط محل ربط البراق، واستعماله للصلاة وإجراء بعض الطقوس الدينية فيه. فالبت في مثل هذه الأمور الطائفية كان من صلاحية العزيز في مصر، لا يشاركه فيه أحد من الموظفين في حكومته.
والدليل الباطن على صحة هذه الوثيقة متنوع أيضا. فلو تفحصنا محتويات هذه الوثيقة وغرضها المقصود، نجد أنها توافق في روحها ما نعمله من تاريخ علاقة اليهود بمحل ربط البراق، وما نعرفه عن موقف المؤسسات الإسلامية والحكومات المحلية من هذه القضية في ذلك العهد.
قال الرحالة روبنسن المشهور، الذي زار القدس عام 1838 ما نصه: «مباح لليهود أن يشتروا حق الدنو من مركز هيكلهم، وحق الصلاة والبكاء على خرابه وتبدد أمتهم.»
وقال القنصل فن الإنكليزي الذي تولى إدارة القنصلية البريطانية في القدس، ما بين سنة 1845 وسنة 1863 ما ملخصه: «يدفع الحاخام باشي إلى الأفندي الذي يجاور المبكى ثلاثمائة ليرة إنكليزية كل سنة، بدل الإذن له ولليهود معه أن يصلوا هناك.» ولعل الأفندي المشار إليه هنا هو وكيل وقفية أبي مدين، كما في الوثيقة التي نحن بصددها. هذا ولا يخفى ما كان يؤديه اليهود من هذا القبيل إلى السلطات الوثنية، فالمسيحية قبل دخول المسلمين إلى هذه البلاد. أما رتر الإلماني، الذي عاصر زمن الوثيقة، والذي وضع مؤلفه العظيم، عن جغرافية فلسطين، حوالي سنة 1845، فإنه يقول: إن قسما مهما من مساكن اليهود نفسها، ببيت المقدس، كان ملك الحرم الشريف.
ومن يطالع رحلات الفرنجة في هذه البلاد، حوالي سنة 1840، يجد أن قسما من اليهود آنئذ، في أوروبا وأميركة وفلسطين، كان ينتظر مجيء المسيح وجمع الشمل كما ورد في بعض الأسفار المقدسة، وكان بعضهم يعلق الآمال الكبيرة على كلام دانيال النبي، في الإصحاح الثامن من سفره الكريم؛ حيث يقول: «فسمعت قديسا يتكلم قال قديس لفلان الذي يتكلم معه إلى متى الرؤيا رؤيا المحرقة الدائمة والمعصية المدمرة، وحتى متى يجعل القدس والجند مدوسين. فقال لي إلى ألفين وثلاثمائة مساء وصباح ثم يطهر القدس.» كان بعضهم يعلق الآمال الكبيرة، على هذه النبوة، فيقول: إن المراد باليوم فيها هو السنة، وأن المدة تبتدئ من سنة 456ق.م لقوله تعالى: «إن سبعين عاما حددت على شعبك وعلى مدينة قدسك.» فيضيفون أربع سنوات إلى التاريخ المسيحي لأجل تصحيحه ويجمعون 456 مع 1844 (السنة 1840 المصححة) فيصير العد 2300 كما في النبوة.
وكان هذا البعض من اليهود يعتقد أيضا أنه لا بد من تعمير المدينة المقدسة وتجديد بناء الهيكل، كما ورد في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر حزقيال النبي؛ حيث يقول: «وآخذكم من بين الأمم، وأجمعكم من جميع الأراضي، وآتي بكم إلى أرضكم ... وأسكنكم في المدن، وتبنى الأخربة.»
ووافق هذا المعتقد مجيء السر موسى مونتوفيوري، الأراضي المقدسة، وإكثاره من العطاء كما تنص على ذلك الأصول التاريخية، وكما تشهد به المستعمرة التي لا تزال تحمل اسمه حتى هذه الساعة.
وإذا تذكرنا أن هؤلاء اليهود عاشوا في عقد من الزمن، كثر فيه تسامح الحكومة المصرية وتساهلها إذا تذكرنا كل هذه الأمور، سهل علينا الاستئناس بأمر التبليط في الوثيقة الدزدارية، واضطررنا أن نرى في موافقة التاريخ لمضمونها دليلا آخر على أصليتها.
ولنا في موافقة مضمون هذه الوثيقة، لما جاء في محفوظات سراي عابدين الملكية دليل آخر على صحتها وعدم تزويرها. فالمحفظة 259 من محافظ عابدين تحفظ لنا شكوى شيخ المغاربة في القدس في سنة 1256 على اليهود في موضوع الوثيقة التي نحن بصددها، وقد حفظ لفا مع هذه الشكوى قرار طويل لمجلس شورى القدس في الموضوع نفسه، وفي هذا القرار بيان واضح لحق المغاربة واعتداء اليهود، وبين إمضاءات أعضاء المجلس إمضاء لممثل الطائفة اليهودية فيه، فتأمل.
فبناء على ما نعرفه من نوع ورق هذه الوثيقة، وقاعدة خطها، وأسلوب إنشائها وطريقة تاريخها وختمها، وبناء على موافقة النصوص التاريخية لمضمونها، نرانا مضطرين أن نقول بأصليتها وعدم تزويرها.
Неизвестная страница